|
أمطار الجحيم -20- رواية
خالد الصلعي
الحوار المتمدن-العدد: 3983 - 2013 / 1 / 25 - 23:33
المحور:
الادب والفن
أمطار الجحيم -20- رواية ***************** اخترت يوم الخميس يوم عطلة ، وقررت القيام بجولة خارج منطقة بني مكادة المحاصرة بالبنايات العشوائية وبالتصاميم الاعتباطية ، فبني مكادة منطقة عبارة عن بنايات مترابطة ، تخترقها شوارع وأزقة وأحياء ، لاتوجد فيها أي ساحة خضراء ، ولا يوجد بها اي ملعب للأطفال ولا دار شباب ، ولا مقر حزب أو هيأة مدنية ، حتى جمعيات التسول ، لامراكز لها ، مركزها هو الرئيس المتجول . انها منطقة لا يمكن أن تمارس فيها اي نشاط موازي رياضي أو فني أو ثقافي ، النشاط الوحيد الذي يمكن أن تقوم به في هذه المنطقة هو المشي في الطرقات ، مشي تسيجه جدران المنازل والبنايات كأنك داخل ساحة سجن ، ولست وسط مدينة . اجتزت صور مدرسة ولادة المختلطة ، وسط حشد من الناس الذين يتأهبون لصعود احدى الحافلتين المركونتين على رصيف شارع لايتجاوز عرضه ثمانية أمتار ، بينما عرض الحافلة يقارب مترين أو يزيد قليلا . وفي الجهة المقابلة من الشارع للحافلات توجد محطة لسيارات النقل الحضري . مجموعة من السيارات تزدحم وراء الحافلة ، والأخرى عالقة وسط الطريق ، صفارات منبه السيارات يجلجل المكان ، وأنا أتابع سيري وقد وصلت الى صور مستشفى الأمراض العقلية والعصبية ، الذي بني بداية الاستقلال في منطقة نائية عن الوجه الحضري لمدينة كان سكانها لا يتجاوز بضع آلاف ، أما وقد أصبح عدد سكان المدينة يتجاوز خمسة ملايين فرد فان أحدا لم يفكر في نقل المستشفى الى منطقة نائية بعيدة عن أجواء التلوث التي باتت المنطقة تشهدها ، خاصة هذا المكان الرئيسي الذي يشهد اكتظاظا مروريا هائلا لمختلف أنواع الآلات التي تنفث ثاني أوكسيد الكاربون . وهذا في حد ذاته يشكل تهديدا لسلامة عقل وأعصاب المريض ، الذي يحتاج الى هواء نقي ، والى هدوء مطلق ، والى بنية تحتية مناسبة وملائمة ، والى ساحات خضراء ، والى أطباء وحراس تتناسب مهامهم ويتلاءم تكوينهم وأخلاقهم ووجوههم مع المهام التي يقومون بها . نعيمة ، امرأة سوداء السحنة حليقة الشعر ، ضعيفة البنية ، تنبعث منها رائحة كريهة ، تستقبلك على بعد أمتار ، ملقاة الى جانب المهدي ، هذا الشاب المعوق والفاقد لكل أهلية عقلية يفترش أمامها الأرض ، يلبس سروالا لا يتمنطق به أبدا فيبدو شبه عار من جانب خصره الى حدود فخذيه .، فمه يتهدل منه اللعاب على مدار الساعة . هي نفس الصورة التي درج أهل المنطقة على التعايش معها منذ مدة طويلة ، وأصبح المشهد عادي جدا . نمر أمامهما كل يوم كأننا نمر أمام تمثالين ممدودين في نفس المكان ، تمثالين قابلين للتعفن والترهل وبعث الروائح . يظلان طول الوقت مرميان هنا أمام صندوقين لرمي مختلف الأزبال والنفايات . أشجار الصفصاف المسيجة بالمستشفى تفقد شاعريتها ، وتتخلى عن خضرتها ووظيفتها ، لا أحد يرفع عينيه نحوهما ، أنا نفسي لا أحس بنفس الاحساس حين أتخيل لون الشجار ومنظرها وشكلها . ربما طبيعة المكان تحجب عنها لغتها وجوهرها . تابعت سيري ، واجتزت مساحة المقبرة القديمة ، بعد ان هدمت السلطات صورها ، ونسي الناس أنها كانت الى عهد قريب مقبرة لأجدادنا . نمت فوقها الأعشاب البرية ، وأصبحت مرتعا للتبول .يبولون فوق مقابر أجدادهم دون أن يعلموا أنهم يفعلون ذلك . ربما تحولت بعد سنوات قليلة الى منطقة استثمار من قبل أباطرة العقار الذين حولوا طنجة الى مزبلة من البنايات الخرسانية ، وشوهوا مكانتها التاريخية والحضارية . في طنجة اليوم صراع كبير بين وجوه سلطوية جديدة ، قادمة من ريف الشمال متواطئة مع وجهاء النظام الجديد ، يستنزفون كل أراضيها بالاغتصاب والسرقة والنهب والوعد والوعيد . تراجع أباطرة الأمس الى الوراء ، وأصبح لزاما عليهم أن يخلوا المكان للناهبين الجدد ، والا فانهم جميعهم يدركون مدى تورطهم وهول جرائمهم ، ملوثون بملفات قد تجعلهم يمضون في أقبية السجون ما تبقى من حياتهم ، ويصادرون جميع أموالهم المليارية . الطريق ربما كان يقود دون أن ندري الى جزر لا نسبح فيها الا كي نغرق . الطريق تقودنا الى تشوهاتنا التي غفلنا عليها ، فأصبحت أوراما كلما مررنا بها تذكرنا بمدى الأمراض التي تنهش ذاكرتنا ووجودنا ، وترهن حياتنا القادمة . لا حياة قادمة على ما يبدو ، كل ماسيأتي سيكون أفظع مما مضى ، وقد نتحسر على هذه اللحظة بالذات...
#خالد_الصلعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أمة جاوزت مدة حمل حلمها
-
الفساد حالة طارئة
-
ارحلوا عنا فقد تعبنا من مهازلكم
-
أمطار الجحيم -19- رواية
-
انتقام اليوطوبيا
-
التفاحة لم ترث خطيئتها
-
العاصفة والجعة -قصة طويلة
-
اطار عام لقصيدة ما
-
ورطة فرنسا ...مالي أو الكنز الدفين
-
دعاء التماسيح
-
مزامير صامتة
-
خايف ومش خايف
-
أمطار الجحيم -18- رواية
-
الديمقراطية الانسانية -3-
-
النوم صحوالروح في روحها
-
الديمقراطية الانسانية -2-
-
استسلام لا بد منه
-
الديمقراطية الانسانية
-
خطاب الانهزام ملامحا ولغة
-
طين جا.........طين جا
المزيد.....
-
السفارة الروسية في بكين تشهد إزاحة الستار عن تمثالي الكاتبين
...
-
الخارجية الروسية: القوات المسلحة الأوكرانية تستخدم المنشآت ا
...
-
تولى التأليف والإخراج والإنتاج والتصوير.. هل نجح زاك سنايدر
...
-
كيف تحمي أعمالك الفنية من الذكاء الاصطناعي
-
المخرج الأمريكي كوبولا يطمح إلى الظفر بسعفة ذهبية ثالثة عبر
...
-
دور النشر العربية بالمهجر.. حضور ثقافي وحضاري في العالم
-
شاومينج بيغشش .. تسريب امتحان اللغة العربية الصف الثالث الاع
...
-
مترو موسكو يقيم حفل باليه بمناسبة الذكرى الـ89 لتأسيسه (فيدي
...
-
وفاة المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد عن 70 عاما
-
بسررعة.. شاومينج ينشر إجابة امتحان اللغة العربية الشهادة الا
...
المزيد.....
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
المزيد.....
|