أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج منصور - هل العراق قادر على اللحاق بالرَّكب الرقمي؟















المزيد.....

هل العراق قادر على اللحاق بالرَّكب الرقمي؟


جورج منصور

الحوار المتمدن-العدد: 8572 - 2025 / 12 / 30 - 11:39
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ثَمَّةَ فَجوَةٌ زمنيَّةٌ تَفصِلُ ما يعيشه العالم عمَّا يعيشه العراق. فبينما يَسيرُ العالَمُ نحوَ الذكاء الاصطناعي والحوكمة الرقمية والتعليم المدمج، ويطفو على سُحُبٍ من البيانات؛ حيثُ تُدارُ الحروبُ بالخوارزميات، وتُخاضُ المعاركُ بالكلمات المُفهرسة والرموز البرمجية، لا بالسيوف ولا بالمواعظ، لا يزال العراق يختبرُ البدايات: كيف نُديرُ مدرسة؟ كيف نحافظ على نزاهة المعلومة؟ وكيف نزرع الثقة في نظام لا يثق بنفسه؟ إنه يقف على تخوم هذا التحول كمن ينظر إلى قافلةٍ تغادره في الأفق، وهو ما زال يفتش في ترابه عن سبب تأخُّره الأبدي.
يَقِفُ العراق على مرآةٍ مزدوجة: وَجهٌ يتطلَّعُ إلى اللحاق بالعصر، وآخَرُ ما زالَ مسكوناً بأطياف الماضي. إنه بلدٌ يستخدم الإنترنت في كل بيت، لكنه يحفظ وثائقه في ملفاتٍ ورقية، ويُصدق الشائعة أكثر من الخبر الموثق، ويغلق الباب على البيانات كأنها أسرار عائلية.
قبل الثورة الرقمية، كان التفكير البشري يسير في خطوط متتابعة، فكرةً تليها أخرى. أما اليوم، فأصبح التفكير شبكياً، يشبه الإنترنت نفسه: مترابطاً، متعدد الاتجاهات، يعتمد على الروابط أكثر من التسلسل. فالعقل لم يعد يبحث عن المعلومة فحسب، بل يتنقل بين المصادر، ويقارن ويحلل ويربط بينها بسرعة غير مسبوقة.
في الماضي، كان التعليم والبحث يركزان على تخزين المعلومات. أما اليوم، ومع توفر المعرفة بضغطة زر، فقد تحوَّل التركيز إلى قدرة الفرد على التحليل والنقد والابتكار. فالعقل الرقمي يسأل: "كيف أستخدم المعلومة؟" لا "كيف أحفظها؟". لقد بات الإنسان يعيش في مستويات وجود متعددة، يفكر فيها بطرق مختلفة، شاملةً ما هو افتراضي ورمزي ومحاكى. فما كان خيالاً صار تجربة رقمية، وما كان فكرة صار تطبيقاً.
في العراق، ثمة بذورٌ لهذا التحول: فقد أُطلقت استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي، تُركز على دمج "البيانات الكبيرة" في التعليم والصحة والطاقة والزراعة. وتخطو الخطوات العملية نحو فتح كلية متخصصة بالذكاء الاصطناعي في جامعة بغداد. وفي مجالات محدودة، بدأ استعمال الذكاء الاصطناعي في مشاريع تطوير البنى التحتية للطاقة، وتدريب العاملين في الإعلام على أخلاقياته.
رغم ذلك، فإن العراق ليس متأخراً عن التكنولوجيا فحسب، بل عن الذهنية التي تُنتجها. فالتحول الرقمي ليس حاسوباً جديداً أو هاتفاً ذكياً؛ إنه نظام تفكيرٍ جديد يُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمعلومة، بين المعرفة والسلطة، بين الفرد والجماعة.
لكن العقل العراقي، الممزق بين قداسة الماضي وشكوك الحاضر، لم يفلح بعد في التكيّف مع هذه النقلة. إنه عقلٌ يعيش على الذاكرة، لا على التحديث؛ يقدّس الحكاية أكثر مما يؤمن بالبرهان، ويؤمن بالحدس أكثر من الخطة، ويخاف السؤال لأنه يراه بوابةً إلى الفتنة.
هنا تبدأ المحنة: محنة عقلٍ لم يتصالح بعد مع فكرة الشفافية، ولا مع معنى النظام. وفي جوهر هذه المحنة تكمن ازدواجية الوعي: فالعراقي متحمس لكل جديد، لكنه لا يثق به. يستهلك التقنية زينةً للعصر، لا أداةَ تحوّل. يحمل الهاتف الأذكى لينشر الخرافة ذاتها، وحين يدخل الإنترنت، لا يدخل إلى فضاء المعرفة، بل إلى متاهة الصراخ، يخرج منها أكثر يقيناً بجهله.
التحول الرقمي، في جوهره، ليس مشروعاً تقنياً، بل ثورة في طرائق التفكير. هو انتقال من ثقافة الشفاهة إلى ثقافة المعلومة، من الفوضى إلى التنظيم، من الاستبداد بالمعرفة إلى تداولها. يقوم على الشفافية والنظام والثقة بالعلم لا بالحدس. وهذه المفردات الثلاث هي بالضبط ما يفتقده الواقع العراقي.
ففي المدرسة العراقية، لا يزال الطالب يُكافَأ على الحفظ لا على الفهم، وعلى الطاعة لا على السؤال. فكيف ننتظر منه أن يتعامل بحرية ومسؤولية مع فضاءٍ رقمي مفتوح، وهو لم يُدرَّب بعد على التفكير النقدي؟ وفي الجامعة، يتخرج الآلاف كل عام دون أدوات البحث الحقيقي، لأن المناهج ما زالت أسيرة الورق، والعلاقة بين الطالب والأستاذ تشبه العلاقة بين التابع والسلطة.
أما في الإدارة العراقية، فالتقنية تُستخدم "زينة شكلية": مواقع إلكترونية بلا محتوى، وأنظمة إلكترونية تُدار بالعقل الورقي ذاته. فالتحول الحقيقي لا يحدث حين تُدخل التكنولوجيا إلى المؤسسة، بل حين تُخرج منها العقل القديم.
وحتى الإعلام العراقي، الذي كان يمكن أن يكون منصة ريادية في عصر الرقمنة، تحوّل إلى ساحة للضجيج. وفي زمن تنتصر فيه الخوارزميات للوضوح والدقة، ما زال الخطاب الإعلامي المحلي يفضّل الغموض والانفعال، لأن العقل الجمعي ما زال يأنس بالعاطفة أكثر من التحليل.
ثم يأتي المجتمع الرقمي العراقي، الموزّع بين صفحات الفيسبوك ودوائر الشك. فالناس هنا يعيشون في فضاءٍ رقمي، لكنهم يفكرون بعقلٍ شفاهي؛ يتبادلون الأخبار دون تدقيق، ويتفاعلون بالعاطفة قبل الفكرة، ويقيسون الوعي بعدد المتابعين لا بعمق الفهم. لقد وفّرت التكنولوجيا لكل عراقي منبراً، لكنها لم تمنحه بالضرورة لغةً جديدة للحوار.
إن التحول الرقمي في العراق لم يفشل تقنياً، بل عقلياً. فالمشكلة لم تكن يوماً في نقص الأجهزة، بل في فائض الذهنيات القديمة التي تُصّر على إدارة الجديد بعقل الأمس. العراق لا يحتاج إلى "مشروع رقمنة" بقدر ما يحتاج إلى ثورة في طريقة التفكير: ثورة على الخوف من السؤال، وعلى عبادة السلطة، وثقافة السرّية، والعجز عن العمل الجماعي.
كيف يمكن لبيئةٍ تربّت على الغموض أن تقبل الشفافية؟ كيف يمكن لمجتمعٍ يؤمن بالخلاص الفردي أن يتبنى فكرة العمل الجماعي؟ وكيف يمكن لعقلٍ نجا بالتقية أن يثق بالنظام؟.
العراق لا يعاني من نقصٍ في الذكاء، بل من تبدُّده. فالذكاء العراقي متوهّج في اللحظة الطارئة، لكنه يخبو في التنظيم. إنه ذكاء “النجاة”، لا ذكاء “البناء". وهنا تنشأ المفارقة بين العقل الذي يتعامل مع التكنولوجيا كوسيلةٍ للهروب، والعقل الذي يوظفها لبناء المستقبل. والمحنة ليست في الجهل، بل في التنافر بين الوعي القديم والأدوات الجديدة.
فمن غير الممكن أن تتحوّل ثقافة لم تُحلّ مشكلتها مع الحرية إلى بنيةٍ رقمية منفتحة. فالتحول الرقمي لا يسكن في الشاشات، بل في العقول. وما لم يتحرر العقل العراقي من سلطة الخوف، فلن ينجو من الأمية الرقمية، مهما امتلك من أجهزةٍ وبرامج.
إننا نعيش لحظةً خطرة، لا لأن العالم تغيّر بسرعة، بل لأننا ما زلنا نُجادل في ما إذا كان التغيير ضرورة أم خيانة. فكل نقلةٍ رقمية تُقابل بسؤالٍ عقيم: "هل هذا يناسب قيمنا؟"، كأنما الزمن ينتظر موافقتنا ليواصل سيره.
لكن الزمن لا ينتظر أحداً.
لقد غاب عنهم أن التحول الرقمي ليس مؤامرةً على الهوية، بل امتحانٌ للعقل. وأن العراق، إن أراد أن يكون جزءاً من العالم الجديد، عليه أولاً أن يُعيد تعريف "العقل العراقي" نفسه: من عقلٍ دفاعي، مأسورٍ بالذاكرة، إلى عقلٍ استكشافي، مؤمنٍ بالخطأ بوصفه طريقاً إلى الصواب، وبالتجريب لا بالتقليد. ذهنيةٍ تضع السؤال قبل الإجابة، والتجربة قبل الفتوى، والمستقبل قبل الماضي.
حينها فقط، يمكن للعراق أن يخرج من محنته، لا ليلحق بالعالم، بل ليصنع لنفسه مكاناً في المستقبل، لا على هامش الذاكرة، بل في قلب المعرفة.
لقد آن للعقل العراقي أن يتحرر من ماضيه دون أن يتنكر له، أن يعيد تعريف نفسه لا كذاكرة، بل كقوة معرفة. فالتحول الرقمي ليس امتلاك حاسوبٍ ذكي، بل امتلاك عقلٍ يجرؤ على التفكير بحرية.



#جورج_منصور (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل تصلح الديمقراطية في نظام طائفي؟ قراءة في الحالة العراقية
- ما جدوى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟
- حين يتحوّل استهداف البنى التحتية إلى عقاب جماعي: حقل كورمور ...
- الطائفية في العراق: حكاية ظلٍّ طويل
- الفقر في العراق: مأساة في بلد الثراء
- في ذكرى رحيل مؤيد الراوي.. ذكريات متأخرة
- مأزق المكوَّن المسيحي في العراق: قراءة في محنة الوجود والذاك ...
- برلمان بلا بوصلة: حين يتحول المنصب إلى غاية في ذاته
- الثقافة والفن جسراً للهوية الوطنية في العراق
- -تُصَنعّون من الحمقى قادة. ثم تسألون: من أين أتى الخراب؟-
- بين المال والسلاح: هل تُسرق الانتخابات العراقية القادمة؟
- هل العراق بحاجة إلى منظمات مجتمع مدني مستقلة؟
- التعليم جرحٌ مفتوح يهدد مستقبل الوطن
- العراق: عندما يتحول الذباب الإلكتروني إلى سلاح للفوضى الناعم ...
- الفنانة هديل كامل: الحياة.. كجملة ناقصة
- العراق: المنصب الدبلوماسي مكافأة لا استحقاق
- المثقف العراقي: مرآة لخيبة نظامين
- في اليسار العراقي.. مجرد رأي
- العراق: حين يُستهان بالعلم ويُحتفى بالخرافة
- -الرحلة-: لم تكن كأي رحلة


المزيد.....




- ترامب يهدد بمقاضاة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول ...
- بعد أكثر من عقد.. استئناف البحث عن الطائرة الماليزية المفقود ...
- السدود المائية، كيف تعمل وما هي فوائدها؟
- إطلاق الألعاب النارية ليلة رأس السنة.. ما المسموح والممنوع؟ ...
- كأس أمم أفريقيا في المغرب: رقص المنتخبات الأفريقية يحظى بإعج ...
- تركيا: -قناة إسطنبول-.. مشروع -جنوني- عملاق مثير للجدل والق ...
- إيران: طلاب الجامعات يلتحقون بالاحتجاجات ...والسلطات تعلن اس ...
- مباراة مرتقبة بين تونس وتنزانيا لافتكاك تأشيرة التأهل
- حرية الإعلام في 2025: عام التراجع القياسي
- نصّ بيان دولة الإمارات بشأن الأحداث الجارية في اليمن


المزيد.....

- صفحاتٌ لا تُطوى: أفكار حُرة في السياسة والحياة / محمد حسين النجفي
- الانتخابات العراقية وإعادة إنتاج السلطة والأزمة الداخلية للح ... / علي طبله
- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج منصور - هل العراق قادر على اللحاق بالرَّكب الرقمي؟