غزّة… بين فصل النكبة الثاني وإحياء أسطورة أوسلو


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 7768 - 2023 / 10 / 18 - 10:16
المحور: القضية الفلسطينية     


ثمة توقعات يتمنى المرء أن يخطئها الواقع. وما توقعناه على هذه الصفحات قبل أسبوع، في اليوم الرابع من حرب غزّة الجديدة، هو من هذا القبيل. توقعنا ما يلي:
«منذ أن قامت دولة إسرائيل واليمين الصهيوني يحلم بأن يستكمل نكبة عام 1948 بطرد جماعي جديد للفلسطينيين من أراضي فلسطين بين البحر والنهر، بما فيها قطاع غزّة. ولا شكّ في أنهم يرون الآن فيما جرى يوم السبت الماضي صدمة تتيح لهم جرّ سائر المجتمع الصهيوني وراءهم في تنفيذ حلمهم في القطاع أولاً، في انتظار فرصة تنفيذه في الضفة الغربية. فإن خطورة ما فُجعت به إسرائيل يوم السبت الماضي من شأنها أن تخفّف من الدور الرادع لاحتجاز «حماس» للرهائن، خلافاً لما جرى في جولات المواجهة السابقة بين الحركة والدولة الصهيونية. ومن المحتمل جداً ألّا ترضى هذه الأخيرة هذه المرّة بأقل من تدمير القطاع إلى حدّ يفوق كل ما شاهدناه حتى اليوم، وذلك بغية إعادة احتلاله بأقل كلفة بشرية إسرائيلية ممكنة والتسبب في نزوح معظم سكانه إلى الأراضي المصرية، كل ذلك بحجة استئصال «حماس» منه استئصالاً كاملاً. لذا يُخشى بشدّة أن يجرف «طوفان الأقصى» في نهاية مطافه قطاع غزّة بأكمله مثلما جرف الطوفان الطبيعي مدينة درنة الليبية قبل شهر، لكن على نطاق أوسع بكثير».
وللأسف بدأت مشاهد تدمير غزّة تفوق نطاقاً مشاهد ما جرفه الطوفان الطبيعي في درنة الليبية. أما الأخطر من دمار الأبنية، فهو أن المجزرة الجديدة التي بدأ جيش الاحتلال الصهيوني ينفّذها في غزّة قد تعدّت بحجمها من الآن كبرى المجازر السابقة التي لحقت بشعب فلسطين، فيما لا يزال العدوان الإسرائيلي في مستهلّه، وقد بات عدد النازحين داخل القطاع يفوق عدد الذين نزحوا إبّان نكبة 1948. ويقوم الجيش الصهيوني فعلاً بتدمير القطاع إلى حدّ يفوق كل ما شاهدناه حتى اليوم.
ذلك أنه جيشٌ حريص على إبقاء خسائره البشرية متدنية وهو الحرص الذي أفشل محاولته اقتحام بيروت في آب/أغسطس 1982، عندما أمره آرييل شارون اقتحام العاصمة اللبنانية المحاصَرة، واضطُرّ إلى إيقاف العملية بعدما أدرك أنه سوف يتكبد خسائر كبيرة من جرّاء صعوبة التوغّل في مناطق مبنية، حيث يسهل على المقاومين الاختباء للمباغتة. وقد تأكد الدرس عندما شنّ الجيش الصهيوني هجوماً برّياً على غزّة في عام 2009. لذا لم يكن وارداً أن يكرّر الجيش الصهيوني التجربة، بل تحتّم أن يستخدم تفوّقه الساحق في القدرة التدميرية كي يسطّح المناطق المبنية تمهيداً لاقتحامها.
لم يكن مثل هذا التدمير ممكناً على نطاق مماثل في بيروت 1982 ولا في غزّة 2009 بسبب غياب الشروط السياسية السانحة (في عام 1982 على الأخص، تعرّضت إسرائيل لضغط عالمي كبير وكان مجتمعها منقسماً في العمق إزاء اجتياح لبنان الذي قاده الثنائي مناحيم بيغن وآرييل شارون). أما اليوم، فإن عملية «طوفان الأقصى» بما تخلّلها من أعمال تصفية ذهب ضحيتها رجال ونساء غير مسلّحين بأعداد فاقت كل ما عرفته إسرائيل قبلاً، أعمال استغلّها حتى النخاع الإعلام العالمي المؤيد لإسرائيل، وفّرت لإسرائيل فرصة ذهبية للمضي في تنفيذ فصل جديد من النكبة مثلما وفّرت عمليات تنظيم «القاعدة» في عام 2001 فرصة ذهبية لإدارة جورج دبليو بوش الأمريكية كي تحقّق مشروع القائمين عليها القديم والرامي إلى احتلال العراق (اتفقوا على البدء بأفغانستان بعد أن أصرّ بعضهم على أن البدء بالعراق قد يصعب تسويقه في الرأي العام).

لم يرَ نتنياهو في «طوفان الأقصى» فرصة لصرف أنظار المعارضة الإسرائيلية عنه وتحقيق وحدة صهيونية ثأرية ضد أهل غزّة وحسب، بل رأى في العملية أيضاً فرصة ذهبية لإعادة احتلال القطاع

هذا ولا يقتصر الهدف من التدمير الهائل الذي ينهال على غزّة على الغاية العسكرية، بل تترافق هذه بغاية أخرى هذه المرّة، هي تهجير سكان القطاع. لقد تعوّدنا على تذرّع الجيش الصهيوني بأنه أنذر المدنيين وأن «حماس» هي المسؤولة عن حتفهم لأنها تتواجد وسط الأماكن المبنية الآهلة بالسكان (كأن «حماس» قادرة على التواجد خارج هذه الأماكن بلا أن يدمّرها القصف الإسرائيلي في الحال!). بيد أن دعوة الأهالي إلى النزوح ليست هذه المرّة من قبيل ما شهدته جولات العدوان السابقة على القطاع، بل تندرج بكل شفافية في مشروع تهجير معظم أهل غزّة على غرار تهجير ثمانين بالمئة من الفلسطينيين القاطنين في الأراضي التي استولت عليها الدولة الصهيونية في عام 1948.
والحال أن استكمال ما بدأ في ذلك العام المشؤوم حلمٌ راود أقصى اليمين الصهيوني منذ عام النكبة وقد أخذ هذا اليمين، الذي يشكّل حزب الليكود وريثه الشرعي، أخذ على دافيد بن غوريون وزملائه في التيار الصهيوني المهيمن آنذاك قبولَهم بوقف النار قبل استكمال احتلال كافة الأراضي الفلسطينية الواقعة بين البحر والنهر. ومن الجدير بالتذكير أن ذاك التيار السياسي ذاته هو الذي نفّذ مجزرة دير ياسين، أشهر الفظاعات التي رافقت الاستيلاء الصهيوني على فلسطين وتسببت في تهجير سكانها.
وقد ظلّ أقصى اليمين الصهيوني مصمماً على تحقيق مشروع «إسرائيل الكبرى». لذا واجه شارون معارضة قوية داخل الليكود عندما كان زعيماً للحزب ورئيساً للحكومة الإسرائيلية في عام 2005، وقرّر تنفيذ الانسحاب من غزّة («خطة فك الارتباط الأحادية») نزولاً عند رغبة الجيش في التخلّص من عبء الإشراف على القطاع من الداخل. والحال أن أولوية شارون كانت تكريس الاستيلاء على غالبية أراضي الضفة الغربية وضمّها رسمياً حالما تسنح الفرصة سياسياً، مع إبقاء غزّة والمنطقتين «أ» و«ب» التي نصت عليهما «اتفاقية أوسلو الثانية» تحت إشراف «السلطة الفلسطينية» من أجل تصفية قضية فلسطين بحجة منح الفلسطينيين كياناً خاصاً بهم (ولو كان تحت إشراف إسرائيلي مُحكم).
فقد قاد بنيامين نتنياهو الحملة ضد شارون داخل الليكود، ذاهباً إلى حد الاستقالة من الحكومة احتجاجاً على تنفيذ الانسحاب من غزّة. وما لبث شارون أن ترك الليكود ليؤسس حزباً آخر، فحلّ نتنياهو محلّه في قيادة الحزب ولا زال يرأسه حتى يومنا. ولم يرَ نتنياهو في «طوفان الأقصى» فرصة لصرف أنظار المعارضة الإسرائيلية عنه وتحقيق وحدة صهيونية ثأرية ضد أهل غزّة وحسب، بل رأى في العملية أيضاً فرصة ذهبية لإعادة احتلال القطاع، لكن مع إفراغه من معظم سكانه هذه المرّة على غرار نكبة 1948. ومن الجلي أن نتنياهو، الذي رفع خارطة تُظهر «إسرائيل الكبرى» من على منصة الأمم المتحدة قبل أقل من شهر، يبغي تهجير معظم أهل غزّة إلى سيناء وراء الحدود مع مصر، ويتمنّى من أجل ذلك أن تستطيع الولايات المتحدة إقناع النظام المصري بإيوائهم.
في المقابل، تتمنى واشنطن أن «يكتفي» الجيش الصهيوني باستئصال «حماس» (و«الجهاد الإسلامي») من القطاع بغية تسليم إدارته من ثمّ لسلطة رام الله، إحياءً لأسطورة أوسلو وبلا تهجير دائم يزيد من خطورة قضية اللاجئين الفلسطينيين. ذلك أن ما يطمح إليه نتنياهو من شأنه تفجير المنطقة العربية بأسرها والقضاء على ما أنجِز من «تطبيع» مع بعض أنظمتها، بينما تظنّ واشنطن أن ما تفضّله سوف يسمح بالسير قدماً في عملية «التطبيع». أما أي من المسارين سوف يتحقق في نهاية المطاف، فهذا ما ستحدده السرعة التي يستطيع بها الجيش الصهيوني التقدّم في الاستيلاء على القطاع مقابل الضغط الدولي الذي سوف يتصاعد كلما زاد طغيان مشاهد ما يحلّ بأهل غزّة على مشاهد «طوفان الأقصى».