في النفاق الاستعماري والكيل بمكيالين


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 7775 - 2023 / 10 / 25 - 10:32
المحور: القضية الفلسطينية     


إنه لمشهدٌ مقرفٌ حقاً مشهد الزعماء الغربيين وهم يتسابقون على الوفود إلى دولة إسرائيل لالتقاط صورة مع رئيس وزرائها، ذلك الرجل الذي يحتقره نصف الإسرائيليين على الأقل لفساده وانتهازيته القصوى ونزعته اليمينية المتطرفة، بما جعله يشكل حكومته الأخيرة مع أناس لا يتردد الصهاينة الليبراليون أنفسهم في نعتهم بالنازيين الجدد! إنه لمشهدٌ مقزّز ذاك الذي يتبارى فيه أولئك الزعماء الغربيون على إعلان تأييدهم للدولة الصهيونية و«حقها في الدفاع عن نفسها» متغافلين عن أن القانون الدولي لا يقرّ بمثل هذا الحق للمحتلّ، بل يؤكد أن مقاومة الاحتلال بكافة السبل المشروعة هي عين الحق.
أما الوجه الأفدح لنفاقهم فهو ناتج عن تزامن الحرب الإسرائيلية على غزة الشهيدة مع الحرب الروسية على أوكرانيا. وقد انكشف هكذا على أوضح صورة كيلهم بمكيالين، بين تنديدهم بالحصار الذي فرضته روسيا على بعض المناطق الأوكرانية بأنه يشكل «جريمة حرب» وتبريرهم للحصار الذي تفرضه إسرائيل على شعب غزة المنكوبة بأنه يندرج في حق الدولة الصهيونية المزعوم في «الدفاع عن نفسها» ضد الذين تمارس عليهم أشنع اضطهاد منذ عقود طويلة، ناهيك من أن قسماً كبيراً من أهل غزة جرى بالأصل اقتلاعهم من أرضهم المسلوبة في عام النكبة.
أجمع الزعماء الغربيون على ذلك التبرير المُعيب في وهلة أولى، حتى فرض عليهم ضغط الرأي العام الالتفات إلى فداحة الثناء المكشوف على ما يشكل جرم حرب بامتياز. فها أننا نراهم يغيّرون لهجتهم بعض الشيء ويتظاهرون بالقلق على مصير شعب غزة، وهو تظاهر لا يعدو في رمزيته رمزية تلك الشاحنات العشرين ونيّف التي سمحت سلطات الاحتلال بدخولها غزة والتي لا تشكل سوى قطرة في بحر الاحتياجات الإنسانية التي يعاني منها أهل القطاع. هذا لأن أولئك الزعماء فطنوا فجأة أن موقفهم المخزي من العدوان الإسرائيلي على غزة إنما ينسف مصداقية مساعيهم لإقناع دول الجنوب العالمي بالانضمام إليهم في التنديد بالغزو الروسي لأوكرانيا. والحال أن شعوب الجنوب العالمي لم تنتظر التزامن بين الحربين الروسية والإسرائيلية كي تدرك نفاق الحكومات الغربية، ولا يمكنها أن تنسى أن الولايات المتحدة، قائدة جوقة الحكومات الغربية، ارتكبت في العراق ما يفوق الغزو الروسي من حيث انتهاك القانون الدولي وارتكاب جرائم الحرب.


لذا لم يقتنع أحد في الجنوب العالمي بأن الغرب يؤيد أوكرانيا من منطلق احترامه للقانون الدولي وحرصه على الحقوق الإنسانية، بل أدركت شعوب الجنوب أن التحالف الغربي انتهز فرصة الغزو الروسي كي يُضعف روسيا في أوكرانيا تماماً مثلما انتهزوا سابقاً فرصة الغزو السوفييتي لأفغانستان كي يُضعفوا الاتحاد السوفييتي في ذاك البلد، وكما انتهز الاتحاد السوفييتي قبل ذلك الغزو الأمريكي لفيتنام كي يُضعف الولايات المتحدة فيها. لذا لم تشعر شعوب الجنوب العالمي بالتضامن مع أي من المعسكرين الإمبرياليين العالميين، وإن كانت بغالبيتها معادية بطبيعة الحال لغزوات الدول العظمى للدول الصغرى.
بيد أن تضامن الحكومات الغربية مع الدولة الصهيونية الذي كاد يفوق حدة تضامنها مع أوكرانيا إنما يرجع لعقدة الغربيين إزاء مسؤوليتهم التاريخية في الإبادة النازية لليهود الأوروبيين. وهذا ما يفسّر المفارقة العظمى التي تجعلهم يعاملون دولة محتلة يشارك في حكمها نازيون جدد وتتفوّق عسكرياً على الشعب الذي تضطهده بما يزيد عن تفوق روسيا على أوكرانيا بكثير، يعاملون تلك الدولة وكأنها ضحية أبدية مهما اقترفت من جرائم عظمى.
وبذلك يؤكدون مرّة أخرى نفاقهم الأكبر، وهو الذي فضحه شاعر المارتينيك الكبير إيمي سيزير في خطابه الشهير عن الاستعمار، الذي قال فيه عن الفكر الأوروبي البورجوازي «إن ما لا يستطيع أن يغفره لهتلر ليس الإجرام بذاته، الإجرام على الإنسان، وليس إهانة الإنسان بذاتها، بل هو الإجرام على الإنسان الأبيض، إهانة الانسان الأبيض، وكون هتلر طبّق على أوروبا طرائق استعمارية ما كانت تطال قبله سوى عرب الجزائر وشغّيلة الهند وزنوج أفريقيا». هذا هو مفتاح المفارقة في تضامنهم في آن واحد مع أوكرانيا الخاضعة لاحتلال وإسرائيل دولة الاحتلال بامتياز: إنهما تنتميان إلى عالم «الانسان الأبيض» بينما يقدم شعب غزة أبرز صورة عمّن قصدهم مفكر كبير آخر من المارتينيك عينها، هو فرانتز فانون، في كتابه المعنوَن «معذبو الأرض» والذي هو أيضاً من أشهر أدبيات مناهضة الاستعمار.