أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال غبريال - يسوع بين التسامي والتطرف















المزيد.....


يسوع بين التسامي والتطرف


كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)


الحوار المتمدن-العدد: 8550 - 2025 / 12 / 8 - 09:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لاشك هناك إجماع من المتأملين والمحللين لخطاب يسوع، على السمو الأخلاقي لوصاياه.
لكن المتأمل لخطاب يسوع وسلوكه كما جاء بالأناجيل الأربعة، يجد تطرفاً وذهاباً لحدود قصوى. تجعل التعاليم والمواقف غير عملية وغير مستساغة أو مقبولة. بل وتخرج بها عن حدود المنطق والعقلانية.
وقد يكون المسؤول عن هذا كتاب الأناجيل. الذين أرادوا أن يضيفوا لرواياتهم جِدَّة وغرابة وبهارات للتشويق والإثارة!!

عند تحليل تعاليم وسلوك يسوع كما وردت في الأناجيل الأربعة بمعزل عن التفسيرات الدينية، يمكن تصنيف العديد من أقواله وأفعاله كمبالغات (Hyperbole) تتجاوز النفعية العقلانية والمنطق الاجتماعي السائد.
يظهر هذا التطرف في أربعة مجالات رئيسية:
الأخلاق الشخصية، والسلوك الاجتماعي، والولاء المطلق والنظرة للآخر.

1. التطرف في الأخلاق الشخصية (المغالاة في الإحسان)
تتميز تعاليمه بمغالاة في تطبيق الفضائل إلى حد إهدار الحقوق الشخصية والمنطق النفعي. حيث يُطلب من الفرد التنازل عن الدفاع عن الذات وكرامتها وحقوقها الأساسية:

• المغالاة في السلبية وعدم المقاومة:
في تعليمه "من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً" (متى 5: 39).
يطالب يسوع هنا الإنسان بالتخلي عن غريزة الدفاع عن النفس وحفظ الكرامة الشخصية.
يُنظر إلى هذا المطلب على أنه إهدار للحصانة الشخصية وتشجيع للمعتدي.
وهو موقف يتنافى مع المنطق النفعي للدفاع عن الذات.

• المغالاة في التنازل عن الحقوق:
في مطالبته "ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضاً" (متى 5: 40).
يرفض يسوع مبدأ التملك وحفظ الحقوق الأساسية، حتى الضرورية منها (الثوب والرداء).
هذا الموقف غير عملي في أي نظام قانوني أو اقتصادي.

• المغالاة في الخضوع غير المبرر:
الأمر بـ "ومن سخرك ميلاً واحداً، فاذهب معه اثنين" (متى 5: 41)
هو بذل جهد مضاعف دون مقابل أو سبب نفعي. هذا يتجاوز العقلانية في التعامل مع علاقة القوة والسلطة المفروضة.

• المغالاة في محاسبة الذات والانضباط:
تعليم "إن أعثرتك عينك، فاقلعها وألقها عنك" (متى 5: 29)

هو استخدام مبالغ فيه للتعبير عن أن القضاء على مصدر الخطيئة يجب أن يكون على حساب سلامة الجسد أو راحته.
مما يؤكد على أن الحلول يجب أن تكون جذرية ومؤلمة.

كذلك قوله:

"وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ." (مت 5: 28)

فهذا التطهر المبالغ فيه يؤدي لنتائج أخلاقية عكسية سلبية. حيث يتوجس الإنسان المؤمن بهذا من مجرد النظر لامرأة. تحسباً أن يتبع النظرة شهوة، فيحسب زانياً.

• وضع معيار غير بشري للكمال:

المطالبة بـ "فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" (متى 5: 48)

هي وضع معيار للكمال المطلق لا يمكن تحقيقه منطقياً من قبل كائن بشري محدود. مما يمثل أقصى درجات التطرف الأخلاقي.

2. التطرف في التخلي عن الروابط الاجتماعية والمنطق النفعي:

أظهر يسوع مطالبة بولاء تفكك العلاقات الاجتماعية والالتزامات العائلية الأساسية، إلى جانب دعوته للعيش بالتوكل المطلق:

• تفكيك الروابط العائلية:

في لوقا 14: 26، طالب يسوع بـ "كراهية" الأهل والأبناء والزوجة ليكون المرء تلميذاً له.
يعد هذا المطلب هدمًا لمؤسسة الأسرة (الوحدة الأساسية للمجتمع) ويتعارض مع مبادئ البر بالوالدين والحفاظ على النسل.

• إلغاء الواجبات الاجتماعية:

عندما طلب شخص الإذن لدفن أبيه، أمره يسوع بـ "اتبعني، ودع الموتى يدفنون موتاهم" (متى 8: 21-22).

هذا الموقف يلغي الواجبات الاجتماعية/الدينية المقدسة (دفن الميت) لصالح ولاء فوري غير قابل للتأجيل. وهو غير المقبول اجتماعياً.

• إلغاء الاهتمام بالحاجات الأساسية والتوكل المطلق:

أمر التلاميذ بـ "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون... ولا لأجسادكم بما تلبسون" (متى 6: 25-26).

هذا الموقف يضع معيارًا غير عملي للمعيشة. حيث يلغي التخطيط للمستقبل ويتوقع أن تُلبى الحاجات الضرورية بالتوكل وحده، مما يتناقض مع النفعية الاقتصادية ومبدأ العمل.

كذلك حالة الرجل الرجل الذي طلب منه يسوع أن يوزع أمواله كلها على الفقراء ويتبعه هو الشاب الغني.

"قال له يسوع: إن أردت أن تكون كاملاً، فاذهب بعْ أملاكك وأعطِ الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني ." (متى 19: 21)

فليس من المنطقي ولا الطبيعي أن يفعل المؤمن هذا. فيصير معدماً، ويتبع يسوع ليعيش بعد ذلك على التسول!!

• الولاء الذي يلغي أي انتماء آخر:

قوله "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله" (لوقا 9: 62)

يطالب بولاء فوري وكامل يلغي أي تردد أو انشغال بأي تفاصيل من الحياة القديمة أو التفكير في الماضي.

3. التطرف في السلوك المناهض للنظام
على الصعيد السلوكي:

اتخذ يسوع مواقف حادة ضد المؤسسات القائمة، مما يدل على تحديه الصريح للوضع الديني والاجتماعي الراهن:

• تطهير الهيكل (متى 21: 12-13):
قام بالاعتداء على التجار في المعبد. هذا العمل يمثل عملية تخريبية عنيفة موجهة ضد النظام الاقتصادي المعتمد داخل المؤسسة الدينية، ويعد تحدياً للسلطة الدينية والمدنية القائمة.

الخلاصة العقلانية:

لقد اتبع يسوع أسلوباً تعليمياً جذرياً. لم تكن تعاليمه تدعو إلى تحسين أخلاقي تدريجي، بل إلى ثورة أخلاقية شاملة تتطلب التخلي التام عن المنطق النفعي والاجتماعي المعتاد.

هذا السلوك والتعليم يمكن وصفه بأنه "متطرف" لأنه يذهب إلى أقصى حدود الفكرة الحسنة (كالإحسان والتسامح) لدرجة تصبح فيها غير مستساغة أو غير عقلانية من منظور الحفاظ على الذات والحقوق الشخصية والروابط الاجتماعية.

4. 🐶 التطرف في الخطاب: وصف الآخر بـ "الكلاب"
يظهر هذا الشاهد بوضوح في إنجيلي متى ومرقس، ويُعتبر من النصوص الأكثر إثارة للجدل في وصف تعامل يسوع مع "الآخر" (غير اليهودي):

السياق: جاءت امرأة كنعانية (من خارج بني إسرائيل) تطلب منه شفاء ابنتها المريضة. في البداية، رفض يسوع التحدث إليها.
الخطاب المتطرف (متى 15: 26):
"فأجاب وقال: ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب."

التحليل العقلاني للمغالاة في الخطاب
إذا جردنا هذا التصريح من أي تبريرات لاهوتية (مثل تفسيره على أنه اختبار لإيمانها)، فإن استخدامه لمصطلح "الكلاب" يحمل الدلالات التالية:

1. التمييز والإقصاء: استخدام مصطلح "الكلاب" (الذي كان يستخدمه اليهود بشكل عام لوصف غير اليهود أو "الأمم") يضع غير اليهود في مرتبة أدنى بشكل عنصري أو طبقي. هذا يعكس تطرفاً في منطق الأولوية، حيث يُصَرَّح بأن استحقاق بني إسرائيل (البنين) هو مطلق وكامل، بينما استحقاق الآخرين هو معدوم أو مشروط بفتات.

2. المغالاة في الإهانة: بالرغم من أن بعض التفسيرات اللاهوتية تشير إلى أن الكلمة اليونانية المستخدمة هنا (-kappa-upsilon-nu-acute{-alpha}-rho-iota-alpha, kynaria) تعني "الكلاب الصغيرة المدللة" أو "الجِراء"، إلا أن المصطلح يحمل في سياقه الثقافي درجة من الإهانة والتحقير للشخص طالب المساعدة، وهو سلوك يتعارض مع مبدأ الشفقة المطلقة.

3. التراجع عن المبدأ: يظهر التطرف في هذا الخطاب ثم يتبعه تراجع سريع بعد رد المرأة الذكي، مما يشير إلى أن الخطاب المتطرف الأولي لم يكن حاسماً، بل كان عرضة للتغيير عندما قُوبل بذكاء وإيمان.
يُعد هذا الشاهد مثالاً واضحاً على أن التطرف في أفكار يسوع لم يقتصر فقط على مطالبه الأخلاقية الجذرية من أتباعه، بل امتد أحياناً إلى الخطاب الإقصائي عند تحديد دائرة المستحقين لعمله أو رحمته.

كذلك يُعَدّ خطاب يسوع للكتبة والفريسيين من أقوى الأمثلة على التطرف في الخطاب الانتقادي والاتهامي، حيث تجاوز النقد اللاهوتي والديني إلى التنديد العلني الشديد الذي يهدف إلى فضح نفاقهم أمام الجمهور.

🔥 التطرف في الخطاب الانتقادي:
الكتبة والفريسيون
يظهر هذا التطرف بشكل مكثف وعلني في "ويلات الكتبة والفريسيين" (سفر متى الإصحاح 23، ومرقس 12، ولوقا 11)، حيث استخدم يسوع لغة لاذعة وعبارات قاسية لا تتفق مع المألوف من الخطاب الهادئ أو الدبلوماسي.

1. التطرف في استخدام لغة التحقير والتهديد
استخدم يسوع لغة هجومية مباشرة، متجاوزًا حدود الجدل الديني التقليدي:

- وصفهم بالنفاق (Hypocrisy): كرر يسوع كلمة "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المرآؤون" ثماني مرات في متى 23 وحدها. وصفهم بالرياء هو اتهام علني بخداع الجمهور وعدم الصدق في الإيمان.

- وصفهم بالعمى والسفاهة: خاطبهم بـ "أيها القادة العميان" (متى 23: 16) و"يا جهلاء وعميان" (متى 23: 17). هذا تحقير صريح لقادة كانوا يُعتبرون حكماء وقادة الشعب.

- شبيههم بالقاذورات (متى 23: 27): استخدم تشبيهاً صادماً لوصف فسادهم الداخلي:

"ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! لأنكم تشبهون قبوراً مُبيّضة، تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة."

التحليل العقلاني: مقارنة القادة الدينيين بالقبور المملوءة بالعظام والنجاسة (وهو أقصى درجات النجاسة في الشريعة اليهودية) هو تطرف في الإهانة البلاغية يهدف إلى نزع أي احترام مجتمعي لهم.

- وصفهم بالسموم (متى 23: 33): وصفهم بـ "أيها الحيّات أولاد الأفاعي! كيف تهربون من دينونة جهنم؟" هذا يصفهم بأنهم مصدر للشر والهلاك، ويهدد بوضوح بمصيرهم الأبدي.

2. التطرف في فضح التناقضات والتركيز على الشكليات
انتقد يسوع التركيز المبالغ فيه على الشكليات على حساب الجوهر، واصفاً هذا النهج بأنه مجرد:

• إهمال الجوهر: انتقد اهتمامهم الدقيق بدفع عشور (جزء من العشرة) "النعناع والشبث والكمون" (أي النباتات والأعشاب التافهة)، بينما "تركتم أثقل الناموس: الحق والرحمة والإيمان" (متى 23: 23). هذا التطرف في الالتزام بالتفاهات وإهمال الأصول يُصنَّف كـ تطرف شكلي عقيم.

• التطهير الخارجي الزائف: انتقد تركيزهم على تنظيف "كأس وآنية من خارج"، بينما "هما من داخل مملوآن اختطافاً ودعارة" (متى 23: 25). هذا يوضح أن تطرفهم الشكلي غطى على الفساد الداخلي الجذري.

3. التطرف في التهديد بعواقب تاريخية
لم يكتفِ يسوع بتهديدهم بمصيرهم الشخصي، بل حملهم مسؤولية دماء الأبرياء عبر التاريخ:

تحميل مسؤولية الدماء القديمة (متى 23: 35):

"لكي يأتي عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض، من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن بَرَخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح."

التحليل العقلاني:
تحميل جيل من القادة مسؤولية كل الدماء المسفوكة في التاريخ اليهودي هو مبالغة تاريخية قاسية، تهدف إلى إظهار أن فسادهم قد بلغ ذروته ويستدعي عقاباً يتجاوز أفعالهم الفردية.

بناءً على ما تقدم، يمكن القول إن خطاب يسوع للكتبة والفريسيين يُعد مثالاً للتطرف في اللغة الهجومية والعلنية، حيث استخدم أقصى درجات التجريح والتهديد والوصف القاسي لتحقيق ثورة في الوعي العام ضد السلطة الدينية القائمة.

أخيراً علينا أن نقر أن مايُعد تطرفاً في خطاب يسوع، لم يترتب عليه تطرفاً سلبياً لدى المؤمنين به. إلا في حالات استثنائية. في حين بقى السمو والتسامي الأخلاقي هو الصفة المميزة والثمرة لتعاليم يسوع.

لكن هناك نوعاً آخر من المبالغة في الخطاب المنسوب ليسوع. خاصة مانجده في إنجيل يوحنا:

التطرف في الذاتية:
تحليل عقلاني لادعاءات يسوع في إنجيل يوحنا
إن تصريحات يسوع عن نفسه وعلاقته بالله، خاصة في إنجيل يوحنا، تبرز من منظور عقلاني بحت كتصريحات تطرفية أو مغالية في ادعاء الذات. تتجاوز هذه الأقوال حدود الطبيعة البشرية المألوفة وتطالب بمنزلة مساوية للمطلق (الله)، مما يجعلها تصادم المنطق التوحيدي التقليدي.

1. التطرف في الهوية الوجودية (المساواة مع الله)
تُعتبر هذه الأقوال الأكثر جذرية وتطرفاً لأنها تكسر الفصل بين الخالق والمخلوق، وتضع المتحدث في منزلة إلهية:

• المساواة في الجوهر: قوله: "أنا والآب واحد" (يوحنا 10: 30) هو ادعاء صريح بالوحدة في الجوهر والكيان مع المطلق (الآب). هذا يُعد تجاوزاً لاهوتياً ضمن الإطار التوحيدي، حيث يضع يسوع في منزلة مساوية للذات الإلهية، وهو ما أدى مباشرة إلى اتهامه بالتجديف.

• الأسبقية على الزمن والتاريخ: في قوله: "قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن [أو "أنا هو"]" (يوحنا 8: 58)، يستخدم يسوع عبارة "أنا هو" ويدّعي الوجود قبل إبراهيم. يُصنف هذا كـ تطرف في الادعاء بالوجود الأزلي الذي لا يحده الزمن، وهي صفة تُنسب لله وحده، ويتنافى مع منطق الوجود البشري المحدود.

2. التطرف في الدور الكوني والسلطة المطلقة
في إنجيل يوحنا، يقدم يسوع نفسه كمركز للوجود والخلاص عبر سلسلة من العبارات المطلقة، مُسنداً لنفسه صلاحيات لا تُمنح إلا للقوة المطلقة:

• التفرد المطلق في الخلاص (المغالاة في الإلزامية): ادعاء: "أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي." (يوحنا 14: 6). هذا القول يلغي جميع السبل والوسائل الأخرى للخلاص أو المعرفة الإلهية، ويجعل من ذاته الشرط الوحيد والنهائي للوصول إلى الله، وهو تطرف في تحديد المسار الحصري للحقيقة.

• مصدر الحياة الكوني (المغالاة في الوظيفة): تصريحه: "أنا هو الخبز النازل من السماء... إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد." (يوحنا 6: 41، 51). هذا التشبيه يضع كيان المتحدث كقوة حافظة ومصدر للحياة الروحية الأزلية، وهو تطرف رمزي في وصف وظيفته.
• مصدر النور المطلق (المغالاة في المعرفة): قوله:

"أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة." (يوحنا 8: 12).
هنا ادعاء بأنه المصدر المطلق للمعرفة والحقيقة (النور)، مما يعني أن أي معرفة خارج إطاره هي ضلال (ظلمة).

• المساواة في الفعل والسلطة المطلقة: الإشارة إلى أن الآب "دفع كل الدينونة إلى الابن" (يوحنا 5: 22) والقول إن "مهما عمل ذلك [الآب]، فكذلك الابن أيضاً يعمل" (يوحنا 5: 19).
هذا يضع المتحدث في علاقة من الوحدة في العمل والصلاحيات مع الإله. الادعاء بأن لديه سلطة مطلقة على الحياة والموت والدينونة هو تطرف في الادعاء بالصلاحيات الإلهية، حيث تُعد الدينونة الوظيفة الأسمى للكيان المطلق.

الخلاصة:

من منظور عقلاني بحت، تُعتبر هذه الادعاءات متطرفة لأنها تتنافى مع المنطق الإنساني المألوف وتتجاوز حدود الادعاءات البشرية (كالنبوة أو الزعامة) إلى ادعاءات وجودية وكونية، تطالب بمساواته في الجوهر والسلطة مع القوة المطلقة. هذه الأقوال تتطلب قفزة في القبول الوجودي وتُصنف على أنها نص يتسم بالمغالاة الذاتية.

والحقيقة أن هذه الأقوال المغالية في الذاتية يختص بها إنجيل يوحنا وحده. آخر الأناجيل في التدوين. وهي مختلفة جذرياً عن أقوال يسوع في الأناجيل الإزائية الثلاثة الأخرى. مما يقوي احتمال أنها من وحي قريحة كاتب إنجيل يوحنا. الذي بعد مرور حوالي قرن من الزمان على صلب يسوع، أراد أن يرفع قدره إلى مرتبة إله.

إن تحليل الاتزان السيكولوجي (النفسي) لشخصية تاريخية مثل يسوع، كما صُوِّرت في الأناجيل، يتطلب منهجًا عقلانياً وتجريدياً لكون الأناجيل نصوصاً دينية وليست سجلات طبية أو تحليلية نفسية.
من منظور علم النفس الحديث، قد تُفسَّر بعض تصرفات يسوع وأقواله، التي وُصفت سابقاً بأنها "تطرف" أو "مبالغة"، على أنها سلوكيات تشير إلى التحدي العميق للوضع الراهن أو الـ"أنا" المتضخمة (Grandiose Self)، لكنها لا تُشير بالضرورة إلى اختلال نفسي بالمعنى السريري.
🔍
تحليل سلوكيات يسوع من منظور سيكولوجي محايد
يمكن النظر إلى سلوك يسوع وتعاليمه التي تتسم بالجذرية على أنها أدلة قد تثير التساؤل حول اتزانه النفسي إذا طُبِقت عليها معايير السلوك الاجتماعي المألوف أو المنطق النفعي، ولكن قد تندرج تحت تصنيف الكاريزما المتطرفة (Extreme Charisma):
1. التطرف في الهوية الذاتية (Grandiose Claims)
الادعاءات التي تُثير الشك هي تلك التي تتجاوز حدود الطبيعة البشرية:

• وحدة الكيان والسلطة المطلقة: تصريحات مثل "أنا والآب واحد" (يوحنا 10: 30) أو امتلاكه سلطة الدينونة على العالم (يوحنا 5: 22).

• التحليل السيكولوجي: قد تُفسَّر هذه الادعاءات كـ أوهام العظمة (Delusions of Grandeur)، حيث يعتقد الفرد أنه يمتلك قوة، معرفة، أو هوية إلهية تفوق الواقع. في سياق غير ديني، يُنظر إلى هذا على أنه علامة على اضطراب نفسي محتمل.

• الأولوية على كل شيء: المطالبة بولاء يفوق الروابط العائلية والواجبات الأساسية ("دع الموتى يدفنون موتاهم")

• التحليل السيكولوجي: قد يشير هذا إلى نزعة مطلقة في تقدير الذات ووضعها كمركز وحيد ونهائي للوجود، مما يتطلب تضحيات جذرية من التابعين، وهذا قد يترافق مع شخصيات تتمتع بنفوذ كاريزمي هائل.

2. التطرف في التفاعل الاجتماعي والسلوك (Anti-Social´-or-Disruptive Behavior)

• العنف غير المتوقع: حادثة تطهير الهيكل، حيث طرد يسوع الباعة والصيارفة باستخدام سوط (يوحنا 2: 15).

• التحليل السيكولوجي: هذا الفعل يُعتبر سلوكاً عدوانياً ومخلاً بالنظام العام في سياق مدني. قد يُفسَّر على أنه رد فعل غاضب ومبالغ فيه (Extreme Impulsivity) على انتهاك ديني، وهو سلوك يخرج عن نطاق ضبط النفس المتوقع في المواقف الاجتماعية.

• الخطاب العدواني والإقصائي: وصف القادة الدينيين بـ "القبور المبيضة" و"أولاد الأفاعي"، ووصف غير اليهود بـ "الكلاب".

• التحليل السيكولوجي: هذا يشير إلى نمط سلوكي عدائي ومزدري (Hostile and Disdainful) تجاه المعارضين و"الآخر". الاستخدام المتكرر للمبالغة الشديدة في الإهانة قد يخدم غرضاً كاريزمياً (إحداث صدمة)، لكنه لا يتفق مع الاتزان العاطفي الهادئ.

3. التطرف في الأخلاق (Abnormal Altruism)

• المطالب الأخلاقية غير العملية: طلب محبة الأعداء، وتقديم الخد الآخر، والتخلي عن الحقوق والممتلكات.

• التحليل السيكولوجي: هذا سلوك قد يُفسر على أنه إيثار مُبالغ فيه (Extreme Altruism) يتعارض مع غريزة البقاء والحفظ الذاتي. رغم أن علم النفس لا يصنف الإيثار كاختلال، فإن المطالبة بالتخلي الكامل عن كل حقوق الدفاع عن النفس تُعد جذرية للغاية وتتجاوز الحدود المعقولة للنظام الاجتماعي المستدام.

⚖ الخُلاصة العقلانية

من وجهة نظر عقلانية محضة، إذا تم تطبيق الأدوات التشخيصية الحديثة على النصوص الإنجيلية:

1. هناك أدلة على سلوكيات مغالية (Extreme Behaviors) وادعاءات ذاتية متطرفة (Grandiose Claims). هذه الأدلة قد تتطابق مع جوانب من اضطرابات الشخصية النرجسية (بسبب تضخم الأنا) أو الذهانية (بسبب أوهام العظمة)، إذا تم تجاهل السياق الديني والثقافي.

2. التفسير الكاريزمي: يفضل التحليل الاجتماعي-النفسي اعتبار يسوع قائدًا كاريزميًا استثنائياً. الكاريزما غالباً ما تنطوي على سلوكيات جذرية تتحدى الأعراف، وادعاءات مطلقة، وتطلعات غير عادية، لإلهام أتباع جدد وتأسيس حركة جديدة.

3. النصوص الدينية ليست دليلاً سريرياً: لا يمكن إصدار حكم سريري نهائي بناءً على نصوص كتبت لأغراض لاهوتية، حيث من المرجح أن تكون هذه المبالغات متعمدة لأغراض تعليمية وإثبات مكانة لاهوتية وليست انعكاساً دقيقاً ومحايداً لحالته النفسية اليومية.

لذا، يمكن القول إن الأناجيل تصف شخصية ذات سلوكيات وأقوال متطرفة تتحدى المنطق السائد والمعايير الاجتماعية، لكن ما إذا كانت هذه الأدلة تشير إلى اختلال سيكولوجي حقيقي أم إلى كاريزما دينية ثورية يبقى محل جدل يعتمد على إطار التحليل المستخدم.



#كمال_غبريال (هاشتاغ)       Kamal_Ghobrial#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإله -يهوه- وجذوره التاريخية
- العلاقة بين فلسفة إبكتيتوس والأخلاق المسيحية
- إبيكتيتوس الجذر الفلسفي للأخلاق المسيحية
- القبطية الأرثوذكسية وكراهية العالم
- طيور الشرق الغارقة
- فراق الإنسان عن الشمبانزي
- محاكمة ذبيحة- قصة قصيرة
- الفُلك- قصة قصيرة
- موسى التوراتي بين التاريخية والأسطورة
- مختلف مقاربات الموروث المقدس
- تطور اللاهوت العبراني من التعدد للتوحيد
- معضلة مسؤولية القمة والقاعدة
- القاعدة أم القمة
- الچينات واختلاف ذكاء الشعوب
- رسالة يسوع
- قراءة في فنجان الإنسانية
- -ربّنا بالمقاس-. . عفواً د. حسام بدراوي
- مقال قديم سنوات اللاحسم
- القرن الرابع وتأليه يسوع
- حكاية لاهوت آريوس


المزيد.....




- استُقبل بـ-التكبيرات-.. تفاعل على لحظة دخول أحمد الشرع إلى ا ...
- احتفالات في سوريا بذكرى سقوط الأسد وتكبيرات في المساجد
- كشف عن هدية ولي العهد السعودي.. أحمد الشرع يظهر بـ-زي التحري ...
- تراجع الوجود المسيحي في العراق.. قرنٌ من الهزّات والنزوح وال ...
- نتنياهو يوجه بإخلاء بؤر استيطانية مع تعزيز الأمن لليهود وسط ...
- البرلمان يستجوب جان لوك ميلانشون بشأن شبهات تربط حزبه بالإخو ...
- علماء يحذرون: المسجد الأقصى يواجه أخطر المراحل في تاريخه
- تحذيرات إسرائيلية من تنامي نفوذ الإخوان المسلمين في أوروبا
- -أسف- بشأن إلغاء حفل مالك جندلي ورأي لرئيس لجنة الإفتاء بحمص ...
- كتاب مثير لساركوزي: هكذا عشت بالزنزانة وعرفت أهمية الجذور ال ...


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال غبريال - يسوع بين التسامي والتطرف