كاتب أردني
يجادل منظرو الإسلام السياسي، بأن جميع أنظمة الحكم الإنسانية، سواء كانت ديمقراطية دستورية برلمانية أو عقائدية (إشتراكية) أو قومية لا يمكن أن تحقق العدل ولا الرخاء للإنسان، بعكس النظام السياسي الإسلامي الذي يحقق كل هذه الخصائص وهو النظام الأمثل للحياة. وإذا ما تجاوزنا قصر النظر الواضح في هذا الطرح وحاولنا أن نقيم الدولة الإسلامية من خلال واقعها التاريخي لا من خلال النظرية فإننا سنجد إدعاء المنظرين هو أبعد ما يكون عن الصواب. فالدولة الإسلامية لم تكن دولة ثابتة في المبدأ السياسي ، بل براجماتية ونفعية –وهذا هو الوضع الطبيعي- ولم يكن الخلفاء منزهون عن الخطأ، بل إن اجتهاداتهم وصراعاتهم على السلطة باسم الدين كونت بحورا من الدماء في التاريخ الإسلامي. أما عن الحريات السياسية لمواطني الدولة الإسلامية، فكانت شبه معدومة.
وينظر الإسلاميون إلى الدولة الإسلامية في عهد الرسول والخلفاء الراشدين بأنها المثال الذي يحتذى والذي تحقق فيه العدل المطلق. أما عن أنواع الخلافة اللاحقة فيعترف المنظرون بأنها احتوت على أخطاء نابعة عن السلوك البشري وليس من الدين نفسه، ويعدون –وهنا المفارقة المضحكة-بأن لا يتم تكرار هذه الأخطاء!
البديهية الأولى في السياسة بأنها فن الممكن وأنها براجماتية تهدف للمصلحة ولا يمكن أن تسير وفق نصوص ثابتة في كل الأزمان والمكنة، وحتى في عهد الرسول كانت السياسة الإسلامية براجماتية، ونجد ذلك واضحا في موقف تاريخي أثناء فتح مكة. فأبو سفيان، المشرك الأكبر وعدو المسلمين وزعيم المعسكر الذي حاربهم لسنوات طويلة تفتح عليه الإيمان فجأة أثناء دخول جيش المسلمين مكة وبعد أن لم يعد هناك أي مجال للمقاومة. لا نريد هنا أن نناقش في المشيئة الإلهية لإسلام أبو سفيان ذلك اليوم بالذات لكننا نلاحظ أن الرسول قد قابل مبادرته بأحسن منها، حيث صفح عنه بل وساوى بين بيته والكعبة وذلك في سلوك سياسي رفيع المستوى يهدف إلى توحيد صفوف قريش بعد سنوات من الحروب الداخلية. وفي هذا الوضع السياسي يمكن القول بأن البعد الديني كان محيدا. فأبي سفيان أثناء مرور الجيش الإسلامي أمامه في مكة ذكر للعباس عم الرسول وكان واقفا بجانبه (لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما) فأجابه العباس (إنها النبوة يا أبا سفيان). إلا أن رد الفعل هذا من أبي سفيان يظهر بأن النبوة كانت آخر ما يفكر به، وأن السلطة السياسية كانت هي الأساس ، ولم يكن يدري آنذاك بأن ابنه سينتزع الخلافة من ابن عم الرسول بعد سنوات قليلة، بل إن حفيده سيقتل حفيد الرسول!!
أما عن الخلافة الراشدية فقد استمرت عادلة ومثالية بتأثير أشخاص عاصروا عبقرية الوحي، حتى توسعت الدولة الإسلامية وبدأت تجني المكاسب ويتطور اقتصادها في عهد عثمان بن عفان، ومن هنا بدأت الظواهر القبلية والعشائرية وتفضيل ذوي القربى بالظهور. وكانت امتيازات بني أمية والغنى الفاحش الذي أصابهم مصدر غضب جميع المسلمين الذين لم يرضوا على ذلك، فكانت النهاية الطبيعية الثورة على الخليفة وما تبعها من فتنة دموية لا زالت آثارها قائمة حتى اليوم. فحارب رجال عظماء بعضهم بعضا باسم الدين وكلهم أعلنوا امتلاكهم للحق المطلق فعاش المسلمون في بحر من الدماء حتى انتزع الأمويون الخلافة وحققوا هدفهم الرئيسي وأعلنوها إمبراطورية قبلية عصبية أيضا باسم الدين. وباقي التاريخ معروف ولا داعي لتكراره.
وصلت الخلافة الإسلامية إلى مرحلة سيئة من التخلف الفكري في نهاية القرن التاسع عشر فظهرت الأفكار التحديثية بين الأتراك وعرب الشام ومصر، إلا أن الصراع القومي للأسف فصل بينهما فتوجه الأتراك نحو المستقبل على يد أتاتورك، وبقي العرب في حاضرهم السيئ بل أصبح البعض يعود إلى الماضي منذئذ. وظهرت بعد ذلك حركات إسلامية تدعي امتلاك الحق الإلهي وتبحث عن السلطة ابتداء من الإخوان المسلمين في مصر وتطورا إلى التيارات الإرهابية العنيفة في مصر والجزائر وغيرها مرورا بنماذج الحكم السعودية والإيرانية والسودانية و الأفغانية. وكل نموذج يختلف عن الآخر في عدة نواحي بسبب تأثير البيئة المحيطة والعادات الاجتماعية والمرجعية الدينية إلا أنها جميعا تشترك في منع الحريات السياسية والفكرية.
إن الحل الوحيد لهذه المعضلة التي تسببها الطبيعة البشرية هي عدم الإدعاء بامتلاك الحق المطلق، بل إنشاء سلوكيات وقوانين سياسية واجتماعية تسمح بالتعدد الفكري والسياسي واحترام حق التعبير عن الرأي وفق القانون العقدي للمجتمع، واحترام استقلالية العقل وحقه في اختيار النظام السياسي الذي يريده. لا مانع أن تقوم حركات إسلامية سياسية، لأن التعددية يجب أن تفتح الباب لجميع الاجتهادات، إلا أنه يجب منع احتكار الحق واعتبار الدين والسياسة متلازمة ضرورية لا يصح الدين بغيرها. فعلاقة الدين بالسياسة علاقة تاريخية ظرفية بحتة والإسلام هو توجه سياسي فقط ضمن الوعاء الديمقراطي التعددي ولا يحق له إلغاء غيره. إن السلطة الدينية هي أكثر السلطات قهرا واستبدادا لأنها تدعي الحكم باسم الله، وهي مرحلة بادت من التطور البشري ولا يعقل العودة إليها ثانية في عالم يسوده الانفتاح والتسامح الفكري والعقل القادر على تسيير شؤون البشر مستقلا.
بالرغم من كل التطور والانتشار للغسلام السياسي والأصولية والإرهاب الديني، فإن الوضع الثقافي والسياسي العربي يشيران الى أن فرص الاندماج مع المنظومة الإنسانية العلمانية الآن مهيأة أكثر من ذي قبل نظرا للتطور الكبير في أنظمة المعلوماتية والاتصالات وانتشار مفاهيم العلمانية من حقوق إنسان وتسامح وفكر علمي وديمقراطية ومجتمع مدني في العالم العربي. وإذا كانت فرص إنشاء " دولة إسلامية" جديدة باتت متراجعة فإن العائق الأول أمام التطور الاجتماعي لا زال قائما في العقليات الأصولية والقبلية والعشائرية التي تسيطر على محصلة الفكر الشعبي العربي والعلاقات الاجتماعية القائمة. فلا يزال هناك " إرهاب ثقافي" يمارسه الفرد العربي من خلال ما يظن أنه التزام بالفروض الدينية. فهناك العديد من القضايا التي رفعها أفراد عاديون ضد المثقفين العرب التنويريين بحجة الإساءة للدين كما يحدث في مصر. كما أن هناك ضعفا في الثقافة التنويرية والعصرية لدى العديد من السياسيين العرب وخصوصا في البرلمانات كما حصل في الأردن حيث رفض البرلمان الأردني تشريعا يمنع استخدام العذر المخفف لمن يقتل قريبته بحجة الشرف ورفض البرلمان الكويتي كذلك تشريعا يمنح المرأة حقوقها الانتخابية.
أن نهوض الفكر العلماني في العالم العربي يعتمد يشكل مباشر على المناخ الثقافي التنويري ونجاح النماذج السياسية في الالتزام بالديمقراطية فلا يمكن اعتبار الأنظمة العسكرية القومية العربية الدكتاتورية علمانية بحق حتى لو كانت تفصل الدين عن الدولة وذلك بسبب طبيعتها القمعية التي تمنع الحريات العامة وهي المقوم الرئيسي للعلمانية حيث لا زالت " طبائع الاستبداد" في الثقافة الشرقية مسيطرة مرة باسم الدين ومرة باسم العلمانية العسكرية الدكتاتورية مما يشوه الوجه الحقيقي للعلمانية. فالعلمانية، كفلسفة ونظام حياة بريئة تماما من الاستبداد الذي تمارسه أنظمة الحكم الشرقية.