أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال غبريال - شخصية وخطاب يسوع- رؤية تحليلية















المزيد.....



شخصية وخطاب يسوع- رؤية تحليلية


كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)


الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 00:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


بالاستعانة ب Gemini AI
يمكن متابعة رحلة تطور صورة يسوع، من التاريخ إلى اللاهوت عبر 5 مراحل أساسية:
المرحلة الأولى: الصورة الأقرب للواقعية ليسوع التاريخي (30- 33 م):
شاب يهودي من الناصرة، يعظ في الجليل بمفاهيم أعمق لوصايا الشريعة الموسوية. مندداً بالالتزامات الطقسية الحَرْفِيَّة والمظهرية. متحدياً بذلك السلطة الدينية.
هو هكذا معلم ومصلح روحي يهودي جوال. لم يقل صراحةً إنه الله ولا دعا أحداً لعبادته. ولا دعا
لتأسيس ديانة جديدة.
وكانت نهايته الموت مصلوباً بقرار روماني كأحد مثيري الفتنة. تحت ضغط من الغوغاء وشيوخ اليهود. بلا شهرة تُذكر حتى الآن خارج أتباعه القلائل. الذين تفرق أغلبهم فور القبض عليه وصلبه.
يمكن القول أنه حتى الآن كان "ملكوت الله ووصايا موسى" فمركز رسالة يسوع، لا "يسوع" نفسه.
المرحلة الثانية: يسوع الموعود أو المسيا (المسيح) المنتظر (33- 60 م)
في هذه المرحلة كان التأويل الأولي بعد موته من قِبَل تلاميذه، خصوصاً بطرس ويعقوب. فقد آمنوا أنه لم يُهزم، بل قام من بين الأموات. وربطوه بنبوءات "المسيح" المنتظر من اليهود. والذين تصوروا مخلصاً يأتي ليكون ملكاً من نسل داود. يجلس على كرسي داود أبيه. ليعيد مجد إسرائيل بين الأمم.
لكن بالطبع لأنه لم يتحقق في حياة يسوع أي من هذه الصفات والتوقعات. ففقد جاء التلاميذ بيسوع المسيح الجديد، بفهم جديد للمسيا. فكان المسيح المتألم المصلوب. لا المسيح الملك المحارب المنتصر.
وكانت الطقوس الأولى (العشاء الرباني، التعميد) هي علامات رمزية للانتماء.
لم يكن يُعبد بعد، لكن "الإيمان بأنه قام" كان بداية ولادة "المسيحية" كفكرة وانتماء للمصلوب المنتصر على الموت. دون أن يخطر ببال كبار تلاميذه الانفصال عن الدين اليهودي، لتأسيس دين جديد مستقل.
المرحلة الثالثة: المسيح العالمي البولسي (50 – 100 م)
كان شاول الطرسوسي أو بولس الرسول هو نقطة التحول الكبرى. فهو لم يهتم بحياة يسوع وسيرته وكلماته. لأنه أساساً لم يره، ولم يستمع لكلماته. لكنه اهتم بشخص يسوع ذاته، في مرحلة ما بعد القيامة.
فهو في رسائله السابقة لتدوين الأناجيل التي هي مصدر رواية كلمات يسوع وسيرته، نجده يتحدث عن يسوع بوصفه:
• ابن الله
• الوسيط بين الله والناس
• الكائن الأزلي الذي فدى البشرية بموته.
بولس هكذا نقل المحور من التأويل الروحي لشريعة موسى، إلى شخص يسوع نفسه، والذي كان قد تقرر اعتباره مسيحاً.
كما تم الانتقال من اعتبار يسوع مسيحاً مخلصاً يهودياً، إلى اعتباره فادياً لكل البشرية.
هكذا تم الانتقال من الواقع التاريخي والوصايا المرتبطة به، إلى اللاهوتيات والافتراضات الغيبية. التي لا توجد إلا في عالم مواز. أقام بولس أعمدة هيكله الأولي. ليتولى من أخذوا المهمة على عاتقهم بعده استكمال بنيانه.
المرحلة الرابعة: الأناجيل الأربعة (70 – 100 م). التي بدأت تُكتب بعد دمار الهيكل (70 م) وسط صدمة لاهوتية، لم تكن بكاملها سيراً ذاتية. بل كانت ما يمكن اعتباره لاهوتاً روائياً. حيث تختلط فيها الروايات المفترض حدوثها الواقعي، ممزوجة بنزوع لبث إلهيات ولاهوتيات في مجرى الأحداث.
وقد صاغ كل إنجيل يسوع حسب رؤيته:
• مرقس: المسيح المتألم.
• متى: موسى الجديد.
• لوقا: المخلّص الأممي الرحيم.
• يوحنا: الكلمة الأزلية المتجسدة – Logos.
في إنجيل يوحنا فقط يُقال: “أنا والآب واحد” – هنا يُعبد يسوع بوضوح.
المرحلة الخامسة: يسوع الإله الرسمي (القرنان 2-4 م)
في هذه الفترة احتدم الجدل: هل يسوع إله كامل؟
أم إنسان؟
أم خليط بين الإله والإنسان؟ هل هل هو مخلوق أم أزلي؟
اختلف الجميع مع الجميع في كل سؤال من هذه الأسئلة: الأريوسيون، الغنوصيون، الأبيونيون، ……. إلخ.
ثم جاء مجمع نيقية (325 م) ليحسم الجدل:
- يسوع مولود غير مخلوق، واحد مع الآب في الجوهر.
- أصبح “ابن الله الإلهي” هو العقيدة الرسمية.
وتدريجياً تطورت العقيدة الشعبية التي اضطرت الكنائس لتبنيها. لتنتقل بيسوع من الابن الإلهي المولود من الآب قبل كل الدهور، ليصير هو الإله ذاته. ليقف وحده في السدة الإلهية. ويتوارى أو يكاد يتلاشى بجانبه الأقنومان الإلهيان الآخران (الآب والروح القدس).
لتلحق به فيما بعد إلهة عبدتها مختلف شعوب العالم بأسماء شتى. ليعبدها المسيحيون مع ابنها باسم "العذراء مريم". بصفتها "والدة الإله".

هكذا تطورت صورة يسوع من معلم يهودي جوال، إلى إله كامل الألوهية. ترافقه أمه العذراء. ليكون لدينا ثالوثاً من أب وابن وأم. مماثلاً للثالوث الأوزيري المصري، أوزوريس وحورس وإيزيس.

الحقيقة أن الاختلافات الملحوظة في تقديم شخصية يسوع بين الأناجيل الإزائية (متى، مرقس، لوقا) وإنجيل يوحنا ساعدت على هذا التطور في اللاهوت المسيحي.
1. الأناجيل الإزائية: يسوع كـ"معلم يهودي جوال" (السياق التاريخي)
تُقدّم هذه الأناجيل، خاصة مرقس (الأقدم)، يسوع في سياق يركز على دوره كـرجل إصلاح ديني يهودي، ومعلم، وشخصية مسيانية. هذه الصورة هي أقرب إلى ما يُفترض أنه السياق التاريخي لحياة يسوع.
• التركيز على الوظيفة: تركز السردية على أفعال يسوع: شفاء المرضى، طرد الشياطين، وتقديم تعاليم أخلاقية واجتماعية (مثل الموعظة على الجبل).
• مصادر الإسناد: تُشير إلى يسوع مرارًا بلقب "رابي" (معلم). هذا يضعه في إطار الأدوار المألوفة في المجتمع اليهودي في القرن الأول الميلادي.
• اللقب الرئيسي: "ابن الإنسان" هو اللقب الأكثر استخدامًا. وهو مصطلح له جذور في الأدب الرؤيوي اليهودي (دانيال 7) ويمكن تفسيره بأنه لقب مسياني أو ببساطة كناية عن "إنسان".
• المنهج الأدبي: تعتمد على الأمثال، وهي طريقة شائعة لتعليم الحقائق المعقدة في الثقافة اليهودية. هدفها الأساسي هو إظهار يسوع على أنه المسيح اليهودي الموعود.
2. إنجيل يوحنا: يسوع كـ"الكلمة المتجسد" (التطور اللاهوتي)
كُتب إنجيل يوحنا في تاريخ متأخر عن الإزائية (عادةً يُؤرَّخ في نهاية القرن الأول الميلادي)، وهو يعكس مرحلة متقدمة من التفكير اللاهوتي المسيحي، حيث أصبح التركيز على طبيعة المسيح الكونية.
• التركيز على الهوية: يُركز يوحنا بشكل أقل على تعاليم يسوع الأخلاقية وأكثر على هويته الأساسية وعلاقته بـ"الآب" (الله).
• المصطلح الافتتاحي: يفتتح الإنجيل بمصطلح "الكلمة" (اللوغوس). هذا المصطلح له دلالات فلسفية (هيلينية) ولاهوتية (يهودية) واسعة، تهدف إلى إضفاء صفة أزلية وكونية على شخصية يسوع.
• التصريحات المباشرة: بدلاً من الأمثال، يستخدم يوحنا خطابات طويلة ومباشرة ليعلن يسوع فيها عن نفسه بجمل مثل "أنا هو" (تشير إلى اسم يهوه في العهد القديم)، مما يُعتبر تصريحاً لاهوتياً صريحاً بالطبيعة الإلهية.
• الهدف اللاهوتي: الهدف الأدبي لهذا الإنجيل ليس تسجيل التاريخ بشكل أساسي (على الرغم من ادعائه بذلك)، بل هو بناء حجة قوية لاهوتية لدعم الإيمان بـ**"ابن الله"** ككيان ما قبل وجودي.
الخلاصة العقلانية
الاختلاف بين الأناجيل ليس تناقضًا بقدر ما هو تطور في تفسير شخصية يسوع داخل المجتمع المسيحي المبكر.
• الإزائية: تُمثّل التقاليد الأقدم التي ركزت على الجانب المسياني البشري ليسوع.
يوحنا: يُمثّل مرحلة لاحقة في اللاهوت، حيث تم تأويل حياة وتعاليم يسوع من خلال مفهوم أعلى وأكثر تجريدًا للوجود الإلهي الكوني:

1. البداية والوجود الأزلي (الكلمة - اللوغوس)
• يوحنا 1: 1-3: يُقدّم المسيح كـ"الكلمة" التي كانت موجودة في البدء، وكانت "عند الله"، و"كانت الله"، وأن كل شيء بها كان. هذا يمنح الشخصية صفة أزلية ومشاركة في الخلق، تتجاوز مفهوم المعلم البشري.
• يوحنا 1: 14: يؤكد أن "الكلمة صارت جسدًا"، مشيراً إلى أن الطبيعة الإلهية (الكلمة) اتخذت جسداً، وهو ما يُعرف في اللاهوت بالـ"تجسد".
2. إعلانات "أنا هو" (I Am) ودلالتها اللاهوتية
في سلسلة من الخطابات المباشرة، يُعلن يسوع عن هويته باستخدام صيغة "أنا هو" (التي تُعد صدى للاسم الإلهي في العهد القديم، -bm{YHWH})، رابطاً الخلاص والحياة بشخصه:
• يوحنا 8: 58 (الوجود قبل إبراهيم): "قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ»." (تأكيد على الوجود الأبدي قبل خلق البشر).
• يوحنا 6: 35 (خبز الحياة): "فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ..." (يُعلن نفسه كمصدر الحياة الروحية والديمومة).
• يوحنا 11: 25 (القيامة والحياة): "قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ..." (يدعي امتلاك السلطة على الموت والحياة الأبدية، وهي صفة إلهية).
• يوحنا 14: 6 (الطريق والحق والحياة): "قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ..." (يربط الخلاص والحقيقة بشخصه مباشرة، وليس فقط بالتعاليم).
3. الوحدة مع "الآب" والسلطة المطلقة
يُشدد يوحنا على وحدة جوهرية بين يسوع والله، مما يبرر المطالبة بالإكرام الإلهي:
• يوحنا 10: 30: "أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ." (تعبير مباشر عن وحدة الجوهر أو الهدف المطلقة).
• يوحنا 5: 22-23: ينص على أن الآب "أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ، لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ." (مطالبة بالإكرام الإلهي الكامل والسلطة المطلقة في الدينونة).
هذه النصوص تُمثل ذروة التطور اللاهوتي في إنجيل يوحنا، حيث تنتقل صورة يسوع من التركيز على كونه المسيح التاريخي/المعلم (في الإزائية) إلى التركيز على كونه الكيان الكوني/الإلهي المتجسد.

الأدلة على صورة يسوع كـ"معلم يهودي جوال" في الأناجيل الإزائية
تُركز هذه الأناجيل على الجانب الناسوتي (البشري) من حياة يسوع، وتُقدّمه كشخصية تنتمي بوضوح إلى السياق اليهودي في القرن الأول الميلادي.
1. التركيز على الوظيفة التعليمية والألقاب اليهودية
في الأناجيل الإزائية، يُشار إلى يسوع باستمرار بألقاب وظيفية تُضعه في إطار المعلمين والزعماء الدينيين في عصره:
• لقب "المعلم" أو "الرابي": هو اللقب الأكثر شيوعًا الذي يستخدمه الناس وتلاميذه لمخاطبته.
• مرقس 10: 51: "فَقَالَ لَهُ الأَعْمَى: «يَا رَابُّونِي، أَنْ أُبْصِرَ»." (رابي هو لقب معلم ديني يهودي).
• متى 22: 36: "«يَا مُعَلِّمُ، أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ الْعُظْمَى فِي النَّامُوسِ؟»" (استفسار عن الشريعة).
• الوصف الوظيفي الرئيسي: يُقدّم مرقس ولوقا شخصية يسوع كشخص بدأ رسالته بالتعليم في المجامع اليهودية.
• لوقا 4: 15: "وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ مُمَجَّدًا مِنَ الْجَمِيعِ."
2. استخدام الأمثال ومحورية "ملكوت الله"
يتمحور خطاب يسوع في الإزائية حول موضوع محدد ومركزي، ويستخدم أسلوباً تعليمياً يهدف إلى إيصال مفاهيم روحية واجتماعية للجمهور:
• الرسالة المركزية هي "ملكوت الله": لم تكن خطابات يسوع في هذه الأناجيل عن هويته الكونية (كما في يوحنا)، بل عن المبادئ الروحية والأخلاقية التي تحكم "ملكوت الله" (أو "ملكوت السماوات" في متى).
• مرقس 1: 15: "قَائِلاً: «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ»."
• الاعتماد على الأمثال: كان أسلوبه التعليمي يقوم على استخدام القصص الرمزية لشرح المفاهيم المعقدة.
• متى 13: 34-35: "هذَا كُلُّهُ تَكَلَّمَ بِهِ يَسُوعُ بِأَمْثَال لِلْجُمُوعِ، وَبِدُونِ مَثَل لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ."
3. التعامل مع الشريعة اليهودية
تُصوّر الأناجيل الإزائية، وخاصة متى، يسوع كـمُفسِّر للشريعة اليهودية (الناموس)، وليس ككيان إلهي يضع شريعة جديدة بالكامل:
• السلطة في التفسير: يُظهر متى يسوع على أنه المفسر والمكمّل النهائي للشريعة الموسوية.
• متى 5: 17: "«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكْمِلَ»."
• التعاليم الأخلاقية: تُشكّل الموعظة على الجبل (متى 5-7) مجموعة من التعاليم الأخلاقية والاجتماعية التي تركز على تفسير داخلي وعميق للشريعة بدلاً من إعلانات لاهوتية مجردة.
4. ظاهرة "السر المسياني" (في مرقس خاصة)
يُظهر مرقس سلوكاً من يسوع يدعم فكرة إخفاء هويته الحقيقية، وهو ما يتناقض جذرياً مع إعلانات يوحنا الصريحة والمباشرة عن الألوهية:
• مرقس 8: 29-30 (اعتراف بطرس): عندما اعترف بطرس به قائلاً "أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ"، يشدد يسوع عليه وعلى التلاميذ: "وَانْتَهَرَهُمْ لِكَيْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ."
• وصية الصمت: كان يسوع في الإزائية يأمر الذين شفاهم أو الشياطين التي أخرجها بألا يُخبروا أحداً بهويته. هذا السلوك يُعزز صورة شخصية دينية تتبع استراتيجية حذرة في إعلان دورها المسياني.
الخلاصة:
تُركز الأناجيل الإزائية على يسوع التاريخي الذي عاش ومارس نشاطه في منطقة الجليل واليهودية، مُركزاً على التعليم والإصلاح الاجتماعي، ومُستخدماً ألقاباً وظيفية (المعلم، ابن الإنسان)، بينما كان إنجيل يوحنا يركز على تأويل هذه الشخصية في ضوء لاهوت متقدم (الكلمة، ابن الله).

خطاب يسوع بين التسامي والتطرف

لاشك هناك إجماع من المتأملين والمحللين لخطاب يسوع، على السمو الأخلاقي لوصاياه.
لكن المتأمل لخطاب يسوع وسلوكه كما جاء بالأناجيل الأربعة، يجد تطرفاً وذهاباً لحدود قصوى. تجعل التعاليم والمواقف غير عملية وغير مستساغة أو مقبولة. بل وتخرج بها عن حدود المنطق والعقلانية.
وقد يكون المسؤول عن هذا كتاب الأناجيل. الذين أرادوا أن يضيفوا لرواياتهم جِدَّة وغرابة وبهارات للتشويق والإثارة!!

عند تحليل تعاليم وسلوك يسوع كما وردت في الأناجيل الأربعة بمعزل عن التفسيرات الدينية، يمكن تصنيف العديد من أقواله وأفعاله كمبالغات (Hyperbole) تتجاوز النفعية العقلانية والمنطق الاجتماعي السائد.
يظهر هذا التطرف في أربعة مجالات رئيسية:
الأخلاق الشخصية، والسلوك الاجتماعي، والولاء المطلق والنظرة للآخر.

1. التطرف في الأخلاق الشخصية (المغالاة في الإحسان)
تتميز تعاليمه بمغالاة في تطبيق الفضائل إلى حد إهدار الحقوق الشخصية والمنطق النفعي. حيث يُطلب من الفرد التنازل عن الدفاع عن الذات وكرامتها وحقوقها الأساسية:

• المغالاة في السلبية وعدم المقاومة:
في تعليمه "من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً" (متى 5: 39).
يطالب يسوع هنا الإنسان بالتخلي عن غريزة الدفاع عن النفس وحفظ الكرامة الشخصية.
يُنظر إلى هذا المطلب على أنه إهدار للحصانة الشخصية وتشجيع للمعتدي.
وهو موقف يتنافى مع المنطق النفعي للدفاع عن الذات.

• المغالاة في التنازل عن الحقوق:
في مطالبته "ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضاً" (متى 5: 40).
يرفض يسوع مبدأ التملك وحفظ الحقوق الأساسية، حتى الضرورية منها (الثوب والرداء).
هذا الموقف غير عملي في أي نظام قانوني أو اقتصادي.

• المغالاة في الخضوع غير المبرر:
الأمر بـ "ومن سخرك ميلاً واحداً، فاذهب معه اثنين" (متى 5: 41)
هو بذل جهد مضاعف دون مقابل أو سبب نفعي. هذا يتجاوز العقلانية في التعامل مع علاقة القوة والسلطة المفروضة.

• المغالاة في محاسبة الذات والانضباط:
تعليم "إن أعثرتك عينك، فاقلعها وألقها عنك" (متى 5: 29)

هو استخدام مبالغ فيه للتعبير عن أن القضاء على مصدر الخطيئة يجب أن يكون على حساب سلامة الجسد أو راحته.
مما يؤكد على أن الحلول يجب أن تكون جذرية ومؤلمة.

كذلك قوله:

"وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ." (مت 5: 28)

فهذا التطهر المبالغ فيه يؤدي لنتائج أخلاقية عكسية سلبية. حيث يتوجس الإنسان المؤمن بهذا من مجرد النظر لامرأة. تحسباً أن يتبع النظرة شهوة، فيحسب زانياً.

• وضع معيار غير بشري للكمال:

المطالبة بـ "فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" (متى 5: 48)

هي وضع معيار للكمال المطلق لا يمكن تحقيقه منطقياً من قبل كائن بشري محدود. مما يمثل أقصى درجات التطرف الأخلاقي.

2. التطرف في التخلي عن الروابط الاجتماعية والمنطق النفعي:

أظهر يسوع مطالبة بولاء تفكك العلاقات الاجتماعية والالتزامات العائلية الأساسية، إلى جانب دعوته للعيش بالتوكل المطلق:

• تفكيك الروابط العائلية:

في لوقا 14: 26، طالب يسوع بـ "كراهية" الأهل والأبناء والزوجة ليكون المرء تلميذاً له.
يعد هذا المطلب هدمًا لمؤسسة الأسرة (الوحدة الأساسية للمجتمع) ويتعارض مع مبادئ البر بالوالدين والحفاظ على النسل.

• إلغاء الواجبات الاجتماعية:

عندما طلب شخص الإذن لدفن أبيه، أمره يسوع بـ "اتبعني، ودع الموتى يدفنون موتاهم" (متى 8: 21-22).

هذا الموقف يلغي الواجبات الاجتماعية/الدينية المقدسة (دفن الميت) لصالح ولاء فوري غير قابل للتأجيل. وهو غير المقبول اجتماعياً.

• إلغاء الاهتمام بالحاجات الأساسية والتوكل المطلق:

أمر التلاميذ بـ "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون... ولا لأجسادكم بما تلبسون" (متى 6: 25-26).

هذا الموقف يضع معيارًا غير عملي للمعيشة. حيث يلغي التخطيط للمستقبل ويتوقع أن تُلبى الحاجات الضرورية بالتوكل وحده، مما يتناقض مع النفعية الاقتصادية ومبدأ العمل.

كذلك حالة الرجل الرجل الذي طلب منه يسوع أن يوزع أمواله كلها على الفقراء ويتبعه هو الشاب الغني.

"قال له يسوع: إن أردت أن تكون كاملاً، فاذهب بعْ أملاكك وأعطِ الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني ." (متى 19: 21)

فليس من المنطقي ولا الطبيعي أن يفعل المؤمن هذا. فيصير معدماً، ويتبع يسوع ليعيش بعد ذلك على التسول!!

• الولاء الذي يلغي أي انتماء آخر:

قوله "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله" (لوقا 9: 62)

يطالب بولاء فوري وكامل يلغي أي تردد أو انشغال بأي تفاصيل من الحياة القديمة أو التفكير في الماضي.

3. التطرف في السلوك المناهض للنظام
على الصعيد السلوكي:

اتخذ يسوع مواقف حادة ضد المؤسسات القائمة، مما يدل على تحديه الصريح للوضع الديني والاجتماعي الراهن:

• تطهير الهيكل (متى 21: 12-13):
قام بالاعتداء على التجار في المعبد. هذا العمل يمثل عملية تخريبية عنيفة موجهة ضد النظام الاقتصادي المعتمد داخل المؤسسة الدينية، ويعد تحدياً للسلطة الدينية والمدنية القائمة.

الخلاصة العقلانية:

لقد اتبع يسوع أسلوباً تعليمياً جذرياً. لم تكن تعاليمه تدعو إلى تحسين أخلاقي تدريجي، بل إلى ثورة أخلاقية شاملة تتطلب التخلي التام عن المنطق النفعي والاجتماعي المعتاد.

هذا السلوك والتعليم يمكن وصفه بأنه "متطرف" لأنه يذهب إلى أقصى حدود الفكرة الحسنة (كالإحسان والتسامح) لدرجة تصبح فيها غير مستساغة أو غير عقلانية من منظور الحفاظ على الذات والحقوق الشخصية والروابط الاجتماعية.

4. 🐶 التطرف في الخطاب: وصف الآخر بـ "الكلاب"
يظهر هذا الشاهد بوضوح في إنجيلي متى ومرقس، ويُعتبر من النصوص الأكثر إثارة للجدل في وصف تعامل يسوع مع "الآخر" (غير اليهودي):

السياق: جاءت امرأة كنعانية (من خارج بني إسرائيل) تطلب منه شفاء ابنتها المريضة. في البداية، رفض يسوع التحدث إليها.
الخطاب المتطرف (متى 15: 26):
"فأجاب وقال: ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب."

التحليل العقلاني للمغالاة في الخطاب
إذا جردنا هذا التصريح من أي تبريرات لاهوتية (مثل تفسيره على أنه اختبار لإيمانها)، فإن استخدامه لمصطلح "الكلاب" يحمل الدلالات التالية:

1. التمييز والإقصاء: استخدام مصطلح "الكلاب" (الذي كان يستخدمه اليهود بشكل عام لوصف غير اليهود أو "الأمم") يضع غير اليهود في مرتبة أدنى بشكل عنصري أو طبقي. هذا يعكس تطرفاً في منطق الأولوية، حيث يُصَرَّح بأن استحقاق بني إسرائيل (البنين) هو مطلق وكامل، بينما استحقاق الآخرين هو معدوم أو مشروط بفتات.

2. المغالاة في الإهانة: بالرغم من أن بعض التفسيرات اللاهوتية تشير إلى أن الكلمة اليونانية المستخدمة هنا (-kappa-upsilon-nu-acute{-alpha}-rho-iota-alpha, kynaria) تعني "الكلاب الصغيرة المدللة" أو "الجِراء"، إلا أن المصطلح يحمل في سياقه الثقافي درجة من الإهانة والتحقير للشخص طالب المساعدة، وهو سلوك يتعارض مع مبدأ الشفقة المطلقة.

3. التراجع عن المبدأ: يظهر التطرف في هذا الخطاب ثم يتبعه تراجع سريع بعد رد المرأة الذكي، مما يشير إلى أن الخطاب المتطرف الأولي لم يكن حاسماً، بل كان عرضة للتغيير عندما قُوبل بذكاء وإيمان.
يُعد هذا الشاهد مثالاً واضحاً على أن التطرف في أفكار يسوع لم يقتصر فقط على مطالبه الأخلاقية الجذرية من أتباعه، بل امتد أحياناً إلى الخطاب الإقصائي عند تحديد دائرة المستحقين لعمله أو رحمته.

كذلك يُعَدّ خطاب يسوع للكتبة والفريسيين من أقوى الأمثلة على التطرف في الخطاب الانتقادي والاتهامي، حيث تجاوز النقد اللاهوتي والديني إلى التنديد العلني الشديد الذي يهدف إلى فضح نفاقهم أمام الجمهور.

🔥 التطرف في الخطاب الانتقادي:
الكتبة والفريسيون
يظهر هذا التطرف بشكل مكثف وعلني في "ويلات الكتبة والفريسيين" (سفر متى الإصحاح 23، ومرقس 12، ولوقا 11)، حيث استخدم يسوع لغة لاذعة وعبارات قاسية لا تتفق مع المألوف من الخطاب الهادئ أو الدبلوماسي.

1. التطرف في استخدام لغة التحقير والتهديد
استخدم يسوع لغة هجومية مباشرة، متجاوزًا حدود الجدل الديني التقليدي:

- وصفهم بالنفاق (Hypocrisy): كرر يسوع كلمة "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المرآؤون" ثماني مرات في متى 23 وحدها. وصفهم بالرياء هو اتهام علني بخداع الجمهور وعدم الصدق في الإيمان.

- وصفهم بالعمى والسفاهة: خاطبهم بـ "أيها القادة العميان" (متى 23: 16) و"يا جهلاء وعميان" (متى 23: 17). هذا تحقير صريح لقادة كانوا يُعتبرون حكماء وقادة الشعب.

- شبيههم بالقاذورات (متى 23: 27): استخدم تشبيهاً صادماً لوصف فسادهم الداخلي:

"ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! لأنكم تشبهون قبوراً مُبيّضة، تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة."

التحليل العقلاني: مقارنة القادة الدينيين بالقبور المملوءة بالعظام والنجاسة (وهو أقصى درجات النجاسة في الشريعة اليهودية) هو تطرف في الإهانة البلاغية يهدف إلى نزع أي احترام مجتمعي لهم.

- وصفهم بالسموم (متى 23: 33): وصفهم بـ "أيها الحيّات أولاد الأفاعي! كيف تهربون من دينونة جهنم؟" هذا يصفهم بأنهم مصدر للشر والهلاك، ويهدد بوضوح بمصيرهم الأبدي.

2. التطرف في فضح التناقضات والتركيز على الشكليات
انتقد يسوع التركيز المبالغ فيه على الشكليات على حساب الجوهر، واصفاً هذا النهج بأنه مجرد:

• إهمال الجوهر: انتقد اهتمامهم الدقيق بدفع عشور (جزء من العشرة) "النعناع والشبث والكمون" (أي النباتات والأعشاب التافهة)، بينما "تركتم أثقل الناموس: الحق والرحمة والإيمان" (متى 23: 23). هذا التطرف في الالتزام بالتفاهات وإهمال الأصول يُصنَّف كـ تطرف شكلي عقيم.

• التطهير الخارجي الزائف: انتقد تركيزهم على تنظيف "كأس وآنية من خارج"، بينما "هما من داخل مملوآن اختطافاً ودعارة" (متى 23: 25). هذا يوضح أن تطرفهم الشكلي غطى على الفساد الداخلي الجذري.

3. التطرف في التهديد بعواقب تاريخية
لم يكتفِ يسوع بتهديدهم بمصيرهم الشخصي، بل حملهم مسؤولية دماء الأبرياء عبر التاريخ:

تحميل مسؤولية الدماء القديمة (متى 23: 35):

"لكي يأتي عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض، من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن بَرَخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح."

التحليل العقلاني:
تحميل جيل من القادة مسؤولية كل الدماء المسفوكة في التاريخ اليهودي هو مبالغة تاريخية قاسية، تهدف إلى إظهار أن فسادهم قد بلغ ذروته ويستدعي عقاباً يتجاوز أفعالهم الفردية.

بناءً على ما تقدم، يمكن القول إن خطاب يسوع للكتبة والفريسيين يُعد مثالاً للتطرف في اللغة الهجومية والعلنية، حيث استخدم أقصى درجات التجريح والتهديد والوصف القاسي لتحقيق ثورة في الوعي العام ضد السلطة الدينية القائمة.

أخيراً علينا أن نقر أن مايُعد تطرفاً في خطاب يسوع، لم يترتب عليه تطرفاً سلبياً لدى المؤمنين به. إلا في حالات استثنائية. في حين بقى السمو والتسامي الأخلاقي هو الصفة المميزة والثمرة لتعاليم يسوع.

لكن هناك نوعاً آخر من المبالغة في الخطاب المنسوب ليسوع. خاصة مانجده في إنجيل يوحنا:

التطرف في الذاتية:
تحليل عقلاني لادعاءات يسوع في إنجيل يوحنا
إن تصريحات يسوع عن نفسه وعلاقته بالله، خاصة في إنجيل يوحنا، تبرز من منظور عقلاني بحت كتصريحات تطرفية أو مغالية في ادعاء الذات. تتجاوز هذه الأقوال حدود الطبيعة البشرية المألوفة وتطالب بمنزلة مساوية للمطلق (الله)، مما يجعلها تصادم المنطق التوحيدي التقليدي.

1. التطرف في الهوية الوجودية (المساواة مع الله)
تُعتبر هذه الأقوال الأكثر جذرية وتطرفاً لأنها تكسر الفصل بين الخالق والمخلوق، وتضع المتحدث في منزلة إلهية:

• المساواة في الجوهر: قوله: "أنا والآب واحد" (يوحنا 10: 30) هو ادعاء صريح بالوحدة في الجوهر والكيان مع المطلق (الآب). هذا يُعد تجاوزاً لاهوتياً ضمن الإطار التوحيدي، حيث يضع يسوع في منزلة مساوية للذات الإلهية، وهو ما أدى مباشرة إلى اتهامه بالتجديف.

• الأسبقية على الزمن والتاريخ: في قوله: "قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن [أو "أنا هو"]" (يوحنا 8: 58)، يستخدم يسوع عبارة "أنا هو" ويدّعي الوجود قبل إبراهيم. يُصنف هذا كـ تطرف في الادعاء بالوجود الأزلي الذي لا يحده الزمن، وهي صفة تُنسب لله وحده، ويتنافى مع منطق الوجود البشري المحدود.

2. التطرف في الدور الكوني والسلطة المطلقة
في إنجيل يوحنا، يقدم يسوع نفسه كمركز للوجود والخلاص عبر سلسلة من العبارات المطلقة، مُسنداً لنفسه صلاحيات لا تُمنح إلا للقوة المطلقة:

• التفرد المطلق في الخلاص (المغالاة في الإلزامية): ادعاء: "أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي." (يوحنا 14: 6). هذا القول يلغي جميع السبل والوسائل الأخرى للخلاص أو المعرفة الإلهية، ويجعل من ذاته الشرط الوحيد والنهائي للوصول إلى الله، وهو تطرف في تحديد المسار الحصري للحقيقة.

• مصدر الحياة الكوني (المغالاة في الوظيفة): تصريحه: "أنا هو الخبز النازل من السماء... إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد." (يوحنا 6: 41، 51). هذا التشبيه يضع كيان المتحدث كقوة حافظة ومصدر للحياة الروحية الأزلية، وهو تطرف رمزي في وصف وظيفته.
• مصدر النور المطلق (المغالاة في المعرفة): قوله:

"أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة." (يوحنا 8: 12).
هنا ادعاء بأنه المصدر المطلق للمعرفة والحقيقة (النور)، مما يعني أن أي معرفة خارج إطاره هي ضلال (ظلمة).

• المساواة في الفعل والسلطة المطلقة: الإشارة إلى أن الآب "دفع كل الدينونة إلى الابن" (يوحنا 5: 22) والقول إن "مهما عمل ذلك [الآب]، فكذلك الابن أيضاً يعمل" (يوحنا 5: 19).
هذا يضع المتحدث في علاقة من الوحدة في العمل والصلاحيات مع الإله. الادعاء بأن لديه سلطة مطلقة على الحياة والموت والدينونة هو تطرف في الادعاء بالصلاحيات الإلهية، حيث تُعد الدينونة الوظيفة الأسمى للكيان المطلق.

الخلاصة:

من منظور عقلاني بحت، تُعتبر هذه الادعاءات متطرفة لأنها تتنافى مع المنطق الإنساني المألوف وتتجاوز حدود الادعاءات البشرية (كالنبوة أو الزعامة) إلى ادعاءات وجودية وكونية، تطالب بمساواته في الجوهر والسلطة مع القوة المطلقة. هذه الأقوال تتطلب قفزة في القبول الوجودي وتُصنف على أنها نص يتسم بالمغالاة الذاتية.

والحقيقة أن هذه الأقوال المغالية في الذاتية يختص بها إنجيل يوحنا وحده. آخر الأناجيل في التدوين. وهي مختلفة جذرياً عن أقوال يسوع في الأناجيل الإزائية الثلاثة الأخرى. مما يقوي احتمال أنها من وحي قريحة كاتب إنجيل يوحنا. الذي بعد مرور حوالي قرن من الزمان على صلب يسوع، أراد أن يرفع قدره إلى مرتبة إله.

إن تحليل الاتزان السيكولوجي (النفسي) لشخصية تاريخية مثل يسوع، كما صُوِّرت في الأناجيل، يتطلب منهجًا عقلانياً وتجريدياً لكون الأناجيل نصوصاً دينية وليست سجلات طبية أو تحليلية نفسية.
من منظور علم النفس الحديث، قد تُفسَّر بعض تصرفات يسوع وأقواله، التي وُصفت سابقاً بأنها "تطرف" أو "مبالغة"، على أنها سلوكيات تشير إلى التحدي العميق للوضع الراهن أو الـ"أنا" المتضخمة (Grandiose Self)، لكنها لا تُشير بالضرورة إلى اختلال نفسي بالمعنى السريري.
🔍
تحليل سلوكيات يسوع من منظور سيكولوجي محايد
يمكن النظر إلى سلوك يسوع وتعاليمه التي تتسم بالجذرية على أنها أدلة قد تثير التساؤل حول اتزانه النفسي إذا طُبِقت عليها معايير السلوك الاجتماعي المألوف أو المنطق النفعي، ولكن قد تندرج تحت تصنيف الكاريزما المتطرفة (Extreme Charisma):
1. التطرف في الهوية الذاتية (Grandiose Claims)
الادعاءات التي تُثير الشك هي تلك التي تتجاوز حدود الطبيعة البشرية:

• وحدة الكيان والسلطة المطلقة: تصريحات مثل "أنا والآب واحد" (يوحنا 10: 30) أو امتلاكه سلطة الدينونة على العالم (يوحنا 5: 22).

• التحليل السيكولوجي: قد تُفسَّر هذه الادعاءات كـ أوهام العظمة (Delusions of Grandeur)، حيث يعتقد الفرد أنه يمتلك قوة، معرفة، أو هوية إلهية تفوق الواقع. في سياق غير ديني، يُنظر إلى هذا على أنه علامة على اضطراب نفسي محتمل.

• الأولوية على كل شيء: المطالبة بولاء يفوق الروابط العائلية والواجبات الأساسية ("دع الموتى يدفنون موتاهم")

• التحليل السيكولوجي: قد يشير هذا إلى نزعة مطلقة في تقدير الذات ووضعها كمركز وحيد ونهائي للوجود، مما يتطلب تضحيات جذرية من التابعين، وهذا قد يترافق مع شخصيات تتمتع بنفوذ كاريزمي هائل.

2. التطرف في التفاعل الاجتماعي والسلوك (Anti-Social´-or-Disruptive Behavior)

• العنف غير المتوقع: حادثة تطهير الهيكل، حيث طرد يسوع الباعة والصيارفة باستخدام سوط (يوحنا 2: 15).

• التحليل السيكولوجي: هذا الفعل يُعتبر سلوكاً عدوانياً ومخلاً بالنظام العام في سياق مدني. قد يُفسَّر على أنه رد فعل غاضب ومبالغ فيه (Extreme Impulsivity) على انتهاك ديني، وهو سلوك يخرج عن نطاق ضبط النفس المتوقع في المواقف الاجتماعية.

• الخطاب العدواني والإقصائي: وصف القادة الدينيين بـ "القبور المبيضة" و"أولاد الأفاعي"، ووصف غير اليهود بـ "الكلاب".

• التحليل السيكولوجي: هذا يشير إلى نمط سلوكي عدائي ومزدري (Hostile and Disdainful) تجاه المعارضين و"الآخر". الاستخدام المتكرر للمبالغة الشديدة في الإهانة قد يخدم غرضاً كاريزمياً (إحداث صدمة)، لكنه لا يتفق مع الاتزان العاطفي الهادئ.

3. التطرف في الأخلاق (Abnormal Altruism)

• المطالب الأخلاقية غير العملية: طلب محبة الأعداء، وتقديم الخد الآخر، والتخلي عن الحقوق والممتلكات.

• التحليل السيكولوجي: هذا سلوك قد يُفسر على أنه إيثار مُبالغ فيه (Extreme Altruism) يتعارض مع غريزة البقاء والحفظ الذاتي. رغم أن علم النفس لا يصنف الإيثار كاختلال، فإن المطالبة بالتخلي الكامل عن كل حقوق الدفاع عن النفس تُعد جذرية للغاية وتتجاوز الحدود المعقولة للنظام الاجتماعي المستدام.

⚖ الخُلاصة العقلانية

من وجهة نظر عقلانية محضة، إذا تم تطبيق الأدوات التشخيصية الحديثة على النصوص الإنجيلية:

1. هناك أدلة على سلوكيات مغالية (Extreme Behaviors) وادعاءات ذاتية متطرفة (Grandiose Claims). هذه الأدلة قد تتطابق مع جوانب من اضطرابات الشخصية النرجسية (بسبب تضخم الأنا) أو الذهانية (بسبب أوهام العظمة)، إذا تم تجاهل السياق الديني والثقافي.

2. التفسير الكاريزمي: يفضل التحليل الاجتماعي-النفسي اعتبار يسوع قائدًا كاريزميًا استثنائياً. الكاريزما غالباً ما تنطوي على سلوكيات جذرية تتحدى الأعراف، وادعاءات مطلقة، وتطلعات غير عادية، لإلهام أتباع جدد وتأسيس حركة جديدة.

3. النصوص الدينية ليست دليلاً سريرياً: لا يمكن إصدار حكم سريري نهائي بناءً على نصوص كتبت لأغراض لاهوتية، حيث من المرجح أن تكون هذه المبالغات متعمدة لأغراض تعليمية وإثبات مكانة لاهوتية وليست انعكاساً دقيقاً ومحايداً لحالته النفسية اليومية.

لذا، يمكن القول إن الأناجيل تصف شخصية ذات سلوكيات وأقوال متطرفة تتحدى المنطق السائد والمعايير الاجتماعية، لكن ما إذا كانت هذه الأدلة تشير إلى اختلال سيكولوجي حقيقي أم إلى كاريزما دينية ثورية يبقى محل جدل يعتمد على إطار التحليل المستخدم.



#كمال_غبريال (هاشتاغ)       Kamal_Ghobrial#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يسوع بين التسامي والتطرف
- الإله -يهوه- وجذوره التاريخية
- العلاقة بين فلسفة إبكتيتوس والأخلاق المسيحية
- إبيكتيتوس الجذر الفلسفي للأخلاق المسيحية
- القبطية الأرثوذكسية وكراهية العالم
- طيور الشرق الغارقة
- فراق الإنسان عن الشمبانزي
- محاكمة ذبيحة- قصة قصيرة
- الفُلك- قصة قصيرة
- موسى التوراتي بين التاريخية والأسطورة
- مختلف مقاربات الموروث المقدس
- تطور اللاهوت العبراني من التعدد للتوحيد
- معضلة مسؤولية القمة والقاعدة
- القاعدة أم القمة
- الچينات واختلاف ذكاء الشعوب
- رسالة يسوع
- قراءة في فنجان الإنسانية
- -ربّنا بالمقاس-. . عفواً د. حسام بدراوي
- مقال قديم سنوات اللاحسم
- القرن الرابع وتأليه يسوع


المزيد.....




- تطبيع المغرب وإسرائيل: الإسلاميون بين المرجعية الأخلاقية ومت ...
- السلطات السورية تمنح الضوء الأخضر لاستعادة ممتلكات يهودية صا ...
- إيهود أولمرت: جرائم حرب إسرائيلية يومية في الضفة.. ولن أسكت ...
- قائد الثورة: الشعب الإيراني أحبط مساعي العدو لتغيير هويته ال ...
- مراسم ذكرى ولادة السيّدة فاطمة الزهراء (ع) بحضور قائد الثورة ...
- فلوريدا وتكساس تصنفان الإخوان المسلمين و-كير- منظمتين إرهابي ...
- حاخامين -إسرائيليين- يفتتحان أول معبد ومدرسة يهودية في حلب! ...
- السلطات السورية تمنح ترخيصا لمنظمة تعمل على استعادة ممتلكات ...
- تأسيس أول جمعية يهودية في سوريا لحماية التراث
- السلطات السورية ترخّص منظمة ستعمل على استعادة ممتلكات اليهود ...


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال غبريال - شخصية وخطاب يسوع- رؤية تحليلية