جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3227 - 2010 / 12 / 26 - 08:54
المحور:
كتابات ساخرة
لو ذهب أحدنا إلى أي حي سكني في وسط مصانع أو حول مطارٍ مدني أو عسكري للاحظ أن الأصوات المزعجة والتي تدر عن المانع والآلات لا يشعر بها السكان العاديون ولا يسمعونهم لأنهم اعتاوا عليها واختلطت بدمائهم حتى أصبحت تؤلف معهم نسيجا اجتماعيا ومما نلاحظه أن بعض الناس يصابون بالتسمم فجأة إذا تناولوا مواد غذائية غير مغشوشة, وذلك لأن أجسامهم قد اعتادت على الغش, وهنالك من الناس من اعتادوا على العيش في بيئة كلها ضوضاء وإزعاج بل وأن الضوضاء والإزعاج جزأ لا يتجزأ من حياتهم اليومية, وأنا زمان كنت أتضايق من صوت ماتور(بكب ديزل) يصف أمام بيتي فكان صاحبه يقوم بتشغيله كل باح وكنت في البداية متضايق منه ولكنني بعد فترة بدأت أشعر بأنه جزأ من ديكورات حارتنا فبدون منظره وصوته الصباحي لا يمكن أن أشعر أنني في وطني بين أهلي وربعي وناسي, وأنا واحد من الناس المعتاد جسمه على الغش فالغش طريقة حياة بالنسبة لي فنحن منذ 20 عشرين عاما ونحن نشربُ ماء ملوثا وحين نشرب الآن فجأة ماء صحيا ومكررا فإننا من المؤكد أننا سنصاب بنوع من التحسس , وبعض الشرائح الاجتماعية معتادة على انبعاث الغازات السامة من محطات التكرير تماما كما هو طريقة مذاق للسكان الذين يسكنون المدن الصناعية فيعتادون على روائح الأكسدة والكربون وثاني أكسيد ...إلخ.
وأنا رأيت في حياتي 3 ثلاثَ قِصَصٍ واحدة في مدينة محاطة بتجمع سكاني وفي وسط التجمع السكاني محطة تكرير بترول ومياه عادمة غير صحية وحين سألت الناس هنالك عن كيف تسكنون في مثل هذه البيئة! حيث وصفتها بأنها مكرهة صحة , عند ذلك استغرب الناس كلامي وتخيلت نفسي وأنا أتكلم بأن المستمع لي يستمع إلى رجل مجنون ومفصوم عقليا يتحدث عن عوالم أخرى لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة واكتشفت وقتها أن سكان المنطقة لا يشعرون بتلك الرائحة الكريهة التي تشبه رائحة البيض المسلوق أو الكبريتيت وحتى إذا غابت عنهم لفترة فإنهم يرتابون ويقلقون.
ومرة من ذات المرات زرت رجلا وبيته في وسط السوق حيث يتكاثر الباعة المتجولين وألح الرجل وأصرَّ بأن أبيت تلك الليلة معه ومع أولاده ومما أزعجني جدا أصوات السيارات وأفواه الباعة وهم يجعرون بأصواتهم النشاز وفي الصباح قلت للمستضيف يا رجل : أنتوا كيف تنامون على هذه الأصوات ؟...أنا معتاد على القرية والهواء النقي وصدقني في الليل والنهار إذا بترمي الإبرة على الأرض فإنك حتما ستستمع لصوت رنتها أما هنا في منزلك أي صدقني لو قام أي أحد بإطلاق رصاصة في الهواء لن يتمكن أحد من سماعه وقلت له بأنني لم أنم طوال الليل فاستغرب وقال على العكس احنا الحي تاعنا هادئ جدا وبدون أصوات الباعة لا نستطيع أصلا أن ننام لقد تعودنا على الإزعاج حتى أصبح روتينا مهما في حياتنا, الباعة المتجولون ومنظر أوراق الملفوف والبندورة والخُضار التي تقع على الأرض وتدوسها أقدام الناس في الشوارع وأكياس الخضرة نعتبره رمزنا وتراثنا وبدون تلك المناظر لا أشعر لا أنا ولا أولادي بأننا في وطننا الجميل ربما لو تغير الوضع فإننا سنشعر بنوع من الاغتراب الفكري والعاطفي.
وذهبتُ ذات مرة للعمل في بيت بجانبه معمل للطوب , وكان صوته مزعجا جدا جدا فرفعت سماعة هاتفي واتصلت بصحاب المنزل وطلبتُ منه الحضور فورا لاتخاذ التدابير فجاء على الفور ولم يتأخر قدر أنملة وحين خاطبني بجملة: شو فيه خير أقلقتني؟....قلتُ له وقتها بعد أن وضعت يدي على رأسي لأشعره بأن رأسي يؤلمني وجعلته ينظر إلى القطن في أذني من أجل أن أتفادى الصوت ومن أجل أن اشعر كم هو أنا منزعج من ذلك الصوت والهدير عندها سألني عن السبب ولماذا أنا منزعج ولماذا القطن في أذني ولماذا أضرب على رأسي وأربطُ عليه شريطة. فقلت له: يا رجل صوت معمل الطوب مزعج جدا , فاستغرب واستهجن ذلك وبدأ ينظر حوله متسائلا ومن ثم أرسل عيونه في السماء وسأل أولاده وقال لهم : سامعين صوت مزعج؟ فقالوا , لا, فقال لي: صدق يا أبو علي ما أنا فاهم عن شو أنت بتسولف ! ليش أنت منزعج !وأنا أرى بأن الصوت صوت عادي, فذهلت وقلت له: شو عادي!!! الله يلعن أبو عادي في قبره, يا رجل صدقني خزق(ثقب) طبلة أُذني وراسي يؤلمني بسببه وفتلتُ جسمي وأنا أضع يدي على رأسي وأقول (آخ...آخ) فقال: صدقني أنا وزوجتي وأولادي لا نستطيع النوم إلا على صوت هدير الماكينات وعلى أصوات العمال وهم يحمّلون بالطوب وصوت القرقعة الذي تتحدث عنه مهم جدا في حياتنا وبدون المعمل وصوته لا أشعرُ بتاتا أنني في وطني الجميل لقد أصبح هذا المعمل تراثا وفلكلورا شعبيا والحفاظ عليه مسئولية الجميع إنها مسئوليتي أنا وأنت وكل مواطن أردني شريف, ونحن نستمتع بالرمال وخصوصا حين يهب الهواء فتمتلئ أرضية قاع الدار وخصوصاً أصوات القلابات وهي داخلة وخارجة من المعمل, إن هذا المعمل المزعج بالنسبة لك هو جزء لا يتجزأ من حياتنا أنا وأولادي وفي اليوم الذي لا نستمع به لصوت ماكيناته نشعر جميعنا بالإزعاج إنه يسري في دمائنا, وصدقني قبل 25 سنة حين بدأ هذا المعمل بخطين إنتاج ذهبت إلى المحكمة وإلى كل الجهات المختصة وحاولت منعه لأن الصوت كان بالنسبة لنا مزعجا ولكننا بعد فترة تأقلمنا معه وهو الآن جزء من التراث الوطني أو جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية وكل أولادي ينامون على صوته وهم مبتسمون ويحمدون ألله على هذه النعمة الكبيرة التي لا يمكن أن تتوفر عند كل البيوت والعائلات, شو مالك ؟ نحن لا ننزعج منه وأنت غدا يوم أو يومين وستجد نفسك متأقلما معه .
إننا شعب عربي معتادون على عصا الجلاد وصولجانه ونكره الحرية لأننا معتادون على العبودية ونرفض أن نشعر بالرومنسية لأننا ولدنا والكبت في أحشائنا حيث الإزعاج طريقة حياة نحياها نحن شعب لا قدر ألله لا تستطيع نساءنا أن تمشي بحريتهن في الشوارع ولا يستطعن خلع الحجاب لأن النقص في حياتنا سنة نبوية معتادون عليها من 1400 سنة ولا يمكن أن تشعر المرأة إلا بأنها ناقصة عقل ودين وسنبقى هكذا نرفض كل شيء , ونحن معتادون على السموم وهي تسري في أحشائنا ونحن معتادون أن نصفق والحاكم يخطب فينا.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟