خواطر ثائرة إزاء منطقة مستباحة


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 7859 - 2024 / 1 / 17 - 10:03
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

إنها لصدفة من النوع الذي يصدم الخيال: في ليل الإثنين إلى الثلاثاء، قامت كل من إيران وتركيا بقصف أراضي العراق وسوريا كأنهما نسّقتا ضرباتهما، بينما تستمر الولايات المتحدة بقصف الأراضي اليمنية، فيما يتواصل العدوان الصهيوني على غزة، وقد تخطّى عتبة مئة يوم من الإبادة والتدمير والتهجير بمرأى ومسمع أنظمة عربية أبدت من التعاطف مع شعب فلسطين المنكوب أقل بكثير مما أبدته دول نائية مثل أفريقيا الجنوبية أو بعض دول أمريكا اللاتينية. وكأن كلام مظفّر النوّاب في «وتريات ليلية» قبل ما يزيد عن نصف قرن، كُتب من أجل غزة اليوم. تلك القصيدة التاريخية المتوفرة على الإنترنت، والتي لا يمكن نشرها أو إذاعتها في وسائل الإعلام لما جاء فيها من بذاءة متعمدة، تنطبق على أسياد النظام العربي الراهن أكثر بعد مما انطبقت على أسلافهم، أولئك الذين أسماهم الشاعر آنذاك «الشرطة الحاكمين».
إن المنطقة العربية منطقة مستباحة حقاً وبمعنيي التعبير: إنها مستباحة بمعنى أن الاحتلال والفتك فيها مُجازان، يطعنها جيرانها كما تطعنها القوى العظمى، أمريكا وروسيا وسواهما، وهي بالتالي مستباحة بمعنى أنها محطّمة مثل بستان خرّبته العاصفة. وكيف لا؟ وقد بات المشرق العربي منطقة تصول وتجول فيها قبائل مسلّحة، سواء تخاصمت ضمن حدود الدولة الواحدة أم استأثرت إحداها بالحكم وبات شغلها الشاغل فرض تسلّطها على مجتمعها ودولتها بما لا يختلف عن ممارسة القبائل الأخرى لسلطتها، كلّ واحدة منها على مساحة هيمنتها. لبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان: ستّ دول «فاشلة» خاضعة لشتى أصناف القبائل المسلحة، تجاورها دول ليست «ناجحة» سوى بمعنى أن قبيلة واحدة أفلحت في التسلّط على الحكم فيها (أو بالأحرى لا تزال مفلحة حتى أجل غير مسمّى) تمارسه على طريقة «الشرطة الحاكمين» في الداخل ولا تهتم خارج حدودها سوى بما يهدد بتعكير صفو أمنها.


إن الحالة المزرية هذه ليست وليدة «مؤامرة خارجية» كما يتصوّر الذين لا زالوا يردّدون مقولة نُسبت إلى وزيرة الخارجية في إدارة جورج دبليو بوش قبل عشرين عاماً، مقولة ترى أن «فوضى خلّاقة» من شأنها إخراج المنطقة العربية من انحطاطها الاستبدادي (تلك العبارة جاءت في الحقيقة في مقال لمايكل لِدين، أحد الكتبة المحافظين الجدد، نُشر إثر اعتداءات تنظيم «القاعدة» على نيويورك وواشنطن). بل إن الانحطاط الاستبدادي هو الذي ولّد الفوضى في هذه المنطقة، وهي فوضى ليست خلّاقة سوى لمزيد من الانحطاط. وما كانت الانتفاضة الكبرى، التي دخلت التاريخ في عام 2011 تحت اسم «الربيع العربي» سوى نتاج طبيعي لعقود من الكبت وانحطاط الظروف المعيشية في ظلّ أنظمة استبدادية فاسدة.
فكل من يتصوّر أن ثمة حاجة لمؤامرة خارجية من أجل أن تهبّ الشعوب ضد أمثال زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمّر القذافي وعلي عبد الله صالح وحمد بن عيسى وبشار الأسد، وبعدَهم عمر البشير وعبد العزيز بوتفليقة وحكم الميليشيات في العراق ودولة المصارف في لبنان، ناهيكم من الاحتلال الصهيوني البشع، إنما يليق به مثل هؤلاء الحكام وتناسبه مثل هذه الحالات. والمصيبة أن الإخفاقات والانتكاسات المتتالية التي لحقت بثورات شعوب المنطقة أدت اليوم إلى ثبط عام في العزيمة وصل إلى حدّ أن مشهداً رهيباً مثل مشهد شعب غزة في مواجهة أعظم المحن لم يعد يولّد سوى بعض التظاهر هنا وهناك على خلفية قلة اكتراث حكومات عربية أباحت غزة مثلما أباحت سائر المنطقة، ولم تستخدم سلاحها الأمضى في الضغط على الدول الداعمة للعدوان الصهيوني، قصدنا سلاح النفط بالطبع، بل رفضت حتى التلويح به بما جعلها متواطئة مع العدوان ولها ضلع فيه.
لكنّ الإحباط لن يدوم بالتأكيد، وسوف تشهد هذه المنطقة المستباحة انتفاضات جديدة لا محال، ذلك أن أوضاعها الاجتماعية والسياسية في تردٍّ مستمر. فلا عودة ممكنة إلى زمن «الاستقرار الاستبدادي» الذي عرفته المنطقة خلال العقود الثلاثة أو الأربعة التي سبقت الانفجار الكبير في عام 2011، بل أمامها طريقان لا ثالث لهما: إما تستمر في الغرق في حالة الهمجية التي تسود اليوم قسماً كبيراً منها، أو تنشأ فيها «حراكات» شعبية ديمقراطية جديدة تتمكن من تحقيق النصر بعد أفشال السنوات الماضية، بحيث تفلح في بناء نظام إقليمي جديد قائم على سيادة الشعب التي لا سيادة وطنية حقيقية بدونها.