حرب إسرائيل على غزة والنكبة الثانية: “أبيدوا جميع الهمج !”


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 7772 - 2023 / 10 / 22 - 09:39
المحور: القضية الفلسطينية     

في الأيام القليلة الماضية، جسدت غزة الانقسام العالمي بين الشمال والجنوب أكثر من أي صراع آخر في التاريخ المعاصر. إن الإجماع الفاحش للحكومات الغربية على التعبير دون تحفظ عن دعمها غير المشروط للدولة الإسرائيلية – في نفس اللحظة التي شرعت فيها إسرائيل بالفعل وبكل وضوح في حملة من جرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني بحجم لم يسبق له مثيل على مدى 75 عامًا من تاريخ الصراع الإقليمي- أمر مثير للاشمئزاز حقاً. منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، تتنافس هذه الحكومات الغربية مع بعضها البعض في هذا المسعى، بدءًا من رفع العلم الإسرائيلي على بوابة البرلمان الألماني في برلين، وبرلمان لندن، وبرج إيفل في باريس، والبيت الأبيض في واشنطن، وصولاً إلى إرسال معدات عسكرية إلى إسرائيل، فضلاً عن إرسال تعزيزات بحرية أمريكية وبريطانية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط في بادرة تضامن مع الدولة الصهيونية، وصولاً لحظر أشكال مختلفة من التعبير عن الدعم السياسي للقضية الفلسطينية، وبالتالي تقليص الحريات السياسية الأساسية.

كل هذا يحدث في وقت وصل فيه الخلل وانعدام التوازن المعتاد في تقارير وسائل الإعلام الغربية عن إسرائيل وفلسطين إلى ذروته. كالعادة، ظهر الإسرائيليون المكلومون، والنساء على وجه الخصوص، بغزارة على الشاشات، وهو ما يفوق بما لا يقاس ما ظهر من صور الفلسطينيين المكلومين على هذه الشاشات في أي وقت مضى. تسببت عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حماس بطوفان من صور العنف ضد الناس العزل، مع التركيز بشكل خاص على الحفلة الشبابية التي تعرضت للهجوم في ذلك اليوم، لأنها مماثلة لتلك التي يتم تنظيمها عادة في الدول الغربية، وذلك لإبراز “التعاطف النرجسي … الذي تثيره المآسي التي تضرب الناس الذين يبدون مثلنا أكثر من مما تثيره تلك المآسي التي تصيب الناس الذين لا يشبهوننا”. أما العنف الإسرائيلي الأوسع نطاقاً والذي يقصف المدنيين في غزة منذ أن شنت حماس عمليتها فقد حظي بقدر أقل بكثير من التغطية الصحفية، ناهيك عن إدانته. حتى أن جريمة حرب صارخة مثل الحصار التام بقطع المياه والغذاء والوقود والكهرباء الذي فُرض على سكان يبلغ عددهم 2.3 مليون نسمة في غزة، والانتهاك الصارخ للقانون الإنساني المتمثل في إصدار الأمر لأكثر من مليون مدني بمغادرة مدينتهم وبيوتهم أو مواجهة الموت تحت أنقاض مساكنهم، هو أمر يتم التغاضي عنه من قبل القادة السياسيين الغربيين البارزين ووسائل الإعلام الغربية الكبرى.
في رواية “قلب الظلام” للكاتب جوزيف كونراد، يرسل الشخصية المتخيلة كورتز تقريرًا إلى ما سمي في الرواية “الجمعية الدولية لقمع العادات الوحشية” ينتهي بخاتمة مرعبة: «أبيدوا جميع الهمج!». يبدو في هذه الأثناء أنه تم إعادة تشكيل هذه الجمعية المتخيلة، ولقد وجد وصف كورتز بالفعل ما يعادله في التصريح المشؤوم لوزير “الدفاع” الإسرائيلي يوآف غالانت: “لقد أمرت بفرض حصار كامل على قطاع غزة. لن يكون هناك كهرباء، لا طعام، لا وقود، كل شيء مغلق… نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقا لذلك”.
لم يكن من المستغرب أن تردد وسائل الإعلام الغربية صدى وسائل الإعلام الإسرائيلية في تصوير عملية حماس باعتبارها الهجوم الأكثر فتكاً الذي استهدف اليهود منذ المحرقة، وذلك استمراراً للنمط المعتاد من صبغ الفلسطينيين بالطابع النازي من أجل تبرير تجريدهم من إنسانيتهم وإبادتهم. ولكن الحقيقة هي أنه على الرغم من فظاعة بعض جوانب عملية حماس، فإنها لا تشكل استمراراً للعنف الإمبريالي النازي بأي منظور تاريخي ذي معنى. بل إنها تندرج في حلقتين تاريخيتين مختلفتين تمامًا: حلقة نضال الفلسطينيين ضد التجريد والقمع الاستعماري الإسرائيلي، وحلقة نضال شعوب الجنوب العالمي ضد الاستعمار. إن المفتاح إلى العقلية الكامنة وراء تصرفات حماس لا يمكن العثور عليه في كتاب “كفاحي” لأدولف هتلر، بل في كتاب فرانز فانون “المعذبون في الأرض” ـ وهو التفسير الأكثر شهرة لمشاعر المستعمَرين، من قِبَل مفكر سياسي كان أيضاً طبيباً نفسياً. تحدث فانون عن نضالات المستعمَرين ضد الاستعمار الفرنسي، والجزائريين على وجه الخصوص. وأوجه التشابه مع يجري اليوم ملفتة للنظر:
“إن المستعمَرين، الذين قرروا تحويل أجندة تحطيم الاستعمار إلى قوة دافعة، كانوا مهيئين للعنف منذ زمن سحيق. منذ ولادتهم أدركوا إدراكًا واضحًا أن عالمهم الضيق، المليء بالمحرمات، لا يمكن تحديه إلا عن طريق العنف الشامل.…
إن العنف الذي كان يحكم نظام العالم الاستعماري … سيطالب به الآن المستعمَر ويستولي عليه عندما يندفع المستعمَرون، آخذين التاريخ بأيديهم، إلى تلك المدن المحرمة عليهم. إن تحطيم العالم الاستعماري إلى قطع صغيرة أصبح من الآن فصاعدا صورة واضحة بينة المعالم في متناول ومخيلة كل فرد من أفراد الشعب المستعمَر.
ومع ذلك، فإن النتيجة غير متكافئة إلى حد كبير، ذلك أن القصف بالرشاشات من الطائرات أو القصف بالمدافع من الأسطول البحري يفوقان ردود فعل المستعمَر في الهول والرعب، ومن شأن هذه الحركة الباندولية للارهاب والإرهاب المضاد أن تبدد الأوهام من رؤوس أكثر المستعمَرين اغترابًا وتوهمًا. فإنهم يرون بأنفسهم بشكل مباشر أن جميع الخُطب التي تلقى عن المساواة بين جميع البشر، لا يمكنها أن تخفي سخافة حقيقة أن الرجال الفرنسيين السبعة الذي قتلوا أو جرحوا في كمين مضيق ساكامودي، أثار استنكار الضمائر المتحضرة، في حين أن أحدًا لم يعبأ بتدمير قرى جرجورة وجرة الجزائرية ولا بمذبحة السكان الذي كانوا سبب الكمين”.

هل كانت بعض الأعمال التي ارتكبها مقاتلو حماس خلال عملية طوفان الأقصى “إرهابية”؟ إذا كان المقصود بكلمة “الإرهاب” القتل المتعمد لأناس عزل، فقد كانت كذلك بالتأكيد. ولكن أيضًا، القتل المتعمد لآلاف وآلاف من المدنيين في غزة على مدى السنوات السبعة عشر الماضية – منذ عام 2006، بعد بضعة أشهر فقط من إخلاء إسرائيل قطاع غزة للسيطرة عليه من الخارج، معتقدة أن التكلفة ستكون أقل من السيطرة عليه من الداخل- هو إرهاب أيضًا. لقد تسبب إرهاب الدولة بالفعل في خسائر بشرية عبر التاريخ أكبر بكثير من تلك التي تسبب بها الإرهاب الذي ارتكبته جماعات مسلحة غير تابعة للدولة.
وكذلك الأمر، هل كانت بعض الأفعال التي ارتكبها مقاتلو حماس بمثابة أعمال “همجية”؟ لا شك في ذلك، لكنها كانت بلا شك جزءًا من صراع الهمجيات. واسمحوا لي أن أقتبس هنا مما كتبته عن هذا الأمر قبل أكثر من عشرين عاما، في أعقاب هجمات 11 سبتمبر:
“إذا أخذنا كل واحد منها على حدة، يمكن الحكم على كل عمل همجي بأنه يستحق الشجب على حد سواء من وجهة النظر الأخلاقية. ولا يمكن لأي أخلاقيات متحضرة أن تبرر القتل المتعمد لغير المقاتلين أو الأطفال، سواء كان ذلك بشكل عشوائي أو متعمد، من خلال إرهاب الدولة أو منظمات إرهابية غير حكومية…
ومع ذلك، ومن وجهة نظر العدالة الأساسية، لا يمكننا أن نغلف أنفسنا بأخلاقيات ميتافيزيقية ترفض جميع أشكال الهمجية بالتساوي. إن الهمجيات المختلفة لا تحمل نفس الوزن في ميزان العدالة. لا شك أن الهمجية من غير الممكن أبداً أن تكون أداة شرعية “للدفاع المشروع عن النفس”، فهي دائمًا غير شرعية بحكم تعريفها. لكن هذا لا يغير حقيقة أنه عندما تتصادم همجيتان، فإن الأقوى بينهما، التي تقوم بدور المضطهِد، لا تزال أكثر عرضة لتكون تحت طائلة اللوم والتذنيب. وباستثناء حالات اللاعقلانية الواضحة، فإن همجية الضعفاء تكون في أغلب الأحيان، ومن الناحية المنطقية، رد فعل على همجية الأقوياء، وإلا فلماذا يستفز الضعفاء الأقوياء، معرضين أنفسهم لخطر السحق؟ وهذا، بالمناسبة، هو السبب وراء سعي الأقوياء إلى التهرب من تحمل الذنب من خلال تصوير خصومهم على أنهم مختلين، وشيطانيين، ووحشيين”.

إن المسألة الأكثر أهمية في تصوّر حماس للنضال ضد الاحتلال والقمع الإسرائيلي ليست مسألة أخلاقية، بل سياسية وعملية. فبدلاً من خدمة التحرر الفلسطيني وكسب عدد متزايد من الإسرائيليين إلى صف قضية الشعب الفلسطيني، تعمل استراتيجية حماس على تسهيل الوحدة القومية لليهود الإسرائيليين وتزود الدولة الصهيونية بالذرائع لتصعيد قمع حقوق الفلسطينيين ووجودهم. إن الفكرة القائلة بأن الشعب الفلسطيني قادر على تحقيق تحرره الوطني عن طريق المواجهة المسلحة مع دولة إسرائيلية متفوقة عسكرياً بشكل كبير هي فكرة غير عقلانية. كان الفصل الأكثر فعالية في النضال الفلسطيني حتى يومنا هذا هو فصل نضالي غير مسلح: فقد أثارت انتفاضة عام 1988 أزمة عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي والنظام السياسي والجيش، وكسبت تعاطفًا كبيرًا مع القضية الفلسطينية في العالم، بما في ذلك الدول الغربية.
إن العملية الأخيرة التي نفذتها حماس، والتي كانت الهجوم الأكثر “إدهاشًا” على الإطلاق الذي شنته على إسرائيل، وفر لإسرائيل الفرصة للقيام بما هو أكثر من النمط المعتاد من الانتقام الوحشي الدموي في إطار دورة ممتدة من العنف والعنف المضاد. إن ما يلوح في الأفق ليس أقل من مرحلة ثانية من النكبة. ويرأس الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي تضم نازيين جُدد، زعيم الليكود، وهو بالتالي وريث الجماعات السياسية التي ارتكبت أسوأ مذبحة ضد الفلسطينيين في عام 1948: مذبحة دير ياسين. قاد بنيامين نتنياهو المعارضة لأريئيل شارون واستقال من الحكومة الإسرائيلية التي ترأسها الأخير في عام 2005، عندما اختار شارون “الانسحاب الأحادي الجانب” لإسرائيل من غزة. وبعد فترة وجيزة، ترك شارون حزب الليكود الذي يقوده نتنياهو منذ ذلك الحين.
ويسعى اليمين المتطرف الإسرائيلي بقيادة الليكود بلا هوادة إلى تحقيق هدفه المتمثل في إقامة إسرائيل الكبرى التي تشمل كامل أراضي فلسطين الانتدابية بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة. فقبل بضعة أيام فقط من عملية حماس، لوح نتنياهو، خلال خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، بخريطة إسرائيل الكبرى ــ في إشارة متعمدة لم تمر دون أن يلاحظها أحد. ولهذا السبب فإن الأمر الذي صدر لسكان شمال غزة بالتحرك جنوباً هو أكثر بكثير من مجرد العذر المنافق المعتاد للتدمير المتعمد للمناطق المأهولة بالمدنيين، في حين يتم إلقاء اللوم على حماس من خلال اتهامها بالاختباء بين المدنيين. (وهو اتهام سخيف بالتأكيد: كيف يمكن لحماس أن تتواجد في البرية، خارج التجمعات الحضرية، دون أن يتم القضاء عليها بسهولة بوسائل الحرب الإسرائيلية المتفوقة؟).

إن ما نشهده الآن هو على الأرجح مقدمة لجولة ثانية من تهجير سكان غزة نحو سيناء المصرية، بنية ارتكاب ثاني أكبر عمل من أعمال غزو الأراضي المصحوب بالتطهير العرقي منذ النكبة، بحجة القضاء على حماس. ولقد تذكر الفلسطينيون على الفور النزوح الجماعي عام 1948، حين فروا من الحرب لكنهم مُنعوا من العودة إلى مدنهم وقراهم. لقد أدركوا أنهم يواجهون الآن في غزة حالة ثانية من التهجير القسري تمهيدًا لمزيد من التجريد والسلب والاستعمار الاستيطاني.
وستكون هذه المرحلة الثانية من النكبة أكثر دموية من المرحلة الأولى: فعدد الفلسطينيين الذين قتلوا حتى وقت كتابة هذا المقال يقترب بالفعل من عدد الذين قتلوا في عام 1948، وما هذه سوى بداية العدوان الإسرائيلي. إن التعبئة الشعبية الحاشدة في الولايات المتحدة وأوروبا لدفع الحكومات الغربية للضغط على إسرائيل لحملها على التوقف قبل أن تحقق أهدافها الخبيثة في الحرب، هي وحدها القادرة على منع هذه النتيجة المروعة. وهذا أمر مُلح للغاية. لا يخطئن أحد: لن يكون من الممكن احتواء الكارثة الوشيكة في الشرق الأوسط، ولكنها ستمتد بالتأكيد إلى الدول الغربية كما كان يحدث منذ عدة عقود – وعلى نطاق أكثر مأساوية هذه المرة.

ترجمة عن الانجليزية: حسن مصاروة