إن يسارا مغايرا ممكنٌ


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 7938 - 2024 / 4 / 5 - 11:44
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


يستند هذا النص إلى كلمة افتتاح ألقاها الكاتب يوم 15 ديسمبر/ كانون أول 2023 في مؤتمر تأسيس منظمة “النضال من أجل الاشتراكية” بدولة جنوب أفريقيا، الذي انعقد في مدينة جوهانسبرغ.

تغير المناخ، وحروب، وحملات إبادة جماعية، واضطرابات اقتصادية: نعيش اليوم في عالم مثير للقلق، يبدو فيه المستقبل قاتما للغاية، بعيدا عن الآمال التي كانت قائمة عند مطلع القرن. إن حالة العالم التعسة هذه تعود بنسبة كبيرة إلى قرارات جرى اتخاذها في العقد الأخير من القرن الماضي. فقد جرى تحديد مصير الأوضاع العالمية الراهنة في تسعينيات القرن العشرين – خلال “اللحظة أحادية القطب” التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، لما كانت الولايات المتحدة مدركة تماما لقدرتها على تحديد معالم الوضع الدولي.

الحرب الباردة الجديدة

اختارت واشنطن في تلك السنوات إدامة هيمنتها العالمية على حساب السلام العالمي. وسعيا وراء هذه الغاية، حرصت الولايات المتحدة على أن تحافظ على استعدادها الدائم للحرب، وأن تجدد ولاء حلفاء زمن الحرب الباردة في أوروبا وشرق آسيا (“مُقطَعو” أمريكا في توصيف زبغنيو بريجينسكي الشهير) من خلال إحياء التوترات الماضية مع كل من روسيا والصين. وقد عاملت واشنطن هذين البلدين وكأنهما عدوان محتملان، مع أن أيا منهما لم يعد يمثل تحديا للنظام الرأسمالي العالمي، إذ اندمج فيه كلاهما. وقد أفضى هذا التوجه الأساسي الذي أقرته واشنطن في التسعينيات إلى ما أسميته مذّاك “الحرب الباردة الجديدة”.

اقترنت هذه السياسة في المجال الاقتصادي بنيوليبرالية جامحة، شملت تشديد الشروط النيوليبرالية التي تمليها المؤسسات المالية الدولية، وبلوغ إمبريالية التجارة الحرة أوجها بتأسيس منظمة التجارة العالمية، وتشجيع واشنطن وحلفائها لاستراتيجية “العلاج بالصدمة” في روسيا ما بعد السوفييتية. ترافق كل ذلك بإهمال أخطار تغير المناخ – ليس عن جهل (إذ كان آل غور نائباً للرئيس بيل كلينتون في تلك السنوات الحاسمة)، بل عمدا بالأحرى، بإدراج التغير المناخي في أسفل ترتيب أولويات إدارة الإمبراطورية أحادية القطب. وقد بلغت الغطرسة الإمبراطورية الأميركية ذروتها إبان رئاسة جورج دبليو بوش والحروب التي شنتها إدارته في أفغانستان والعراق.

المأزق الاقتصادي يستثير تجذرا

تسببت النيوليبرالية الفالتة من عقالها بأكبر أزمة للرأسمالية العالمية منذ “الكساد الكبير” الذي عرفته سنوات ما بين الحربين العالميتين في القرن العشرين. وقد أدى “الركود الكبير” في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى تدخل كثيف للدولة، مستعملة الأموال العامة لإنقاذ النظام المصرفي. وعلى عكس ما اعتقد كثيرون آنذاك، لم تؤدّ هذه الأزمة إلى نهاية النيوليبرالية، بل أدت إلى هجوم نيوليبرالي مجدد. وينطبق الأمر عينه على الأزمة الاقتصادية الكبرى التالية، تلك التي نجمت عن جائحة كوفيد-19 في عام 2020. ذلك أن التحولات النمطية في الاقتصاد التطبيقي ليست تجليات عملية فكرية، بل هي في المقام الأول تعبير عن ميزان القوى الاجتماعية. وما زال ميزان القوى هذا حتى الآن مائلا بشدة لصالح الرأسمالية العالمية على حساب القوى العاملة العالمية، بل ساء الأمر بفعل الأزمتين الاقتصاديتين المتتاليتين، مصحوبتين بارتفاع معدلات البطالة و/أو انتشار ظاهرة “العمال والعاملات الفقراء” في بلدان الشمال العالمي، فأضعف كل ذلك قدرة الطبقة العاملة على المقاومة وكذلك مستوى تنظيمها النقابي. وقد قدمت فرنسا، “البلد الذي وصلت فيه الصراعات الطبقية التاريخية في كل مرة، وأكثر مما في أي بلد آخر، إلى نهاية حاسمة” (فريدريك إنجلز، 1885)، صورة حية عن هذا التطور غير الملائم لميزان القوى الاجتماعية. إن إصلاح أنظمة التقاعد، الذي كان هدفا رئيسيا سعت إليه الرأسمالية الفرنسية طيلة عقود، وجرى إحباطه في العام 1995 بأهم فورة في الصراع الطبقي شهدتها فرنسا منذ العام 1968، ذاك الإصلاح تم فرضه في نهاية المطاف في عام 2023 على الرغم مما أبدت الحركة النقابية الفرنسية من مقاومة بلا هوادة.

إن النتائج الاجتماعية الناجمة عن الأزمة الاقتصادية التي شهدتها أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عززت تجذرا اجتماعيا وسياسيا في اتجاهين متعارضين. فقد حفزت، من جهة، صعود نضالات مقاومة تقدمية على مدى العقد التالي. إن الموجة العالمية من الانتفاضات التي أطلقها بصورة مذهلة “الربيع العربي” في عام 2011، عقبتها نضالات جماهيرية في بلدان مثل إسبانيا واليونان وحتى الولايات المتحدة. وفي العام 2019، شملت موجة عالمية ثانية من الانتفاضات ربيعا عربيا ثانيا وفورات نضالية من شرق آسيا حتى أمريكا اللاتينية، إلى أن خنقتها في نهاية المطاف جائحة كوفيد-19. وجد هذا التجذر التقدمي تعبيرا سياسيا عنه في صعود تيارات جماهيرية مناهضة للنيوليبرالية في بلدان شتى، منها حزب سيريزا في اليونان وحزب بوديموس في إسبانيا، وبشكل غير متوقع، صعود جيرمي كوربين إلى قيادة حزب العمال البريطاني في أعوام 2015-2020 وحملة بيرني ساندرز الرئاسية المدهشة في عام 2016، علاوة على الصعود الانتخابي في فرنسا للحركة التي يقودها جان لوك ميلونشون في سنوات 2017-2022 وموجة جديدة من تغييرات حكومية تقدمية في أمريكا اللاتينية، في بوليفيا وتشيلي وكولومبيا والمكسيك والبرازيل.

الهجوم المضاد السلطوي

بيد أن ميلا نحو التجذر الرجعي وازن هذه الموجة التقدمية، وهو ميل لوحظ صعوده الأولي منذ بداية الهجمة النيوليبرالية. وفيما استمر “الوسط” السياسي يشطح نحو اليمين منذ ذلك الحين، عرف أقصى اليمين طفرة عالمية مع صعود حكومات نيوفاشية في العديد من البلدان، بما فيها قوى كبرى مثل الهند مع ناريندرا مودي، وروسيا مع فلاديمير بوتين، والبرازيل مع جايير بولسونارو، والولايات المتحدة ذاتها مع دونالد ترامب. وقد أكدت هذه التطورات ما عرّفه صامويل هنتنغتون بأنه يشكّل “موجة عكسية” في السيرورة العالمية للتحول السياسي الديمقراطي. وتشمل هذه الموجة المسار الاستبدادي المتصاعد الذي دخلت فيه الصين في عهد شي جين بينغ، الذي أصبح “الزعيم الأعلى” للبلد في العالم 2012.

لقد مال ميزان القوى العالمي بجلاء لصالح التجذر الرجعي. وليس هذا الأمر ناجما عن ظروف موضوعية وحسب، بل هو أيضا، وبقدر كبير، ناتج عن قصور اليسار الذاتي وإخفاقه. وبالفعل، فإن الموجة اليسارية الجديدة التي عرفتها الأعوام الأخيرة قد أعادت إنتاج العديد من المشكلات التي ابتلي بها اليسار في القرن العشرين. وتشمل هذه المشكلات عيوبا معروفة، مثل إعطاء الأولوية للانتخابات، والكبح الذاتي عند المشاركة في الحكومات أو وشوك ذلك، والبيروقراطية والزعامية والذكورية، فضلا عن النزعة الاصطفافية الجديدة، التي – خلافا لسابقتها القديمة القائمة على الاصطفاف التلقائي خلف “المعسكر الاشتراكي” – تتمثل في دعم تلقائي أو امتناع تلقائي عن انتقاد كل من يعارض واشنطن وحلفاءها الغربيين، وفقا للقول المأثور “عدو عدوي هو صديقي”.

هكذا عانى التجذر اليساري من أوجه قصور جسيمة. في الأساس، فشل اليسار في إعادة ابتكار نفسه، عدا استثناءات نادرة مثلتها أشكال نضال جديدة ابتكرتها حركات جماهيرية منبثقة من الجيل الجديد، مثل حركة “حياة السود مهمة” في الولايات المتحدة أو “لجان المقاومة” في السودان. هذا فيما أعاد معظم اليمين الأقصى ابتكار نفسه بصيغة النيوفاشية: فقد تعلم من دروس إخفاق فاشية القرن العشرين، وتكيف ليكون مقبولا من النظام الرأسمالي الحالي ومعترفا به في أوساط الأعمال. ولبلوغ هذه الغاية، اعتنق أقصى اليمين النيوليبرالية بحماس، وأعلن تبنيه للديمقراطية الإجرائية، مع العمل على إفراغها تدريجيا من محتواها بمجرد الوصول إلى الحكم، وذلك بتقليص سلطوي للحريات السياسية وإلغاء شروط التنافس السياسي الأساسية. لقد صعد هذا اليمين الأقصى بحلته الجديدة على النطاق العالمي على حساب التيار النيوليبرالي السائد وعلى حساب اليسار، معتمدا على الاستياء الاجتماعي الذي تولّده النيوليبرالية وموجها إياه في المقام الأول نحو جعل المهاجرين أكباش فداء.

صعود الأخطار

إن الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، بقرار من نظام بوتين المستمر في شطحه نحو أقصى اليمين، منح الحلف الإمبريالي الغربي تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية حفزا قويا. وقد جدد الغزو علة وجود هذا الحلف الأصلية، بتصويره كحلف بين “الديمقراطيات” ضد السلطوية، مع النفاق والكيل بأكثر من مكيالين، اللذين طالما مورسا إبان الحرب الباردة. كما أنه فسح المجال أمام توسع كبير لحلف شمال الأطلسي بانضمام فنلندا والسويد إليه، واستثار زيادة هائلة في الإنفاق العسكري على الصعيد العالمي، بما يستفيد منه منتجو الأسلحة استفادة عظيمة.

وفي حين نجح بايدن بهذا النحو في إبطال التأثير الضار لرئاسة ترامب على العلاقات بين ضفتي المحيط الأطلسي، واصل بشكل أساسي سياسة سلفه الخارجية في مجالين رئيسيين. أولاً، واصل بايدن موقف ترامب المستفز للصين، مع فارق أنه حاول إخفاء دوافع الإمبريالية الأمريكية الاتجارية (المركنتيلية) إزاء تنامي القوة الاقتصادية الصينية، بادعاء الدفاع عن “الديمقراطية” مرة أخرى ضد شطح الصين الاستبدادي في عهد شي جين بينغ. ثانيا، واصل بايدن موقف ترامب المؤيد لإسرائيل بصورة سافرة على الرغم من غياب التجاذب بين إدارته وحكومة أقصى اليمين الإسرائيلية. هكذا تركز اهتمامه على مواصلة “تطبيع” العلاقات بين دول الخليج النفطية وإسرائيل، وبذل جهودا كثيفة لدفع المملكة السعودية إلى اللحاق بالإمارات العربية المتحدة والبحرين في إقامة علاقة مفتوحة مع الدولة الصهيونية. في المقابل، لم تلغِ إدارة بايدن أيا من إجراءات ترامب المؤيدة لإسرائيل، ولم تحاول منع أقصى اليمين الإسرائيلي من توسيع تعدياته الاستيطانية في الضفة الغربية الفلسطينية.

هيأت هذه السياسة إدارة بايدن لتأييد غير متحفظ لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل في غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وهي حرب باتت فعليا أول حرب أمريكية إسرائيلية مشتركة. وبدعمها الهدف المعلن المتمثل في “استئصال حماس”، وهي منظمة جماهيرية حكمت قطاع غزة منذ عام 2007، أيدت إدارة بايدن عمليا، ومعها معظم حليفاتها الغربية، الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها وترتكبها القوات المسلحة الإسرائيلية: مجزرة ذهب ضحيتها عدد هائل من المدنيين، رجالا ونساء، منهم نسبة عالية جدا من الأطفال، وتهجير غالبية السكان العظمى فيما يبلغ مستوى “تطهير عرقي”، وتدمير معظم المنازل بحيث تستحيل عودة السكان إلى المناطق التي هُجّروا منها.

إن مباركة الحكومات الغربية بصورة سافرة لحرب إبادة جماعية مكشوفة تخوضها حكومة من اليمين الأقصى ــ وهو موقف غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية ــ أدت إلى إفقاد الليبرالية الغربية الاعتبار بشكل كبير وكشفت رؤيتها العنصرية للعالم. وقد أتاح ذلك تغيرا نوعيا في تطبيع اليمين الأقصى الأوروبي، لا سيما من خلال إدانة مشتركة لما يزعمون أنه يشكل “معاداة جديدة للسامية”، وقد أصبح قناعا شفافا لمواقف مشتركة كارهة للإسلام بين المعادين التقليديين للسامية والعنصريين البيض الاستعماريين الجدد. والحال أن رد فعل الحكومات الغربية على الهجوم الإسرائيلي على غزة حفز حفزا قويا سيرورة الشطح العالمي نحو اليمين.

من أجل يسار جديد!

في الوقت نفسه، يمثل الغضب العالمي المتزايد إزاء الإبادة الجماعية للفلسطينيين، بما في ذلك الاحتجاجات المتنامية داخل الولايات المتحدة نفسها، أمارة أخرى على استمرار وجود طاقة كبيرة، خاصة بين الشباب، في تأييد القضايا التقدمية من قبيل مناهضة الحروب الإمبريالية والاستعمارية، والعنصرية بجميع أشكالها، والاضطهاد الجندري، والتفكيك النيوليبرالي المستمر لكل المكاسب الاجتماعية التي جرى تحقيقها إبان القرن الماضي، ومناهضة الرأسمالية ذاتها، التي تجردها النيوليبرالية باطراد من عناصر العدالة الاجتماعية التي خففت وطأتها خلال بضعة عقود، وأخيرا وليس آخرا، مناهضة إهمال الحكومات للتغير المناخي وما يترتب عليه من عواقب وخيمة، وهو إهمال يزداد إجراما بمرور الزمن.

من أجل الإمساك بهذه الطاقة وتوجيهها نحو أشكال منظمة من شأنها أن تحسن فعاليتها بشكل كبير وتضفي مصداقية جديدة وأملا مجددا على النضال من أجل تغيير العالم، لا بدّ من إعادة ابتكار المناهضة الاشتراكية للرأسمالية، مع استفادة تامة من دروس هزائم يسار القرن العشرين وتصفية ما تبقى من حسابات إفلاسه التاريخي العظيم. باختصار، من أجل التمكن من إقناع أكبر عدد من الناس بأن “عالما مغايرا ممكن” ــ وهو الشعار المركزي لحركة العولمة البديلة منذ مطلع هذا القرن ــ لا بدّ أولا من إثبات بالأفعال، وليس بالأقوال فقط، أن يسارا مغايرا ممكن. فمن الملحّ بالتالي، وإلى أقصى حد، أن يعيد اليسار ابتكار نفسه.