أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راتب شعبو - العلويون في مهب السلطة السياسية 1















المزيد.....


العلويون في مهب السلطة السياسية 1


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6758 - 2020 / 12 / 11 - 18:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يعرض علينا التاريخ في سورية واقعاً نادراً يساهم في تقديم إجابة على السؤال: ما هي التغيرات التي يمكن أن تحدث على مذهب ديني باطني (المذهب العلوي هنا) حين تتيح شروط معينة لنخبة من هذه الجماعة المذهبية أن تسيطر على سلطة الدولة في مجتمع غالبيته الغالبة من مذهب آخر غير باطني (المذهب السني). كيف تؤثر السياسة على الدين الباطني أو فيه، وكيف تتفاعل السلطات السياسية مع الدينية، وفي أي اتجاه، وكيف تتحرك السلطات وتنزاح، وأين تتركز وما هي جهة استقرارها في سياق هذه السيطرة؟
المذهب الباطني
لا تعني باطنية المذهب الديني، مثل العلويين أو الدروز، أنه يستبطن النص القرآني، أي يرى أن للنص ظاهراً وباطناً، وأن الباطن هو الروح فيما الظاهر هو الجسد. هذا المعنى لا يحدد المذهب الباطني إلا جزئياً. ذلك أن افتراض أن للنصوص القرآنية معان مجازية ودلالات مستترة تتجاوز المعاني القاموسية للمفردات، أمر شائع حتى في التفاسير "الرسمية" للنصوص القرآنية. التحديد الأهم للمذهب الباطني هو "السرية"، أي اعتبار تفسيره الباطني للنص سراً يخصه ولا ينبغي البوح به إلا لأبناء المذهب نفسه ووفق قواعد يجب مراعاتها بغرض صيانة السر.
على هذا، تعرض الجماعات المذهبية الباطنية مفارقة شديدة التوتر بين الرضى المذهبي، أي القناعة التامة بصحة "السر" الذي لديها، والاطمئنان إليه، وبين الانغلاق والقبول بوضعية المغلوب إزاء الدين السائد. هذه المفارقة لا تعكس ضعفاً دينياً أو مذهبياً، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل تعكس بالأحرى ثباتاً نهائياً في القناعة المذهبية لا يخشى معه على الجماعة من الانجذاب أو الضياع والانحلال في محيط الدين الرسمي الواسع. أهل المذهب الباطني لا يدخلون في نقاش ديني مع المذاهب الأخرى لكي لا يكشفوا سرهم، هذه الجماعات ليست تبشيرية ولا تطمح إلى التوسع والانتشار، ولكنها، مع ذلك، جماعات أكثر ثباتاً على دينها، ولها قدرة مدهشة على عبور العصور والمحن.
الأهم من ذلك أن هذه الجماعات الباطنية لا تعرّف نفسها، وعليه تصبح معرفتها محكومة لروايات وملاحظات الغير، (نحن المعرفون بطريقة "هؤلاء هم" العلويون، وليس بطريقة "هذا نحن") . الأمر الذي يزيد في كثافة غموض هذه الجماعات وامتلاء تعريفها بالتخيلات والغرائب، ما يزيد في عزلها وانعزالها.

مفارقة الجماعة الباطنية
الاضطهاد الذي تعرض له العلويون، من ضمن حالة الاضطهاد العام التي لحقت بكل محكومي السلطات التي تعاقبت على سورية، يحمل طابعاً دينياً، إضافة إلى الطابع الطبقي (ريف ومدينة). في كتاب "آثار الحقب في لاذقية العرب" نقرأ أن مسلمي مقاطعة صهيون، على خلاف مسلمي بقية المقاطعات في لواء اللاذقية الذين كانوا "منقادين للحكومة ولا يميلون للتشويش ولا للسرقة وقطع الطرق"، كانوا "مماثلين للنصيرية في معيشتهم وتعدياتهم وحبهم للفتن وميلهم للسلب وقطع الطرق وسفك الدماء .. ومع أن لهم ما للنصيرية من الجرائم والذنوب، لم تشهر عليهم الحكومة قط عصا التأديب، التي طالما اشهرتها على النصيرية، ما ذلك إلا لتحزب مسلمي اللاذقية لهم ومحاماتهم عنهم، المحاماة التي تبعثهم عليها العصبية والغيرة المذهبية" .
السؤال الآن: إذا كان المذهب الباطني قد نشأ في بيئة دينية وسياسية معادية، واكتسب خصائصه من ظروف نشأته، ما الذي يحل على أهل هذا المذهب حين ينتفي القسر السياسي، أو حين تغيب البيئة السياسية المعادية؟ هل يميل أهل المذهب إلى تخفيف قيود السرية عن مذهبهم؟ وإذا ما قادت الظروف السياسية إلى تقدم بعض أبناء المذهب الباطني وتبوئهم مناصب مقررة في الدولة، كما حصل مع العلويين في سورية، هل يمكن لأهل المذهب أن يجدوا في هذا فرصة لنشر مذهبهم، أي للتحول إلى مذهب تبشيري بغرض تعزيزز السياسي بالديني؟
ليس عادياً أن تجد جماعة دينية تؤمن إيماناً قطعياً، كغيرها من الجماعات، بصواب نظرتها الدينية وصواب موقفها من نظرة الجماعات الأخرى، دون أن يكون لديها الاستعداد لإعلان الصواب الذي لديها ونشره والدفاع عنه. ليس لدينا من تفسير لهذه الظاهرة سوى أن يكون ثمة خطر "سياسي" على الجماعة من كشف "عقيدتها"، بوصفها أقلية دينية في محيط ديني مغاير. وهذا التفسير يفترض أن في نشر هذه العقيدة الباطنية ما يسيئ للعقيدة السائدة إلى حد يمكن أن يدفع أتباع هذه الأخيرة، أو أصحاب السلطة فيها، إلى أن يثوروا فيشكلون خطراً على أتباع العقيدة الباطنة المعنية. إذا صح هذا التفسير فإن النتيجة التالية تقول إن زوال خوف أصحاب العقيدة الباطنية من انتقام أتباع العقيدة السائدة (كأن تتوفر دولة ديموقراطية علمانية تحمي حرية الاعتقاد)، يفتح الباب أمام تحول العقيدة الباطنية إلى عقيدة ظاهرة. غير أن الواقع لا يناصر هذا الاستنتاج. المذهب الباطني يحافظ على باطنيته كما لو أنها جزء جوهري من تعريفه.
لماذا يحرص أهل المذهب الباطني على السر؟ هل هو الخوف من بطش الدين السائد، أم الحفاظ على السر من الشيوع ما يفقده سحره وجاذبيته بوصفه سراً، فضلاً عن ابتذاله بوقوعه في دائرة النقد والسجال؟
لا يبدو أن العقيدة الباطنة، حالما تتكون وتتكامل بوصفها كذلك، قابلة للتحول إلى عقيدة ظاهرة. من المفيد هنا أن نميز بين العقيدة السرية أو الباطنية وبين الدعوة السرية، هذه الأخيرة تطمح إلى الظهور حالما يتاح لها الظرف، مثل حال الدعوة المحمدية في مرحلتها السرية، أما السرية في العقيدة فهي من صلب تكوينها الذي لا شك ساهمت ظروف سياسية محددة في تبلوره. بكلام آخر، الدعوة السرية هي مسار يسعى، مع الزمن وتبدل شروط القوة، إلى الظهور والغلبة، أما العقيدة السرية فهي تكوين منجز تشكل السرية محدداً أساسياً في هويته.
لنا أن نتصور أن سرية العقيدة أو باطنيتها، ونمط تلقينها واكتساب معرفتها، هي مكان مناسب لازدهار صنوف الاستخفاف بالعقائد الأخرى، ولاسيما منها العقيدة المسيطرة، الأمر الذي يزيد في سماكة جدار انعزالها وميلها إلى الانغلاق الذاتي.
الجماعة الباطنية والسيطرة
لكن هل يعني انغلاق الجماعات الباطنية على ذاتها، أن هذه الجماعات المذهبية لا تحمل ميلاً إلى السيطرة؟ وما هو سبيلها إلى السيطرة إذا وجد لديها هذا الميل، وهو موجود بالتأكيد بوصفه طموحاً طبيعياً أو غريزياً لدى الجماعات؟ جوابنا الأولي، الذي سوف ندقق به لاحقاً، هو أن السبيل الوحيد لغلبة هذه الجماعات، بما هي جماعات دينية، هو السبيل السياسي القسري، طالما أنها لا تقبل في تكوينها نفسه استيعاب أتباع جدد كي تتحول إلى دين غالب بالتعداد. لكن السؤال التالي هو كيف يمكن، في العصر الحديث، أن تسيطر جماعة بوصفها جماعة دينية باطنية لا تقبل أتباعاً جدد ولا تفصح عن "سرها"؟ الجواب الأولي أيضاً هو السيطرة المموهة، اي سيطرة بغطاء سياسي عبر إيديولوجيا غير دينية، ايديولوجيا قومية مثلاً.
الوجود المحدد لهذا المنطق في سورية يقول إن العلويين (بهذه العمومية) خططوا وسعوا إلى السلطة من خلال الجيش، عبر الانقلابات، ثم حافظوا عليها تحت ستار سياسي قومي باسم حزب البعث. يفشل هذا القول في الرد على السؤال: ما الذي يجعل العلويين كتلة سياسية واحدة في حين أن مذهبهم أفقي غير هرمي في تكوينه ولا توجد سلطة أو مرجعية دينية عليا له (لا هيكلياً ولا معنوياً) يمكنها أن توحد إرادة أبناء المذهب؟ واقع الحال أن المنطق السياسي يغلب المنطق الطائفي، لأن المصلحة تغلب العاطفة والميول العصبوية. العلويون، كغيرهم من أبناء المذاهب الأخرى، هم موضوع للسياسة أكثر مما هم ذات لها. دون أن يستبعد هذا قدرة السياسة في شروط محددة على تجيير عاطفة الجماعة العامة لخدمة مصالح سلطة محددة.
على هذا يبدو لنا أن سيطرة أقلية مذهبية غير توسعية، بوصفها جماعة دينية، ضرب من الخيال والتوهم لأنها تفتقد إلى التماسك السياسي (حتى لو افترضنا خيالاً أن جماعة مذهبية انتظمت وأصبحت حزباً موحداً، فمن المشكوك فيه قدرتها على السيطرة كجماعة مذهبية إلا على طريقة سيطرة اليهود في فلسطين، وهذا غير متاح في الحالة السورية لا مادياً ولا سياسياً)، ولأنها إذا ما وصلت نخبة منها إلى السلطة، كما حدث في مثال العلويين السوريين، فإن سعيها للحفاظ على السلطة سوف يميل بها إلى التقارب أكثر فأكثر مع الأغلبية المذهبية، طالما بقي ثمة قناة مشؤومة تصل بين الديني والسياسي وتنفخ الروح الطائفية في المجتمع.
الطابع غير التبشيري للمذاهب الباطنية ينطوي على تخل تام عن المنافسة الدينية كوسيلة للسيطرة، والقبول النهائي بالوضعية "الانكفائية" حتى لو توفرت للمذهب الباطني، على سبيل الافتراض، الغلبة العددية. لنتخيل، افتراضاً، أن للعلويين أغلبية عددية في سورية، فلن يقود هذا إلى خروج المذهب عن سريته بحيث تكون تعاليم المذهب العلوي هي التعاليم الدينية المسيطرة أو المفروضة على المجتمع. على هذا، فإن قبول العلويين بأن يتلقى أبناؤهم النسخة السنية من الإسلام في المدارس، لا ينبع من كون المسلمين السنة هم الأكثر عددياً في سورية، بل من كون المذهب الباطني لا يصلح، بطبيعته، لأن يكون مذهبا للتعليم المدرسي. ويمكن المضي أكثر من ذلك على هذا الخط، بافتراض وجود دولة كل رعايها من العلويين، عندها أيضاً لن نجد "أسرار" المذهب العلوي معروضة في الكتب المدرسية للتلاميذ، كما هو حال المذهبين الظاهريين التوسعيين السني أو الشيعي.
لا التفوق العددي ولا الغلبة السياسية لأبناء الدين الباطني، يمكن أن يقود إلى تفوق أو غلبة دينية للمذهب على المذاهب الأخرى. من الناحية الدينية يبقى الدين الباطني في جميع الحالات على حاله، أي يبقى ديناً "أقلوياً" في طبيعته، فلا تخرج "حقيقته" إلى العلن ولا يظهر باطنه. الدين الباطني يحمل "سريته" كوشم أبدي.
تحرر محتجز للعلويين بعد 1970
التحرر من الخوف، بعد وصول نخبة من الضباط العلويين إلى أعلى المراكز القيادية في سورية، حرر العلويين بالتدريج من عقدة الدونية "الاجتماعية" الناجمة عن الاختلاف عن المذهب السائد من جهة، وعن ترافق هذا الاختلاف مع تدن باد في الوضع الاقتصادي والثقافي. وقد عزز هذه العقدة، بطبيعة الحال، استحالة الدخول في محاججة دينية مع المذهب السائد، وبالتالي استحالة استعراض القوة المذهبية الدينية التي يعتقدها العلويون في مذهبهم. واللافت أن عقدة الدونية هذه لم تظهر فقط بوصفها عقدة اجتماعية بل وبوصفها عقدة "دينية" أيضاً. المفارقة اللافتة هنا، أن العلويين، رغم اعتدادهم الداخلي بصوابية مذهبهم، ورغم مقاومتهم الدائمة لكل المحاولات التبشيرية سواء منها المسيحية القديمة أو الشيعية الحديثة، كانوا يبدون دائماً، ربما بتأثير تاريخ طويل من الخوف والحيطة، ما يشبه "الخجل" من إظهار ما يشي بمعتقداتهم العامة أمام المسلمين السنة، وكثيراً ما يحاولون طمس الخلافات المذهبية معهم منغلبين دائماً للمذهب السائد. الكلام هنا يدور عن عموم العلويين وليس عن "علمائهم".
في وثيقة "الابتدار العلوي" التي سبق ذكرها، يقدم اصحاب الوثيقة المجهولون الذين يصفون أنفسهم بأنهم "مفوَّضون"، مفهوماً للدين يتجاوز فكرة "الفرقة الناجية" ويقبل بالتعددية الدينية بمعنى تعددية النظر الديني، "ليس من العلوية في حقبتها الجديدة أن يؤمن أبناؤها بأنهم وحدهم من قد يظفر بالنجاة في امتحان المآل إلى الله .. يقطع العلويون بأنهم عافون عن فكرة الطوائف الناجية والشعوب المختارة ومؤمنون بفكرة وجود الأخيار والفضلاء في كل الملل والنحل". بصرف النظر عن هوية كاتبي الوثيقة وموقعهم وتمثيلهم، يمكن ملاحظة أن محاولة تجاوز الانعزال تنحو بالمذهب الباطني إلى نوع من "الديموقراطية" الدينية التي لا تطمح لأكثر من تحقيق المقبولية في الوجود، على مبدأ الإسلام الوليد في المرحلة المكية من الدعوة: "لكم دينكم ولي ديني" . المذهب الباطني في تكوينه العميق ليس هيمنياً، أو لا ينزع إلى الهيمنة، وأقصى ما يبتغيه من الناحية المذهبية أن يُقبل وجوده وسط بقية الأديان والمذاهب، فهو لا يطمح إلى كسب أتباع جدد، كما أنه لا يبدي خشية من انقلاب أتباعه. من هذه الزاوية فإن التجربة السورية بعد 1970، تعرض خطاً متميزاً يكمن في إشكالية العلاقة بين السياسة التي هي نزوع دائم للهيمنة، تولاها عسكريون من بيئة علوية، وبين مذهب باطني غير هيمني في تكوينه الأصلي. في هذه العلاقة عملت السياسة على تحريض الجانب العصبي في المذهب ليشكل رباطاً متيناً مسانداً للسلطة، بغلاف سياسي (فالمذهب العلوي لا يوفر غطاء دينياً للهيمنة). وفي الوقت نفسه سعت السلطة إلى تبديد المرجعية الدينية لرجال الدين العلويين المستقلين بوجه خاص، وإلحاق المشايخ برجال السلطة السياسة. النتيجة كانت تعزيز العصبية العلوية وإضعاف المذهبية الدينية العلوية، أو بلغة أخرى، تعزيز الطائفية العلوية وإضعاف الدين العلوي. البضاعة المطلوبة للسلطة هي علويون طائفيون في نظرتهم وليس أشخاص ذوو معرفة دينية. تلك هي النتيجة التي يمكن رصدها بعد 1970. وقد تكون هذه النتيجة، فضلاً عما تكشف من عدائية السلطة تجاه المجتمع بعد 2011، هي، في تصورنا، الدافع وراء إصدار وثيقة الابتدار العلوي المذكورة أعلاه، والتي تعلن التنصل من نظام الأسد مع نفي صريح للانتماء إلى المذهب الشيعي.
تمارس سلطة الأسد سلوكاً مزدوجاً في المجتمع السوري، فهي تظهر تقرباً ومراعاة شديدة للمذهب السني الأكثري ، وتبث، في الوقت نفسه، روح طائفية في الوسط العلوي بسبل مباشرة، عبر لغة طائفية صريحة في الأوساط الضيقة، فعلى سبيل المثال، يكثر رجال السلطة ترادا القول: متى كان يمكن للعلوي أن يرفع رأسه قبل اليوم؟ وسبل غير مباشرة عبر استناد النواة الصلبة للسلطة على مجموعة من الضباط العلويين الذين توحدهم عصبية جمعت بين العصبية الطائفية وعصبية المصلحة. تطلبت هذه الازداوجية السلطوية تواطؤاً علوياً لا يرى في "الظاهر السني" الصريح للسلطة سوى ظاهر تمويهي، ويرضى أو يقتنع أن "باطن" هذه السلطة أي حقيقتها هو أنها "سلطة علوية". تبطّن هذا التواطؤ العلوي مع السلطة، عصبية طائفية، وتسوغه خشية لم تكف السلطة عن بثها في الوسط العلوي مستفيدة من بروز تيارات سياسية إسلامية توحد بين السلطة والعلويين. الصيغة التي أرادت سلطة الأسد إيصالها للعلويين تقول: نحن نرضي المجتمع السني بهذه القشور لكي نضع "اللب" أي السلطة في يد العلويين. بالمقابل، اشترك معارضو الأسد الإسلاميون مع العلويين في إعدام قيمة "الظاهر السني" للسلطة، واعتبارها بالواقع "سلطة علوية". التواطؤ العلوي المغشوش بوهم السلطة يضمر نظرة طائفية، فيما الرفض الإسلامي "للسلطة العلوية" يعلن طائفيته، على هاتين الركيزتين الطائفيتين (المضمرة والظاهرة) استقرت سلطة الأسد لعقود. هكذا أسست السلطة ذات الغلاف البعثي وذات اللغة القومية والتقدمية، لخط صراع طائفي لم يكف عن امتصاص كل طاقة تغيير سياسي في المجتمع السوري وصولاً إلى التدمير الشامل الذي صار إليه.
خلال عقود سيطرة نظام الأسد، تحول الشعور السوري العام تجاه العلويين من النبذ إلى المهابة. صار العلوي أكثر جرأة على التحدث باللهجة التي أخذها من بيئته دون أن يتكلف تصنع لهجة مدنية، كما في السابق، في مسعى منه إلى إخفاء هويته المذهبية والاجتماعية. لا شك أن في ذلك شعور مهم بالتحرر يسمح بالتصالح مع الذات. غير أن خروج العلويين من دائرة التهميش أو النبذ، أو هذا التحرر العلوي، لم يأت في سياق تحرر المجتمع السوري، بل جاء في سياق تكريس سلطة مستبدة تستثمر في إيهام العلويين بأنهم أصحاب سلطة، فوجدوا أنفسهم يخرجون من التهميش إلى سيطرة متخيلة، ولكن ليس إلى مساواة تؤسس لصعيد وطني مشترك يهمش الانقسامات المذهبية والطائفية.
باتت اللهجة العلوية مصدر سلطة (وإن كانت موهومة إلى حد كبير) حتى بات غير العلوي يقلدها بغرض الإيحاء بأنه ذو صلة بالسلطة الأمنية التي تثير الرعب في المجتمع. وبات يمكن للعلوي أن يتجرأ على التدليل على هويته المذهبية من خلال رموز معينة، مثل وضع شريطة خضراء في المعصم، أو وشم سيف ذو الفقار. غير أن كل هذا "التحرر" الظاهر لم يغير كثيراً في ضعف الموقف الديني للعلويين إزاء الدين المسيطر. الامتلاء بالقوة الأمنية لدى العلويين، لم يترافق ولم يقد إلى امتلاء بالثقة المذهبية إزاء المذهب السني. بعد كل شيء، بقي في الذهن العلوي أن السنة هم متن المجتمع السوري وأن هذه الحقيقة لا يمكن تجاوزها. لذلك كلما اقترب العلوي من فكرة السيطرة العلوية على السلطة أكثر، كلما أوجعه وأقلقه الشعور بحقيقة السيطرة السنية على المجتمع. لأن هذه المقاربة الطائفية تضع العلوي المشبع بها أمام سؤال عويص: إذا كان أهل السنة يكرهوننا، وهم متن المجتمع السوري، فما العمل؟ من نافل القول أن المقاربة الطائفية التي تنسف الصعيد المشترك بين السوريين عبر إحالتهم إلى هويات دينية ومذهبية متواجهة، لا تفتح الباب إلا أمام علاقات سيطرة مذهبية (صريحة أو مستورة)، وفي كل الحالات، يتبين في آخر النهار، أن الخاسر الأكبر في هذه الحال هي الأقليات الدينية .
حين أفرجت جبهة النصرة (فرع القاعدة في سورية) في صيف 2018، عن النساء العلويات اللواتي كان التنظيم قد اختطفهن من قرية اشتبرق (معظم أهاليها علويون)، استقبل الأهالي المخطوفات بزيهن "الإسلامي" الجديد، فقد كن يرتدين الحجاب المفروض عليهن من الخاطفين الإسلاميين المتشددين، وبعد تحررهن من سلطة الخاطفين ووصولهن إلى أهاليهن وبيئتهن الاجتماعية، لم تتجرأ أي منهن على نزع الحجاب المفروض والذي يشكل أحد أهم رموز الخاطفين، كما لم يقدم أي من الأهالي على فعل ذلك. رغم قسوة اللحظة واحتدام الصراع (وربما بسببهما)، ورغم رفضهم السياسي الشديد للجهة الخاطفة، لم يتجرأ أحد من العلويين على إزاحة رمز الخاطفين "السنة" عن رؤوس المخطوفات. ما كان الأمر سيكون على هذا الشكل لو كان الخاطفون من مذهب آخر غير المذهب السني، وقد فرضوا زيهم المذهبي على النسوة المخطوفات. حينها كان من الراجح أن يتسابق العلويون على انتزاع الرمز المذهبي المفروض على نسائهن المحررات. غير أن الأهالي، في الحالة المثال الذي نتناوله، تحسبوا من أن يبدو رمي الحجاب تحدياً معلناً (أمام الكاميرات) للمذهب السني، فاضطروا إلى احترام التغيير الشكلي الرمزي الذي فرضه الخاطفون على نسائهم والذي لا يلزمهم به فقههم المذهبي. هكذا استقبل الابن أمه المحررة وهي على هيئة لم يعتد أن يراها فيها، هيئة تشكل في الواقع اعتداء على صورتها المألوفة في نظره، غير أنه قبلها مكرهاً، أمام الكاميرات على الأقل، نتيجة استبطان انغلاب ديني أو دونية دينية تجاه المذهب السائد.
هنا نقترب أكثر من تحديد هذه المفارقة بين الرضى الديني التام ضمن الدائرة الداخلية، وإعلان الانغلاب الدائم أمام المذهب السائد، رغم عقود مما يعتبر في الوعي العام، سيطرة علوية على الدولة السورية. هذه المفارقة العجيبة التي تجعلنا نشهد كيف أن جماعة دينية لا تخشى على مذهبها من أن يدرس أبناؤها المذهب السائد في المدارس، ولا تهتم لكون الدولة تتبنى المذهب السائد من حيث الطقوس والأعياد دون أن تكترث بمذهبها وطقوسها، مفارقة أن ينسحب العلويون تلقائياً أمام طقوس ولغة المذهب السائد وكأنهم يخجلون من مذهبهم رغم تمسكهم الشديد به ورضاهم التام عن "سره". صحيح أن كل المذاهب على رضا تام بذاتها، غير أن المذاهب التبشيرية لا تقبل أن تنسحب أمام المذاهب الأخرى ولا أن يدرس أبناؤها في المدارس تعاليم مذهب آخر سوى مذهبهم. المفارقات السابقة تقول إن هذه الجماعة لا يخالطها أدنى قلق على تماسكها المذهبي مهما حصل. هكذا تعرض علينا الجماعة المذهبية العلوية (كنموذج عن المذاهب الباطنية) حالة يبدو فيها الضعف دلالة قوة، ويبدو مظهر الانغلاب دلالة ثقة بالثبات، ويبدو الاحترام الظاهر للمذهب السائد شكل من الاستهانة بقدرته على تفكيك اللحمة المذهبية للجماعة الباطنية.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا نستفيد مما يحصل في فرنسا؟
- هل السلطة السياسية أولوية؟
- أمي والقضايا الصغيرة
- -انا في سورية وأريد العودة الى وطني-
- الصمت ليس حقا لمن لديه ما يقول
- ضحايا وجلادون
- حين تتحول الهوية إلى وثن
- مشكلة الفرنسيين مع الإسلام
- هل العلة في الطريق أم في -الهرولة-؟
- عن رهينة فرنسية اعتنقت الاسلام
- سورية بعد موجة التطرف الإسلامي
- لا حقوق وطنية بدون حقوق يومية
- سورية المدمنة على النقصان
- حضورنا المباشر في السياسة
- العدو الصديق وأزمة مياه الحسكة السورية
- الحرية والاختيار
- مسؤوليتنا عن انفجار بيروت
- توحيد الروايات الذاتية للجماعات السورية
- مناهج تعليم غير وطنية في سورية
- نجوم لسماء، أقحوان لمرج


المزيد.....




- “نزلها مباشر” تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 لمشاهدة ...
- قائد الثورة الاسلامية: مجلس الخبراء مظهر من مظاهر الديمقراطي ...
- روسيا.. محكمة في بيلغورود تقرر طرد كاميروني متورط في دعم جما ...
- من هم خلفاء المرشد الأعلى المتوقعون بعد وفاة رئيسي؟
- انتخابات 2024 ودعم إسرائيل.. لمن سيصوت اليهود الأميركيون؟
- أمين عام حزب الله اللبناني يبرق إلى المرشد الأعلى الإيراني م ...
- أمين عام حزب الله اللبناني يبرق إلى المرشد الأعلى الإيراني م ...
- فرحة الأولاد كلها مع قناة طيور الجنة! استقبل التردد الجديد ع ...
- القوى الوطنية والإسلامية تدعو إلى تضافر الجهود لوقف جرائم ال ...
- -فرنسا، تحبها ولكنك ترحل عنها-... لماذا يختار مسلمون ذوو كفا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راتب شعبو - العلويون في مهب السلطة السياسية 1