صراعات على منصب بلا سلطة: السجال حول تعيين محمد مصطفى


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 7922 - 2024 / 3 / 20 - 09:52
المحور: القضية الفلسطينية     


بتعيينه لمحمد مصطفى رئيساً لمجلس وزراء «السلطة الفلسطينية» أراد محمود عبّاس أن يلبّي دعوة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى «إعادة إحياء» سلطة رام الله. وبالطبع، لم يخطر في بال عبّاس أن الأكثر حاجة إلى إحياء بين مناصب «السلطة» هو منصبه هو بالذات، إذ لا زال متربعاً عليه منذ أكثر من 19 عاماً وقد تولاه بالأصل وهو على عتبة السبعين من العمر، ناهيك من أنه فقد شرعيته الانتخابية منذ انتهاء ولايته قبل 15 عاماً مع حؤوله المستمر مذّاك وبشتى الحجج دون إجراء انتخابات جديدة.
بل رأى عبّاس كالعادة أن التجديد يكون في منصب رئيس الحكومة، فطلب من محمد اشتية الذي عيّنه قبل خمس سنوات أن يقدم استقالته، تمهيداً لتعيينه رجل الأعمال محمد مصطفى، وهو خبير اقتصادي سبق له أن تولّى مناصب استشارية في مؤسستي الاستثمار الكويتية والسعودية قبل تولّي إدارة «صندوق الاستثمار الفلسطيني» كما عمل مستشاراً اقتصادياً لدى محمود عبّاس وتولّى منصبي وزير الاقتصاد ونائب رئيس الوزراء في حكومة «السلطة» بل جرى تعيينه أيضاً عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. كل هذا وقد جمع مصطفى ثروة كبيرة من خلال إدارته «شركة الاتصالات الفلسطينية» وهي أكبر مؤسسات الضفة الغربية بعد الحكومة من حيث التشغيل. ومن المعروف أن قطاع الهاتف الخليوي وما يتعلق به هو أحد أهم قطاعات مراكمة الثروات في رأسمالية المحاسيب السائدة في المنطقة العربية، لا سيما لكونه قطاعاً يرتهن من أساسه بترخيص حكومي.
أما رئيس الحكومة المعيّن فقد دشّن منصبه الجديد بنشره مقالاً باللغة الإنكليزية في مجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية، بما يليق برجل أعمال وخبير اقتصادي يزعم أنه «تكنوقراطي» مكلّف بتشكيل حكومة «تكنوقراطية» على شاكلته، يتطلّع إلى نيلها «تأييد المجتمع الدولي». ولهذه الغاية خصّص مصطفى معظم مقاله للتأكيد على نزاهة الحكومة التي سوف يرأسها (من باب «الحوكمة» الصالحة، بلا شك) ونيته إجراء انتخابات ديمقراطية في الضفة وقطاع غزة عندما تسنح الظروف، وهو يصوّر نفسه بوضوح كمسؤول عن إدارة المنطقتين وتوحيد المؤسسات والقوانين فيهما. وإذ يرى مصطفى أن الأولوية لدى حكومته سوف تكون «العمل مع الشركاء الإقليميين والدوليين لتأمين وقف فوري ودائم لإطلاق النار» لم يخصّص لإنهاء الاحتلال سوى إشارة سريعة خاطفة في عبارة وصفت المسار الذي يتوخّى «رسمه».

أما الفصائل الفلسطينية المعارضة لمحمود عبّاس، فقد احتجت على تعيين مصطفى وطالبت بتشكيل حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها جميعاً، وكأن «السلطة الفلسطينية» التي يتصارعون عليها تحوز على سلطة فعلية وسيادة، وليست مرتهنة ارتهاناً كاملاً بالاحتلال ودولته الصهيونية التي تسيطر على سبل تمويلها، ناهيك من مصادر التمويل والنفوذ بأيدي من أسماهم مصطفى «الشركاء الإقليميين والدوليين». فعلى ماذا يتصارعون، يا ترى؟ على تقاسم كعكة وهمية مرتهنة بالأصل بمدى التجاوب مع الاحتلال و«الشركاء الإقليميين والدوليين»؟ هل يتصوّرون حقاً أن حكومة تتمثل فيها «حماس» وسائر فصائل المعارضة يمكن أن تحيا وتشرف على إعادة بناء غزة بعد كل الذي حصل؟ أم أنهم يطالبون بأن تكون لهم حصة في الحكومة «التكنوقراطية» المزمع تشكيلها (أي حكومة «أكلة الجبنة» كما عرف مثيلاتها إعمار لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية في عام 1990)؟
لقد بات ملحاً أكثر مما في أي وقت مضى أن تنبثق من الجيل الفلسطيني الجديد قيادة سياسية شابة تزيح كافة الفصائل القديمة التي شاركت جميعاً في مسؤولية الكارثة التي حلّت بفلسطين وشعبها، وتعمل على الإطاحة بالإطار الذي نجم عن اتفاقيات أوسلو سيئة الذكر و«السلطة» التابعة التي نشأت عنها. فمن أجل إحياء النضال الفلسطيني، لا بدّ من قيادة جديدة ديمقراطية تنجم عن انتفاضة شعبية جديدة تعمّ الأراضي المحتلة سنة 1967، إن لم تتخطاها إلى الشتات وأراضي 1948، وتستند إلى لجان شعبية محلية كالتي عرفتاها الضفة والقطاع في ذروة الانتفاضة الكبرى سنة 1988، وذلك باستنباط أساليب تنسيقية جديدة قائمة على وسائط الاتصال الحديثة على غرار ما أنجزته «لجان المقاومة» السودانية، أكثر التجارب تقدماً بين تلك التي عرفتها المنطقة العربية منذ الانفجار البركاني الأول الذي شهدته في عام 2011.
أما عدا ذلك، فإن المؤسسات القائمة، سواء أكانت تلك الحاكمة في الضفة أم تلك السائدة في القطاع، لا تعدو كونها، في واقع الأمر وبحكم الضرورة، مؤسسات تعايش مع الاحتلال وتعاون معه. فلا بدّ من العمل على تخطيها على درب الكفاح ضد الاحتلال بلا مساومة، وفق إدراك استراتيجي يعلم أن التغلّب على الدولة الصهيونية يمرّ بشق مجتمعها ونسج خيوط داخله، مثلما فعلت منظمة التحرير الفلسطينية لما كانت قيادة وطنية قبل صفقة أوسلو، وليس بتوحيده ودفعه إلى تأييد ارتكاب جيشه لإبادة جماعية، وذلك من خلال حسابات خاطئة باهظة الكلفة (أنظر «طوفان الأقصى وخطأ الحساب» على هذه الصفحات، 5/12/2023).