معضلة «التطرّف والاعتدال» في علاقة إسرائيل بمحيطها العربي


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 5780 - 2018 / 2 / 7 - 11:24
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



تنعم الدولة الصهيونية منذ مدة بأفضل وضع استراتيجي عرفته منذ تأسيسها، حسب العميد (احتياطي) أودي ديكل، مدير «معهد دراسات الأمن القومي»، أبرز مركز إسرائيلي للأبحاث الاستراتيجية، في تصريح نقلته عنه صحيفة «جيروزاليم بوست» بتاريخ الأول من شباط / فبراير الماضي.
غير أنه، وخلافاً لما قد يظن القارئ، لم يقصد العميد حماس الإدارة الأمريكية الحالية في نصرتها لدولة إسرائيل. فهو يدرك أن تلك النصرة مضمونة لدولته منذ أن غدت وكيلة واشنطن الاستراتيجية بامتياز في الشرق الأوسط في وجه التجذّر اليساري الذي شهدته الحركة القومية العربية بريادة مصر الناصرية في ستينيات القرن المنصرم. ومما عزّز ذلك الانعطاف اضطرار الولايات المتحدة آنذاك إلى التخلّي عن قاعدتها الجوّية في الظهران، في عقر منطقة النفط الرئيسية في الجزيرة العربية (كانت القاعدة تحمي الدويلة الأمريكية التي شكّلتها شركة أرامكو داخل الدولة السعودية).
وإذا صحّ أن قيمة إسرائيل الاستراتيجية انخفضت شيئاً ما في مطلع التسعينيات، عندما عادت القوات الأمريكية إلى الانتشار على الأرض في منطقة الخليج بما فاق بكثير ما شهدته أي مرحلة مضت، فإن «النظام العربي الجديد» الذي هلّلت له إدارة الرئيس جورج بوش الأب والذي ظنّ خلفه بيل كلنتون أنه دعّمه من خلال التسوية السورية / السعودية في لبنان والتسوية الإسرائيلية / الفلسطينية في أوسلو وبعدها واشنطن، ذلك «النظام العربي الجديد» ما لبث أن انهار بحيث تجلّت من جديد القيمة الاستراتيجية العليا للدولة الصهيونية في المنظومة الإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط. فحتى باراك أوباما، الذي خشيته إسرائيل لما كان معروفاً عنه من مواقف متعاطفة مع القضية الفلسطينية سبقت حملته الرئاسية، ناهيكم من انحداره من أب أفريقي ومسلم، حتى أوباما نفسه كان وفياً تماماً لمستلزمات الاتكال الاستراتيجي الأمريكي على إسرائيل.
أما ميزة دونالد ترامب وإدارته فهي أنهم أول حكومة أمريكية تنتصر لأقصى اليمين الصهيوني في تاريخ دولة إسرائيل، وليس إلى «أمن» هذه الدولة وحسب. فبعد عقود عديدة من تفضيل واشنطن للصهاينة «المعتدلين» على منافسيهم المتطرّفين، لأن هؤلاء يعقّدون التعاون بين حلفاء أمريكا العرب وحليفتها الإسرائيلية بينما أولئك يسهّلونه، ها أن إدارة أمريكية جديدة تُبدي انحيازاً مكشوفاً لأقصى اليمين الصهيوني المتربّع على الحكم بزعامة بنيامين نتنياهو. والحال أن أودي ديكل ليس من أنصار نتنياهو، بل عمل مع منافسه إيهود أولمرت عندما ترأس هذا الأخير حكومة صهيونية انصبّت على خوض الحرب ضد «حزب الله» اللبناني و«حماس» الفلسطينية بينما كانت توطّد علاقتها بمحمود عبّاس و«السلطة الفلسطينية».
فإن العميد ديكل خبيرٌ في لعبة «التطرّف والاعتدال»، لكن ليس في الساحة الإسرائيلية، بل في الساحة الإقليمية. وهو ينطلق من الإجماع الصهيوني على ضرورة توطيد علاقة دولة إسرائيل بجيرانها «المعتدلين» العرب، الذين درجت العادة في الماضي على تسميتهم «عرب أمريكا»، وعلى رأسهم المملكة السعودية ومصر وفي ذيلهم «السلطة الفلسطينية». وقد شنّت حكومة أولمرت حربيها على لبنان وقطاع غزّة وهي تراهن على تأييد غير معلن من طرف «المعتدلين» العرب على عدوانها ضد «المتطرّفين»، متوخية تدعيم جبهة إقليمية مستورة ضد طهران، رأس حربة «المتطرّفين».
انسجاماً مع هذا المنطق، فإن صعود «التطرّف» الإقليمي خلال السنين القليلة الأخيرة، مع بسط إيران سيطرتها على المساحة الممتدّة من أراضيها حتى البحر المتوسط، ذلك الصعود قد حفز بقوة تعاون «المعتدلين» العرب مع الدولة الصهيونية، الذي بدا حتى نهاية العام الماضي وكأنه سائرٌ نحو الخروج إلى العلن. وقد تكاثرت الأخبار والتقارير عن التعاون العسكري والسياسي بين دولة إسرائيل، من جهة، وكل من نظام السيسي والمملكة السعودية من الجهة الأخرى.
غير أن قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة الصهيونية جاء ليعقّد الأمور في نظر العميد الإسرائيلي أودي ديكل. ومما يزيد من أسف هذا الأخير أن الأمر يأتي في وقت تحتاج فيه إسرائيل في نظره إلى التصدّي للامتداد الإيراني على حدودها الذي لا يني يتعاظم عدداً وعتاداً. وهو يرى أن الصدام القادم في لبنان قد يشعل المنطقة بأسرها مع دخول إيران المباشر في المعركة من الأراضي السورية، وحثّها «حماس» على إطلاق الصواريخ من قطاع غزّة كما حصل في عام 2006. وقد انتقد ديكل أداء حكومة نتنياهو في هذا الظرف الخطير، ولاسيما توصيدها الباب أمام «حلّ الدولتين» بدل خلق شروطه على الأرض، إذ يرى أن المسألة الفلسطينية هي حجر العثرة الوحيد أمام انتقال التحالف بين الدولة الصهيونية وجيرانها «المعتدلين» إلى العلن. وفي هذا الإطار فإن مسألة القدس تزيد الأمور تعقيداً إذ أن العميد يستطيع تصوّر فتح المملكة السعودية لسفارة لها لدى إسرائيل، لكن «ليس في القدس، بل في تل أبيب» على حد قوله.
ويعبّر أودي ديكل عن رأي منتشر في المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية لدى القطاع الواسع الممتعض من رئيس الحكومة الحالي. أما الحقيقة فهي أن «المعتدلين» جميعاً كان «اعتدالهم» المزعوم غارقاً في التطرّف الرجعي إلى حد أنه دعّم سائر «المتطرّفين»، ليس في بلدانهم وحسب، بل وفي عموم الشرق الأوسط.