مأساة تطغى على أخرى: غزة والسودان والتفتّت العربي


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 7796 - 2023 / 11 / 15 - 10:03
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


في دردشة على هامش إحدى الندوات، حدّثني مؤخراً صحافي بريطاني مقيم في باريس عن انطباعه بأن الإعلام الفرنسي يكرّس اهتمامه دائماً لقضية واحدة بلا سواها. والحقيقة أن هذا الأمر لا ينطبق على الفرنسيين وحسب، بل على مجمل الإعلام العالمي، وعلى الأخص الإعلام المتلفز الذي من طبيعته أن يختصر الأمور فيركّز على مواضيع قليلة أو «موضوع الساعة». هكذا رأينا مأساة غزة تطغى على المأساة الأوكرانية بعد أن كانت هذه الأخيرة قد استأثرت بحيّز كبير من الاهتمام الإعلامي منذ بداية الاجتياح الروسي. وينطبق الأمر نفسه على الاهتمام الإعلامي في منطقتنا حيث طغت أخبار حرب الإبادة والتطهير العرقي التي يخوضها الجيش الصهيوني على أهل غزة على أخبار حرب السودان. والحال أن هذه الأخيرة تعاني أصلاً من ضعف الاهتمام الذي يطال ما يحدث في القارة الأفريقية بالتناسب مع درجة سواد بشرة الشعوب المعنية.
بيد أن ما يجري في السودان بالغ الخطورة هو أيضاً في الحقيقة، وقد شهد ذلك البلد حتى الآن سقوط عدد من القتلى يضاهي على الأقل ما سقط حتى الآن في غزة، ونزوح أعداد من الأهالي تفوق كثيراً عدد النازحين داخل القطاع، وإن كانت كثافة أحداث غزة أعلى بكثير من كثافة أحداث السودان بالطبع، إذ إننا نتكلم عن حصيلة خمسة أسابيع في غزة مقابل سبعة أشهر في السودان. أما الخطورة العظمى لما يجري في بلاد ملتقى النيلين فهي في أن الأوضاع فيها سائرة على طريق تكريس تقسيم جديد، لاسيما بفصل إقليم دارفور عن سائر السودان، تحت سلطة ميليشيات الجنجويد التي أضفى عليها الرئيس المخلوع عمر البشير صفة رسمية تحت تسمية «قوات الدعم السريع».

ومن المعروف أن تلك الميليشيات المجرمة خاضت طيلة العقدين الأولين للقرن الراهن حرباً شرسة ضد بعض شعوب دارفور، تسببت في إحدى أخطر الكوارث الإنسانية في العالم وشملت أعمال إبادة وتطهير عرقي على غرار ما يقوم به الجيش الصهيوني الآن في غزة. ومع تجدّد حملة «قوات الدعم السريع» في الإقليم وتصاعدها منذ نشوب الحرب بينها وبين «القوات المسلحة السودانية» في الربيع الماضي، تعمّدت ميليشيات الجنجويد السعي وراء إحكام سيطرتها على دارفور بمواصلة حرب الإبادة والتطهير العرقي. ذلك أن قائدها محمد حمدان دقلو، وهو يدرك أنه عاجز عن السيطرة على كامل السودان، رأى أن يكرّس تحكّمه بما يستطيع من أراضي البلاد بدءاً من الإقليم، متطلّعاً إلى تسوية تُنهي القتال على أساس تقسيمي، وهي ما أخذ يدعو إليه تحت تسمية «الفدرالية» الواهية.
هذا وتفيد التقارير بأن قوات دقلو باتت تسيطر على معظم أراضي دارفور وهي في طريقها إلى السيطرة على مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، فيما لا تزال تسيطر على القسم الأعظم من العاصمة الخرطوم ويدور قتال عنيف في ولايات كردفان بين جناحي «الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ الشمال» جناح عبد العزيز الحلو وجناح مالك عقار، وكل جناح متحالف مع أحد المعسكرين الرئيسيين، «قوات الدعم السريع» و«القوات المسلحة السودانية». وقد غدا مشهد انقسام السودان الفعلي يضاهي مشهد انقسام ليبيا المجاورة، والحال أن دارفور على تماس حدودي مع شرق ليبيا الذي يقع تحت سيطرة خليفة حفتر، حليف دقلو، والرجلان مدعومان من الإمارات العربية المتحدة (التي ترسل السلاح إلى دارفور عبر مطار أم جرس في التشاد) ومن روسيا (التي تساندهما عسكرياً من خلال قوات «فاغنر»).
هكذا بات التفتّت يهيمن على قسم كبير من المنطقة الناطقة بالعربية: فبعد تفتّت سوريا وانقسام ليبيا وانقسام اليمن المجدّد، ها أن السودان يتّجه نحو تقسيم إضافي، بينما يحوم شبح التقسيم فوق لبنان منذراً بأن ينقضّ عليه لو امتدت إليه رحى حرب غزة. إن انتقال المنطقة من زمن التوحيد الناصري إلى زمن التفتّت الراهن هو بالتأكيد عاملٌ رئيسي من العوامل التي أجازت لدولة إسرائيل أن توسّع رقعة تحالفاتها العربية تحت تسمية «التطبيع» وأن تتمدّد الآن في سعيها وراء استكمال نكبة 1948 على مجمل الأراضي الواقعة بين البحر والنهر. وقد صار السؤال: متى تبلغ المنطقة الحضيض ومتى تشهد نهضة جديدة من كبوتها الراهنة؟