السيسي يفوز بأوسكار أسوأ إدارة اقتصادية


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 7915 - 2024 / 3 / 13 - 09:13
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     

مع كل يوم يمرّ، تزداد وطأة حكم عبد الفتّاح السيسي على رقاب المصريين وتتعاظم الفاتورة التي سوف يتوجب عليهم تسديدها بعد رحيله. والمصيبة أن رحيله لا يلوح في الأفق إذ قامت أجهزة حكمه في نهاية العام الماضي بإخراج (بالمعنى المسرحي للتعبير) تزكية جديدة بعهده، ادّعوا أنها «انتخاب» وقد منح السيسي نفسه من خلالها ست سنوات إضافية من رئاسة مصر بعد السنوات العشر المنصرمة. وهو يطمح بلا شكّ إلى تولّي الرئاسة مدى الحياة، لعلمه أن مصيره سيكون قاتماً للغاية لو تخلّى عن السلطة، وهو ما يفسّر أن أمثاله إما يموتون على كرسي الحكم أو يُزاحون منه بالقوة.
ثمة أنظمة سلطوية وديكتاتورية تعوّض عن كبتها لحريات الناس بإحراز نجاح هام في الإدارة الاقتصادية وتحقيق التنمية، وبالتالي رفع مستوى معيشة شعوبها. وأبرز مثال في هذا المجال نظام الحكم «الشيوعي» الصيني الذي أشرف على عقود من التنمية بوتائر قياسية وقضى على الفقر المدقع الذي كان يعاني منه ثمانون في المئة من شعبه، بل جعل ثمانين في المئة من الصينيين يحوزون على مدخول للفرد يفوق ما يعادل القدرة الشرائية لخمسة دولارات باليوم الواحد بعدما كانوا جميعاً تحت هذا الخط، مع ارتقاء ما يناهز ثلث سكان الصين إلى مستوى معيشي يصنَّف في مرتبة «الطبقة الوسطى».
أما نظام السيسي فقد نجح في تحقيق أعظم هبوط في مستوى معيشة المصريين في تاريخ الجمهورية المصرية، بحيث يقدَّر أن أكثر من نصف السكان باتوا تحت خط الفقر، لا سيما من خلال التخفيضات المتتالية لسعر صرف الجنيه وصولاً إلى تحريره. وقد انهارت العملة المصرية في عهد السيسي من سبعة جنيهات للدولار الواحد لمّا استولى على الحكم إلى ما يناهز خمسين جنيهاً اليوم، الأمر الذي ترافق بارتفاع هائل للأسعار، ومنها أسعار المواد الغذائية التي زاد معدل ارتفاعها السنوي عن الخمسين في المئة وفق أحدث البيانات. أما سرّ هذا الهبوط المستمر في قدرة المصريين الشرائية، فهو في إدارة للاقتصاد بالغة السوء قامت على الاستدانة، مستفيدة من استعداد الأنظمة الخليجية والولايات المتحدة الأمريكية على تمويل حكم السيسي بوصفه حليفاً إقليمياً أساسياً لها.


ولو كانت استدانة بغية الاستثمار في مشاريع إنتاجية لتمكنت من إحراز تقدم هام في تنمية مصر وزيادة ناتجها المحلي الإجمالي، وبالتالي رفع مستوى معيشة المصريين وقدرتهم الشرائية. لكنّها استدانة جرى توظيفها لصالح مشاريع «فرعونية» بلا جدوى، وأبرزها «العاصمة الإدارية الجديدة» بحيث كان تأثيرها في الاقتصاد محدوداً زمنياً بمدة البناء، يستفيد منها بالدرجة الأولى القائمون على تنفيذها، من معاشات العاملين في البناء في أسفل السلّم إلى أرباح واختلاسات المشرفين عليه في أعلاه، سواء أكانوا من القطاع العام، ولا سيما المؤسسة العسكرية المهيمنة، أم من القطاع الخاص (أنظر على هذه الصفحات «في إخفاق المشروع الفرعوني في مصر» 18/7/2023).
لا بل شهدت مصر في السنوات الأخيرة بحفز من تراكم الدين العام ممارسات اقتصادية شبيهة بأشكال المضاربة المالية التي أشرف عليها المصرف المركزي اللبناني والتي أدت إلى تحقيق حفنة من المضاربين أرباحاً طائلة على حساب السواد الأعظم من السكان، إلى أن انهار الاقتصاد اللبناني انهياراً مروّعاً مرفقاً بسطو الجهاز المصرفي على ودائع الناس. وقد عرفت مصر مثل لبنان جمعاً بين أسعار فائدة بالغة الارتفاع على الديون قصيرة الأجل وحفاظ اصطناعي على سعر صرف للجنيه لم يعد يتناسب مع قدرته الشرائية الفعلية، بينما فاقت مديونية مصر الداخلية والخارجية ناتج البلاد المحلي الإجمالي.
وقد أدّى الأمر بالسيسي إلى التسوّل منذ بداية العام الماضي لدى الأنظمة الخليجية والبلدان الدائنة، من أمريكا إلى الصين، راجياً منهم نجدة نظامه، واصطدم بامتعاض الدائنين والمانحين من ابتلاع مصر للمساعدات بدون إحرازها أي تقدم في تخطّي الحالة التي تخلق حاجتها إلى المساعدات، بل مع ازدياد تلك الحاجة باستمرار. فزادوا في قسوة الشروط التي يفرضونها لقاء استمرارهم في ضخ الأموال في الاقتصاد المصري، ومن هذه الشروط الخاصة بالخليجيين حصولهم على مساحات متزايدة من أرض مصر، على غرار الصفقة المعقودة مع الإمارات العربية المتحدة التي حازت فيها هذه الأخيرة على جزء من الساحل الغربي المصري لقاء ضخّها مبلغ 35 مليار دولار في اقتصاد البلاد. وقد شكّلت تلك الصفقة، مضافة إلى تحرير سعر صرف الجنيه وإجراءات تقشفية جديدة، مدخلاً كان لا بدّ منه لقبول صندوق النقد الدولي منح مصر قرضاً جديداً بمبلغ 8 مليارات دولار.
والحقيقة أن السلطات الاقتصادية الدولية فاقدة تماماً للثقة بقدرة نظام السيسي على إصلاح نفسه وإخراج مصر من دوامة الأزمات التي أوقعها فيها، لكنّ تلك السلطات تخشى أن يؤدّي الانهيار الكامل للاقتصاد المصري إلى حالة ثورية في البلاد من شأنها أن تعرّض المنطقة برمّتها لمزيد من الفوضى. ذلك أن مصر ليست لبنان ولا يمكن النظام الإقليمي والدولي، الاقتصادي والسياسي، أن يمارس حيالها مثل اللامبالاة التي مارسها حيال الانهيار اللبناني. هذا ما لخّصته مجلة «ذي إيكونومِست» قبل أسابيع في مقال تحت عنوان: «مصر لا تستحق التعويم، لكن ينبغي أن تحصل عليه» (1/2/2024). وقد رأى المقال أنه «ليس بوسع منطقة الشرق الأوسط الموسّعة، التي تحترق أصلاً، أن تتحمل أيضاً انفجاراً في مصر». وخلص إلى أنه «يجب على العالم أن يمسك على أنفه ويعوّم مصر مرة أخرى». فالويل لبلد بات مصيره الاقتصادي رهناً بمثل هذه الاعتبارات، والويل لبلد يخضع لحكم يقوده إلى الهلاك الاقتصادي!