|
|
اختيار الأناجيل الأربعة
كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي
(Kamal Ghobrial)
الحوار المتمدن-العدد: 8570 - 2025 / 12 / 28 - 10:11
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لتحليل قضية الأناجيل من وجهة نظر نقدية وتاريخية (Academic/Historical Approach)، يجب النظر إليها كعملية تطور أدبي وعقائدي خضعت لمعايير "الشرعية" والانتشار الجغرافي.
نشأة وتصنيف الأدب الإنجيلي المبكر
في القرنين الأول والثاني الميلاديين، شهدت المسيحية المبكرة طفرة في التدوين. لم يقتصر الأمر على الأناجيل الأربعة، بل وُجدت عشرات النصوص التي تبنت صنف "الإنجيل" كأداة لنشر رؤى لاهوتية متنوعة.
أولاً: الأناجيل القانونية (The Canonicity) تتميز الأناجيل الأربعة (متى، مرقس، لوقا، يوحنا) من الناحية العلمية بكونها الأقدم تاريخياً. • التأريخ: تُجمع الدراسات النقدية على أنها كُتبت في الفترة ما بين 65م إلى 100م. • المصدرية: ترتبط هذه النصوص بالجيل الأول أو الثاني من أتباع الحركة المسيحية، مما يمنحها قيمة توثيقية أكبر لدى المؤرخين مقارنة بالنصوص المتأخرة. ثانياً: الأناجيل غير القانونية (Apocrypha) يصنف علماء الأديان هذه النصوص إلى مجموعات بناءً على محتواها وزمن كتابتها: 1. الأناجيل الغنوصية (Gnostic Gospels): اكتُشفت معظمها في "مخطوطات نجع حمادي" بمصر (1945). تمثل فكراً فلسفياً يرى أن الخلاص يأتي عبر "المعرفة الباطنية" وليس الإيمان التقليدي.
• إنجيل توما: نص يتكون من 114 قولاً منسوباً للمسيح، ويخلو من السرد القصصي. • إنجيل فيليب: يقدم تفسيرات رمزية للطقوس. • إنجيل الحقيقة: تأمل لاهوتي في طبيعة الإله والكون. 2. أناجيل الطفولة والآلام: كتبت لملء "الفجوات السردية" في حياة المسيح. • إنجيل يعقوب التمهيدي (القرن الثاني): ركز على طهارة مريم العذراء وتفاصيل ولادتها. • إنجيل توما الإسرائيلي: يروي قصصاً إعجازية عن طفولة المسيح، وغالباً ما يُصنف كأدب شعبي مسيحي قديم. معايير التمييز (Critique of Selection) من الناحية العلمية، لم يكن اختيار الأناجيل الأربعة قراراً فجائياً في مجمع واحد، بل كان عملية "انتخاب طبيعي" للأدب الديني استندت إلى: 1. الانتشار الجغرافي (Catholicity): النصوص التي قُبلت هي التي استُخدمت في مراكز متباعدة (روما، أنطاكية، الإسكندرية) في آن واحد، مما أعطاها صفة "الشمول". 2. الاتساق اللاهوتي (Orthodoxy): استبعاد النصوص التي تبنت أفكاراً "ثنائية" (مثل فصل إله العهد القديم عن إله العهد الجديد) كما في الغنوصية. 3. الارتباط بالرسل (Apostolicity): فحص العلماء الأوائل مدى صلة النص بتلاميذ المسيح المباشرين. مقارنة تحليلية بين الأصناف الإنجيلية
المقارنة التحليلية بين الأناجيل القانونية والأناجيل الغنوصية/المنحولة:
1. من حيث زمن الكتابة (Dating) الأناجيل القانونية: تُعتبر الأقدم تاريخياً؛ حيث كُتبت في القرن الأول الميلادي، وتحديداً في الفترة ما بين 65م و100م. هذا القرب الزمني يجعلها أقرب إلى عصر شهود العيان.
الأناجيل الغنوصية والمنحولة: كُتبت في فترة متأخرة تبدأ من منتصف القرن الثاني وصولاً إلى القرن الرابع الميلادي. لذا، ينظر إليها المؤرخون كانعكاس لتطورات فكرية لاحقة وليست مصدراً أولياً للأحداث.
2. من حيث المحتوى السردي (Narrative Content) الأناجيل القانونية: تعتمد على السرد المتكامل؛ فهي تشمل نسب المسيح، ميلاده، تعاليمه العامة، معجزاته، وصولاً إلى تفاصيل المحاكمة، الصلب، والقيامة.
الأناجيل الغنوصية والمنحولة: غالباً ما تفتقر إلى التسلسل الزمني أو السردي. فبعضها عبارة عن قوائم أقوال فقط (مثل إنجيل توما)، وبعضها الآخر يركز على رؤى فلسفية باطنية أو قصص خوارقية وتفصيلية لفترات محددة مثل الطفولة، دون اهتمام بالسياق التاريخي العام.
3. من حيث الهدف والجمهور المستهدف (Purpose) الأناجيل القانونية: كان هدفها التبشير العام وتثبيت الإيمان لدى المجتمعات المسيحية الناشئة، وكانت موجهة لعامة المؤمنين لتوضيح هوية المسيح ورسالته.
الأناجيل الغنوصية والمنحولة: كان هدفها غالباً تقديم "معرفة سرية" (Gnosis) مخصصة لنخبة معينة من المستنيرين، أو تقديم إجابات خيالية عن تساؤلات لم تجب عنها الأناجيل الأقدم (مثل ماذا فعل المسيح في صباه).
4. من حيث الموثوقية التاريخية (Historical Reliability) الأناجيل القانونية: يُصنفها علماء التاريخ (سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين) كالمصدر الأساسي لدراسة شخصية "يسوع التاريخي"، نظراً لتقاطع بياناتها مع الجغرافيا والآثار والسياق الاجتماعي لفلسطين في القرن الأول.
• الأناجيل الغنوصية والمنحولة: تُعد مصدراً ثانوياً في البحث عن "يسوع التاريخي"، لكنها تُعتبر مصدراً أولياً شديد الأهمية لفهم التنوع الفكري والعقائدي، والصراعات الفلسفية التي دارت داخل المجتمعات الدينية في القرون الثانية والثالثة.
الخلاصة العلمية: عملية تكوين "القانون" (Canon) كانت تهدف إلى توحيد الهوية المسيحية الناشئة وحمايتها من التشتت الفكري. الأناجيل الأربعة لم تكن الوحيدة، لكنها كانت الأكثر صموداً وقبولاً تاريخياً وتنظيمياً.
نركز على إنجيل توما (Gospel of Thomas)، فهو النص الأكثر أهمية وإثارة للبحث العلمي بين الاكتشافات الحديثة (مخطوطات نجع حمادي 1945). تحليل نقدي لهذا الإنجيل مقارنة بالأناجيل القانونية: 1. طبيعة النص (أقوال لا أفعال) على عكس الأناجيل الأربعة التي تروي قصة حياة المسيح، يتكون إنجيل توما من 114 قولاً (Logia) منسوباً ليسوع. لا توجد فيه معجزات، ولا صلب، ولا قيامة، ولا رحلات جغرافية. يبدأ النص بعبارة: "هذه هي الكلمات السرية التي تكلم بها يسوع الحي ودونها ديديموس يهوذا توما". 2. الفكر الغنوصي مقابل الفكر التقليدي تظهر الفروقات الجوهرية في نظرة كل نص لمفهوم "الخلاص": • في الأناجيل القانونية: الخلاص يتم عبر الإيمان، التوبة، وعمل المسيح الكفاري (الصلب والقيامة). "ملكوت الله" هو حدث تاريخي وروحي بدأ وسيتحقق مستقبلاً. • في إنجيل توما: الخلاص هو عملية استنارة داخلية. الملكوت ليس مكاناً أو حدثاً مستقبلياً، بل هو حالة معرفية داخل الشخص. القول رقم 3 يقول: "الملكوت داخلكم وهو خارجكم أيضاً.. عندما تعرفون أنفسكم، حينئذ تُعرفون". 3. الجدل العلمي حول "الأقدمية" هناك انقسام بين علماء النقد الكتابي حول تاريخ هذا الإنجيل: • الرأي الأول (المدرسة المتأخرة): يرى أن إنجيل توما كُتب في منتصف القرن الثاني (حوالي 140-150م) وهو يعتمد على الأناجيل الأربعة لكنه حوّر أقوالها لتناسب الفكر الغنوصي. • الرأي الثاني (المدرسة المبكرة): يرى بعض الباحثين أن "نواة" هذا الإنجيل قد تكون قديمة جداً (حوالي 50-60م)، أي أنها تعود لتقاليد شفهية سبقت كتابة الأناجيل الأربعة، مما يجعله نافذة مهمة جداً على بدايات الفكر المسيحي قبل تبلور العقائد الرسمية.
لماذا استبعدته الكنيسة الأولى؟ من وجهة نظر تاريخية مؤسساتية، استُبعد إنجيل توما لثلاثة أسباب رئيسية: 1. غياب الكرازة بالصلب: وهو الركن الأساسي في المسيحية المبكرة. 2. النخبوية: فكرته عن "المعرفة السرية" تتصادم مع رسالة الأناجيل القانونية الموجهة للجميع (بسطاء وفلاسفة). 3. النظرة للمادة: يميل إنجيل توما إلى احتقار الجسد والمادة (سمة غنوصية)، بينما تؤكد الأناجيل الأربعة على أهمية الجسد (التجسد والقيامة الجسدية).
إنجيل يهوذا (Gospel of Judas):
هو واحد من أكثر النصوص إثارة للجدل في العصر الحديث، وهذا النص لا يقدم مجرد "أقوال" كإنجيل توما، بل يقدم إعادة صياغة كاملة للدراما المسيحية المركزية (الخيانة والصلب). إليك التحليل الموضوعي لهذا النص:
1. اكتشافه وسياقه التاريخي • الاكتشاف: عُثر عليه ضمن "مخطوطة تشاكوس" (Codex Tchacos) في مصر في سبعينيات القرن الماضي، لكن لم يتم ترميمه وترجمته ونشره للعالم إلا في عام 2006 عبر الجمعية الجغرافية الوطنية (National Geographic). التأريخ: يعود النص المكتوب بالقبطية إلى القرن الثالث أو الرابع الميلادي، لكن يُعتقد أن أصله اليوناني كُتب في منتصف القرن الثاني (حوالي 150م).
2. الانقلاب الدرامي: يهوذا كـ "بطل" لا خائن في الأناجيل الأربعة، يهوذا هو التلميذ الذي خان المسيح مقابل ثلاثين من الفضة. أما في "إنجيل يهوذا"، فالمشهد مختلف تماماً:
• المهمة السرية: يصور النص أن يسوع هو من طلب من يهوذا أن "يخونه". • التضحية بالجسد: يسوع يقول ليهوذا: "سوف تتجاوزهم جميعاً، لأنك ستضحي بالإنسان الذي يلبسني". من وجهة نظر غنوصية، كان يهوذا "يحرر" الروح الإلهية للمسيح من سجن الجسد المادي عبر تسليمه للصلب. التمييز: يصور النص يهوذا كالتلميذ الوحيد الذي فهم "اللاهوت الحقيقي" للمسيح، بينما كان بقية التلاميذ غارقين في عبادة إله أدنى (إله المادة).
3. الأثر على دراسات "يسوع التاريخي" هذه الاكتشافات (توما، يهوذا، مريم المجدلية) لم تغير إيمان الكنائس التقليدي، لكنها أحدثت ثورة في الأكاديميا والجامعات:
• تعددية المسيحيات المبكرة: أثبتت هذه النصوص للمؤرخين أن القرن الثاني لم يشهد "مسيحية واحدة"، بل "مسيحيات" متنافسة (أرثوذكسية، غنوصية، ماركيونية، إلخ)، ولكل منها أناجيلها الخاصة. • إعادة تقييم المصادر: أصبح العلماء ينظرون للأناجيل الأربعة كـ "التيار الذي انتصر"، بينما الأناجيل المنحولة تمثل "التيار الذي خسر" الصراع الأيديولوجي في القرون الأولى. • تطور العقيدة: ساعدت هذه النصوص في فهم كيف اضطرت الكنيسة لتحديد "قانون الإيمان" و"قائمة الأناجيل الرسمية" كرد فعل على انتشار هذه الكتب الغنوصية.
تقييم الأناجيل الأربعة (متى، مرقس، لوقا، يوحنا):
المنظور التقليدي: ينظر إليها باعتبارها الحقائق المطلقة والوحيدة الموحى بها إلهياً. هي سجلات دقيقة ومقدسة لا تكتمل رسالة المسيح بدونها، وتُعد المرجع النهائي لكل عقيدة وسلوك مسيحي.
المنظور العلمي: ينظر إليها كأهم الوثائق التاريخية للمسيحية المبكرة لكونها المصادر الأقدم (القرن الأول) والأكثر انتشاراً جغرافياً. البحث العلمي لا يبحث في "الوحي"، بل في قدرة هذه النصوص على تقديم صورة متماسكة عن "يسوع التاريخي" وسياقه الاجتماعي.
2. طبيعة الأناجيل المنحولة (توما، يهوذا، مريم، إلخ):
المنظور التقليدي: يُصنفها ككتب "هرطقية" أو مزيفة كُتبت بأسماء الرسل زوراً لتمرير تعاليم خاطئة. يرى أنها كانت محاولة لتضليل المؤمنين عن الإيمان المستقيم، لذا وجب عزلها وعدم قراءتها في الكنائس.
المنظور العلمي: يعتبرها وثائق تاريخية بالغة الأهمية؛ فهي لا تُعد "تزييفاً" بقدر ما تُعد تعبيراً عن "تعددية مسيحية". هي تعكس كيف فهمت مجموعات مختلفة (مثل الغنوصيين) شخصية المسيح، وتكشف عن الصراعات الفكرية والفلسفية التي شكلت تاريخ الأديان في القرون الثانية والثالثة.
3. تفسير عملية اختيار "القانون" (Canon):
المنظور التقليدي: يرى أن عملية الاختيار كانت نتيجة إرشاد إلهي لآباء الكنيسة الأوائل، مكنهم من تمييز النصوص الأصلية من المزيفة. الاختيار هنا هو عملية "كشف" عما هو مقدس أصلاً.
• المنظور العلمي: يحلل العملية كإجراء تنظيمي ومؤسساتي لتوحيد الهوية الدينية. كان الهدف من حصر الأناجيل في أربعة هو وضع حد للانقسام الفكري، وبناء هيكل إداري وعقائدي موحد (Orthodoxy) يضمن استمرارية المؤسسة الكنسية في مواجهة التيارات المتشتتة.
الأناجيل المهمشة:
يُعد إنجيل مريم (Gospel of Mary) أحد أكثر النصوص المكتشفة إثارة للجدل، ليس فقط لمحتواه الفلسفي، بل لأنه النص الوحيد الذي يُنسب لامرأة، مما يطرح تساؤلات علمية حول دور المرأة في القيادة الروحية للمسيحية المبكرة.
التحليل الموضوعي لهذا الإنجيل:
1. الاكتشاف والتوثيق • الاكتشاف: لم يُعثر عليه ضمن مخطوطات نجع حمادي، بل اكتُشف قبله في "بردية برلين" (Berlin Codex) عام 1896 في مصر، لكن لم يتم الاهتمام به وتحليله بشكل واسع إلا بعد اكتشاف نجع حمادي. • التاريخ: يُرجح العلماء أن النسخة الأصلية كُتبت باليونانية في القرن الثاني الميلادي (حوالي 120-150م)، والنسخ الموجودة حالياً هي ترجمات قبطية. الحالة: النص يعاني من تآكل كبير؛ حيث فُقدت الصفحات الست الأولى، والصفحات من 11 إلى 14، مما يجعل السرد يبدأ من منتصف حوار بين المسيح وتلاميذه.
2. المحتوى الفكري والسردي ينقسم النص الموجود إلى جزأين أساسيين: • حوار الوداع: يبدأ النص بيسوع (يُسمى في النص "المخلص") وهو يجيب على أسئلة التلاميذ حول طبيعة المادة والخطية، ثم يودعهم ويغادر. صراع السلطة: بعد رحيله، يصاب التلاميذ بالخوف والحزن، فتقف مريم المجدلية لتشجعهم وتكشف لهم عن "رؤيا سرية" خصها بها المسيح. وهنا يظهر الصراع؛ حيث يعترض بطرس على فكرة أن المسيح قد كشف لامرأة ما لم يكشفه للرسل الرجال، ليرد عليه تلميذ آخر (لاوي) مدافعاً عن مريم وعن اختيار المسيح لها.
3. الاختلافات الجوهرية عن الأناجيل القانونية من الناحية العلمية، يبرز "إنجيل مريم" فروقات هامة في الرؤية: 1. الخلاص بالوعي: لا يركز النص على صلب المسيح أو موته الكفاري، بل على "استعادة الروح" واستيقاظ الذات من الجهل. 2. تعريف الخطية: يذكر النص أن "الخطية" ليست فعلاً أخلاقياً بالمعنى التقليدي، بل هي "اختلاط" الروح بالمادة وفقدان الاتزان الروحي. 3. سلطة المرأة: يقدم النص مريم المجدلية كـ "تلميذة متفوقة" تفهم تعاليم المسيح بشكل أعمق من الرسل الرجال، وهو ما يتصادم مع التوجه الذي ساد في القرون اللاحقة باستبعاد النساء من السلطة الكنسية.
4. التحليل المقارن: • من حيث صورة مريم المجدلية: • الأناجيل القانونية: تُصورها كشاهدة أولى على القيامة وتلميذة مخلصة، لكنها تظل ضمن إطار التابعين للرسل. • إنجيل مريم: تُصور كقائدة روحية ومصدر للوحي، بل وتتلقى تعاليم باطنية لم يفهمها بطرس وبقية الرسل. • من حيث طبيعة التعاليم: • الأناجيل القانونية: تعاليم يسوع موجهة للمجتمع، وتتحدث عن الأخلاق، المحبة، والملكوت الذي سيسود الأرض. • إنجيل مريم: التعاليم فردية وباطنية، تركز على صعود الروح عبر طبقات القوى الكونية لتتحرر من الجسد. • من حيث الصراع على الشرعية: • الأناجيل القانونية: تكرس سلطة الرسل الاثني عشر (بقيادة بطرس) كأساس للكنيسة. إنجيل مريم: يعكس صراعاً مبكراً بين "التيار المؤسسي" (الذي يمثله بطرس) و"التيار الروحي/الأنثوي" (الذي تمثله مريم)، وهو الصراع الذي انتهى تاريخياً لصالح التيار الأول.
الخلاصة: إنجيل مريم لا يُستخدم لإثبات حقائق تاريخية عن حياة المسيح، بقدر ما يُستخدم لفهم "المسارات البديلة" التي كانت موجودة في المسيحية الأولى، وكيف تم استبعاد بعض الرؤى التي كانت تعطي دوراً محورياً للمرأة. ***
قصة اكتشاف نجع حمادي:
قصة اكتشاف هذه المخطوطات لا تقل إثارة عن محتواها، فهي التي غيرت خارطة الدراسات الدينية في القرن العشرين، ونقلت "الأناجيل السرية" من مجرد شائعات في كتب المؤرخين القدامى إلى حقائق ملموسة بين أيدينا. إليك القصة والتحليل العلمي لظروف هذا الاكتشاف: 1. الصدفة التي غيرت التاريخ (ديسمبر 1945) في خضم أحداث ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان مزارع مصري يُدعى محمد علي السمان يبحث عن سماد طبيعي (سباخ) عند سفح جبل "الطارف" بالقرب من قرية نجع حمادي بصعيد مصر. • الاكتشاف: عثر على جرة فخارية كبيرة مغلقة بالرصاص. في البداية، تردد في فتحها خوفاً من أن تحتوي على "جن"، لكنه كسرها آملاً في العثور على ذهب. • المحتوى: بدلاً من الذهب، وجد 13 مجلداً (كودكس) من البردي مغلفة بجلود الحيوانات. 2. رحلة المخطوطات من الجبل إلى المتحف لم يدرك المزارع قيمة ما وجد؛ فتقول الرواية إن والدته أحرقت بعض صفحات البردي في الفرن لإعداد الخبز! لكن المخطوطات شقت طريقها تدريجياً عبر تجار الآثار في القاهرة: • السوق السوداء: تم بيع أجزاء منها في السوق السوداء، ووصلت بعض الصفحات إلى يد المحلل النفسي الشهير كارل يونغ في سويسرا (لذا يُعرف أحد المجلدات بـ "مجلد يونغ"). • التدخل الرسمي: أدركت الحكومة المصرية لاحقاً قيمة هذه المخطوطات، وتمت مصادرتها وإيداعها في المتحف القبطي بالقاهرة، حيث بدأت عملية الترميم والترجمة الطويلة. 3. لماذا أُخفيت هذه الكتب أصلاً؟ (التحليل التاريخي) يعتقد العلماء أن هذه المخطوطات كانت تنتمي لمكتبة دير "القديس باخوميوس" القريب من موقع الاكتشاف. • السبب: في عام 367م، أرسل الأسقف أثناسيوس الرسولي (بطريرك الإسكندرية) رسالة شهيرة حدد فيها الكتب "القانونية" فقط، وأمر بالتخلص من الكتب "المزيفة". • الحماية: بدلاً من حرق هذه الكتب، يبدو أن بعض الرهبان الذين كانوا يقدرون هذه النصوص الغنوصية قاموا بوضعها في جرة ودفنها في الصحراء لحمايتها من الإتلاف، وظلت مخفية لمدة 1600 عام. 4. الأثر العلمي لاكتشاف نجع حمادي: إعادة كتابة التاريخ: قبل 1945، كان العلماء يعرفون عن الغنوصية فقط من خلال كتابات أعدائهم (الذين كانوا يقتبسون منهم للرد عليهم). بعد الاكتشاف، أصبح الغنوصيون يتحدثون عن أنفسهم بكلماتهم الخاصة. • فهم التنوع المسيحي: أثبتت المخطوطات أن المسيحية في قرونها الأولى لم تكن كتلة واحدة صماء، بل كانت "فسيفساء" من الأفكار والمدارس الفلسفية التي تصارعت وتفاعلت معاً. • تطور اللغة القبطية: قدمت هذه المخطوطات ذخيرة لغوية هائلة لدارسي اللغة القبطية، حيث أنها تُمثل واحدة من أقدم وأضخم مجموعات النصوص المكتوبة بهذه اللغة. الخلاصة إن اختيار الأناجيل الأربعة لم يكن مجرد صدفة، بل كان جزءاً من عملية بناء هوية كنيسة عالمية موحدة. أما الأناجيل الأخرى التي تكلمنا عنها (توما، يهوذا، مريم)، فقد ظلت "بذوراً" مدفونة في رمال مصر، لتخرج في العصر الحديث وتخبرنا عن عالم فكري كان يوماً ما موازياً لما نعرفه اليوم. قائمة بأهم النصوص المتوفرة حالياً، مصنفة حسب درجة اكتمالها: أولاً: نصوص متوفرة بشكل شبه كامل (أو أجزاء كبيرة) هذه النصوص عُثر عليها في اكتشافات حديثة مثل "مخطوطات نجع حمادي" و"بردية برلين": 1. إنجيل توما (Gospel of Thomas): هو النص الأكمل والأشهر؛ يحتوي على 114 قولاً للمسيح، وعُثر عليه كاملاً باللغة القبطية. 2. إنجيل فيليب (Gospel of Philip): نص غنوصي شبه كامل، يركز على اللاهوت والطقوس (مثل سر الحجلة). 3. إنجيل الحقيقة (Gospel of Truth): يُنسب للقيادي الغنوصي "فالنتينوس"، وهو عبارة عن خطبة لاهوتية بليغة متوفرة بشكل جيد جداً. 4. إنجيل مريم المجدلية (Gospel of Mary): متوفر منه أجزاء كبيرة (حوالي نصف النص الأصلي)، ويفتقد لعدة صفحات في البداية والمنتصف. 5. إنجيل يهوذا (Gospel of Judas): متوفر في "مخطوطة تشاكوس"، وبالرغم من تعرضه للتلف، إلا أن الرسالة الأساسية والحوارات فيه واضحة بعد الترميم. 6. إنجيل يعقوب التمهيدي (Protevangelium of James): نص مكتمل تقريباً، حظي بشعبية كبيرة في العصور الوسطى لأنه يروي تفاصيل حياة مريم العذراء. 7. إنجيل نيكوديموس (أعمال بيلاطس): نص مكتمل يصف محاكمة المسيح ونزوله إلى الجحيم، وهو نص متأخر لكنه متوفر بكامل سرديته. ثانياً: نصوص متوفرة بشكل مجزأ (قصاصات أو شظايا) هذه الأناجيل لم تنجُ منها سوى صفحات قليلة أو فقرات: • إنجيل بطرس: عُثر على جزء كبير منه في مصر عام 1886، يغطي أحداث المحاكمة والصلب والقيامة برؤية مختلفة قليلاً. • إنجيل توما الإسرائيلي (إنجيل الطفولة): توجد منه نسخ متعددة ومختصرة تروي معجزات يسوع الطفل. • إنجيل المصريين اليوناني: لا علاقة له بإنجيل المصريين القبطي، وتوجد منه شذرات قليلة جداً. ثالثاً: نصوص "مفقودة" (نعرفها بالاسم أو الاقتباس فقط) هذه الأناجيل لم يُعثر على مخطوطاتها الأصلية حتى الآن، وما نعرفه عنها مصدره كتب "آباء الكنيسة" الذين فندوها: • إنجيل العبرانيين: كان مستخدماً لدى المسيحيين من أصل يهودي، ولدينا مقتطفات منه في كتابات القديس جيروم. • إنجيل ماركيون: كان نسخة مختصرة من إنجيل لوقا، أعاد العلماء بناء معظمه من خلال الردود التي كتبها "ترتليان" ضده. • إنجيل الاثني عشر: ذكره المؤرخون القدامى ولا يوجد نص ملموس له اليوم. • إنجيل باسيليدس: إنجيل غنوصي مفقود تماماً. رابعاً: قائمة إجمالية للتصنيفات (بصورة متتالية) 1. مجموعة نجع حمادي: تضم (إنجيل توما، إنجيل فيليب، إنجيل الحقيقة، إنجيل المصريين القبطي). 2. أناجيل الطفولة: تضم (إنجيل يعقوب، إنجيل توما للطفولة، إنجيل متى المزيف، إنجيل يوسف النجار). 3. أناجيل الآلام والقيامة: تضم (إنجيل بطرس، إنجيل نيكوديموس، إنجيل غمالائيل). 4. أناجيل الحوارات الغنوصية: تضم (إنجيل مريم، إنجيل يهوذا، حوار المخلص). الخلاصة العلمية: مجموع ما يُطلق عليه "أناجيل منحولة" يتجاوز 50 نصاً، لكن المتوفر منها بين أيدي الباحثين اليوم كنصوص قابلة للقراءة والدراسة لا يتعدى 15 إلى 20 نصاً (تتفاوت في درجة اكتمالها).
#كمال_غبريال (هاشتاغ)
Kamal_Ghobrial#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الميثولوجيا بالكتاب المقدس
-
معجزات وقيامة يسوع- رؤية عقلانية
-
يسوع الأناجيل وانتحال النبوءات
-
شبح -المسيحية الصهيونية-
-
صديقي الجليل د. حسام بدراوي عفواً
-
المسيرة من الطوطمية إلى التوحيد
-
ولادة يسوع العذرية
-
شخصية وخطاب يسوع- رؤية تحليلية
-
يسوع بين التسامي والتطرف
-
الإله -يهوه- وجذوره التاريخية
-
العلاقة بين فلسفة إبكتيتوس والأخلاق المسيحية
-
إبيكتيتوس الجذر الفلسفي للأخلاق المسيحية
-
القبطية الأرثوذكسية وكراهية العالم
-
طيور الشرق الغارقة
-
فراق الإنسان عن الشمبانزي
-
محاكمة ذبيحة- قصة قصيرة
-
الفُلك- قصة قصيرة
-
موسى التوراتي بين التاريخية والأسطورة
-
مختلف مقاربات الموروث المقدس
-
تطور اللاهوت العبراني من التعدد للتوحيد
المزيد.....
-
واشنطن تحذر: -تغلغل الإسلام السياسي- خطر على نووي أوروبا
-
رسالة السيد المسيح
-
وسائل إعلام الكيان المؤقت | حزب -بن غفير- سيعرض على الكنيست
...
-
وسائل إعلام الكيان المؤقت | حزب -بن غفير- سيعرض على الكنيست
...
-
عاجل | بيان لـ21 دولة عربية وإسلامية: نرفض بشكل قاطع إعلان إ
...
-
تاكر كارلسون: تصوير -الإسلام الراديكالي- كتهديد لأمريكا -دعا
...
-
عراقجي: لدينا مبدأين غير قابلين للتنازل: سلمية البرنامج الن
...
-
حمص تشيّع ضحايا تفجير المسجد وغوتيريش يندد بالهجوم
-
المالكي: المسيحيون ملتزمون برفض التطبيع وأي تصريح فردي لا يم
...
-
ترامب يرفض اعتراف إسرائيل بـ-أرض الصومال- وسط إدانة عربية وإ
...
المزيد.....
-
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي
...
/ سامي الذيب
-
الفقه الوعظى : الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
المزيد.....
|