أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال غبريال - الميثولوجيا بالكتاب المقدس















المزيد.....


الميثولوجيا بالكتاب المقدس


كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)


الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 09:12
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الاقتباسات الميثولوجية (الأسطورية) في الكتاب المقدس هي واحدة من أكثر المواضيع إثارة في النقد الكتابي وعلم الآثار.
يرى الباحثون أن كُتّاب الكتاب المقدس لم يعيشوا في معزل عن الثقافات المحيطة بهم (مثل السومرية، البابلية، والكنعانية)، بل استخدموا لغتهم ورموزهم الأسطورية لتوصيل رسائل لاهوتية خاصة بهم.
هذه أبرز هذه الاقتباسات والروابط الميثولوجية:
1. ملحمة الخلق و"تعوم" (Tehom)
في سفر التكوين (الإصحاح الأول)، تظهر كلمة "الغمر" (بالعبرية: Tehom).
• الخلفية الميثولوجية: يربط اللغويون بينها وبين "تيامات" (Tiamat)، إلهة المحيط البدائي في أسطورة الخلق البابلية "إينوما إيليش".
• الفرق الجوهري: بينما تصف الأسطورة البابلية الخلق كمعركة دموية بين الآلهة، يقدم سفر التكوين "الغمر" كمادة غير ممانعة تخضع لإرادة الله بكلمة منه.
2. وحوش البحر: لوياثان ورهب
تتكرر الإشارات إلى وحوش بحرية عظيمة في أسفار المزامير، أيوب، وإشعياء.
• لوياثان (Leviathan): يُوصف في مزمور 74 وسفر أيوب كتنين متعدد الرؤوس. هذا يطابق تماماً التنين "لوتان" في أساطير "بعل" الكنعانية (نصوص أوغاريت).
• رهب (Rahab): رمز للفوضى أو لمصر أحياناً، ويُصور كوحش بحري هزمه الله.
• الغرض: استخدامه هنا ليس إيماناً بوجود هذه الوحوش كآلهة، بل كاستعارة (Metaphor) لإظهار سيادة الله المطلقة فوق قوى الفوضى والشر.
3. قصة الطوفان ونوح
تتشابه قصة نوح في سفر التكوين بشكل مذهل مع "ملحمة جلجامش" (قصة أوتنابيشتيم) و**"ملحمة أتراهاسيس"**.
• نقاط التشابه: بناء السفينة، إرسال الطيور (الغراب والحمام)، واستقرار السفينة على جبل.
• الاختلاف اللاهوتي: في الأساطير الرافدية، يأتي الطوفان لأن البشر كانوا "مزعجين" والآلهة بحاجة للهدوء، بينما في الكتاب المقدس، الطوفان هو حكم أخلاقي على الفساد والظلم.
4. "بني Elohim" وعملاقة "النفايليم"
في سفر التكوين 6، تُذكر قصة تزاوج "أبناء الله" مع "بنات الناس".
• الارتباط: هذه القصة تشبه إلى حد كبير الميثولوجيا الإغريقية والشرقية حول "أنصاف الآلهة" أو الأبطال الخارقين الذين ولدوا من آلهة وبشر.
• التفسير: يراها الكثيرون بقايا لموروث ميثولوجي قديم تم استخدامه لشرح تفاقم الشر في الأرض قبل الطوفان.
5. بعل وسحب السماء
في المزامير، يُوصف الله بأنه "الراكب على السحاب" (مزمور 68).
• المصدر: هذا اللقب "Rkb rpt" كان اللقب الحصري للإله الكنعاني بعل.
• الرسالة: كان الكُتّاب العبرانيون يقومون بعملية "استيلاء لاهوتي"؛ أي أنهم يقولون: "ليس بعل هو من يسيطر على المطر والطقس، بل إلهنا هو الراكب الحقيقي على السحاب".
لماذا استخدم الكتاب المقدس هذه الأساطير؟
1. اللغة المشتركة: التحدث بلغة يفهمها إنسان العصر البرونزي والحديدي.
2. المناظرة (Polemic): تحدي الآلهة الوثنية باستخدام ألقابها ونسبتها للإله الواحد.
3. الرمزية الأدبية: استخدام "لوياثان" أو "رهب" كرموز فنية للتعبير عن قوى الشر المعنوية.

"لوياثان" (Leviathan)، فهو المثال الأبرز الذي يجمع بين الأدب، الميثولوجيا، واللاهوت.
لوياثان: من الأساطير الكنعانية إلى النص العبري
تعتبر نصوص أوغاريت (رأس شمرا في سوريا حالياً) المفتاح لفهم هذا الكائن. في أساطير "بعل"، يواجه الإله "بعل" وحشاً يُدعى "لوتان" (Litanu)، وهو تنين مائي بسبعة رؤوس يمثل الفوضى المائية.
المقارنة النصية:
إذا قارنا بين النصوص المكتشفة في أوغاريت وبين مزمور 74 في الكتاب المقدس، سنجد تشابهاً لفظياً مذهلاً:

المقارنة النصية بين "لوتان" و"لوياثان"
أولاً: النص الأوغاريتي (الكنعاني القديم) عن "لوتان":

"حين تقتل لوتان الحية الهاربة... الحية الملتوية... ذات الرؤوس السبعة."

ثانياً: نص الكتاب المقدس (مزمور 74: 13-14) عن "لوياثان":

"أنت شققت البحر بقوتك. كسرت رؤوس التنانين على المياه. أنت رضضت رؤوس لوياثان."

لماذا يظهر لوياثان في الكتاب المقدس؟
استخدم كُتّاب الكتاب المقدس هذه الصورة الميثولوجية لثلاثة أغراض أساسية:
1. تجريد الأسطورة من قوتها (Demythologization):
في سفر المزامير 104: 26، يُذكر "لوياثان" ليس كإله منافس لله، بل كـ "حيوان أليف" أو مجرد كائن خلقه الله "ليلعب فيه" (في البحر). هذا يكسر هيبة الأسطورة الوثنية ويجعل الإله العبري هو الخالق الوحيد والمسيطر.
2. الرمز السياسي (تنين مصر):
أحياناً يُستخدم لوياثان أو "رهب" (الوحش البحري الآخر) كرمز للإمبراطوريات الطاغية. ففي سفر إشعياء، يُوصف فرعون مصر بأنه "تنين" رابض في الأنهار، والانتصار عليه يُصوّر كأنه انتصار لاهوتي على قوى الفوضى.
3. الرمزية الروحية (نهاية الأيام):
في الرؤى النبوية (مثل إشعياء 27: 1)، يظهر قتل لوياثان كحدث مستقبلي:

"فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يُعَاقِبُ الرَّبُّ بِسَيْفِهِ الْقَاسِي الْعَظِيمِ الشَّدِيدِ لِوِيَاثَانَ، الْحَيَّةَ الْهَارِبَةَ. لِوِيَاثَانَ الْحَيَّةَ الْمُتَلَوِّيَةَ، وَيَقْتُلُ التِّنِّينَ الَّذِي فِي الْبَحْرِ."

هنا تحول الوحش الميثولوجي إلى رمز لـ "الشر المطلق" الذي سيهزمه الله في نهاية الزمان.
ملاحظة حول "رهب" (Rahab)
بينما يمثل لوياثان "التنين"، يمثل رهب "الاضطراب". الكلمة في العبرية تعني "العجرفة" أو "الضجيج".
في أيوب 26: 12 يقول النص: "بقوته يزعج البحر، وبفهمه يسحق رهب". وهي إشارة واضحة للسيطرة على عواصف البحار التي كانت الشعوب القديمة تخشاها كآلهة غاضبة.

ننتقل لمقارنة "مزمور 104" مع "نشيد إخناتون للشمس":
هناك تشابهات مذهلة في وصف الطبيعة وعناية الخالق.

تُعتبر المقارنة بين المزمور 104 و"نشيد إخناتون" (الفرعون المصري الذي دعا للتوحيد) واحدة من أقوى الأمثلة على التفاعل الثقافي والأدبي في العالم القديم.
كُتب نشيد إخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد (حوالي 1350 ق.م)، وهو يمتدح الإله "آتون" (قرص الشمس).
هذه مقارنة متتالية لأبرز المقاطع المتشابهة:
1. غياب الضياء وحلول الظلام
• نشيد إخناتون: "عندما تغيب في أفق السماء الغربي، تغرق الأرض في ظلام دامس كأنها الموت... تخرج الأسود من زئيرها، والحيات تلدغ."
• المزمور 104 (20-21): "تجعل ظلمة فيصير ليل. فيه يدب كل حيوان الوعر. الأشبال تزمجر لتخطف."
2. شروق الشمس ونشاط الإنسان
• نشيد إخناتون: "عندما تشرق... يستيقظ الناس ويقفون على أقدامهم... ويذهبون إلى أعمالهم."
• المزمور 104 (22-23): "تشرق الشمس فتجتمع... الإنسان يخرج إلى عمله وإلى شغله إلى المساء."
3. السفن والبحر
• نشيد إخناتون: "السفن تبحر صعوداً وهبوطاً... والأسماك في النهر تقفز أمام وجهك."
• المزمور 104 (25-26): "هذا البحر الكبير الواسع... هناك تجري السفن. لوياثان هذا خلقته ليلعب فيه."
4. كفاية الخلق وعناية الخالق
• نشيد إخناتون: "ما أكثر أعمالك... لقد خلقت الأرض بحسب رغبتك، أنت وحدك، بالناس والماشية وكل الحيوانات."
• المزمور 104 (24): "ما أعظم أعمالك يا رب! كلها بحكمة صنعت. ملآنة الأرض من غناك."
ما الذي يعنيه هذا التشابه؟
يرى علماء المصريات والنقد الكتابي ثلاث إمكانيات لهذا التشابه المذهل:
1. التأثير المباشر: أن كاتب المزمور كان مطلعاً على الأدب المصري القديم واقتبس منه لجماله الأدبي.
2. الميراث الثقافي المشترك: أن هذه الأناشيد كانت جزءاً من "الأدب العالمي" في الشرق الأدنى القديم، وتأثرت بها الشعوب المختلفة.
3. إعادة الصياغة اللاهوتية: الكتاب المقدس أخذ الصور الجميلة التي كانت تُعزى لـ "آتون" (الشمس) ونسبها للإله الخالق (يهوه)، ليؤكد أن الشمس مجرد مخلوق وليست إلهاً.
نقطة تحول: من الأسطورة إلى الأخلاق
الفرق الجوهري بين الميثولوجيا والكتاب المقدس هو أن الأساطير كانت تركز على تفسير الطبيعة (لماذا تمطر؟ لماذا يثور البحر؟)، بينما استخدمها الكتاب المقدس ليركز على العلاقة الأخلاقية بين الخالق والإنسان.

ننتقل إلى موضوع "برج بابل" وارتباطه بميثولوجيا وعمارة بلاد الرافدين، وهو أحد أكثر المواضيع التي تظهر كيف تأثر النص الكتابي بمحيطه الجغرافي والثقافي.
برج بابل والزقورات البابلية
في سفر التكوين (الإصحاح 11)، توصف محاولة البشر بناء مدينة وبرج "رأسه بالسماء". هذا الوصف يتطابق تماماً مع "الزقورات" (Ziggurats)، وهي الأبراج الهرمية المدرجة التي كانت تميز مدن بلاد الرافدين.
1. التشابه مع "إيتيمينانكي" (Etemenanki)
يرى علماء الآثار أن القصة تشير بوضوح إلى زقورة بابل العظيمة التي تسمى "إيتيمينانكي"، وهو اسم سومري يعني "بيت أساس السماء والأرض".
• المادة المستخدمة: يذكر النص الكتابي استخدام "اللبن" (الطوب المشوي) و"الحُمّر" (القير/الزفت)، وهي تحديداً المواد التي كانت تُبنى منها الزقورات في بيئة بابل الطينية التي تفتقر للحجارة.
• الغرض الميثولوجي: في الأساطير البابلية، كانت الزقورة تعتبر "سُلماً" للآلهة تنزل عليه من السماء لتسكن في معابدها الأرضية.
2. قصة "إنمركار وأرتا" (Enmerkar and the Lord of Aratta)
توجد أسطورة سومرية قديمة تسبق الكتاب المقدس بقرون، تذكر حدثاً يشبه تماماً بلبلة الألسن.
• النص السومري: يذكر أنه في قديم الزمان كان الجميع يتحدثون لغة واحدة، ولكن الإله "إنكي" (إله الحكمة) قرر أن "يغير كلامهم في أفواههم" لكي لا يفهموا بعضهم البعض.
• المفارقة: في الأسطورة السومرية، الفعل هو فعل "حكمة" أو تنظيم، بينما في الكتاب المقدس يُصوّر كدينونة لمنع الكبرياء البشري.
لماذا تكررت هذه الاقتباسات؟
الباحثون في "تاريخ الأديان" يخلصون إلى أن استخدام هذه القصص والمفردات الميثولوجية في الكتاب المقدس لم يكن "نَقلاً" أعمى، بل كان "إعادة صياغة":
1. المواجهة الثقافية: عندما كان العبرانيون في سبي بابل، سمعوا قصص عظمة بابل وآلهتها، فجاءت نصوصهم لتقول: "إلهنا أقوى من وحوشكم (لوياثان)، وأبراجكم الشاهقة هي مجرد محاولات بشرية فاشلة".
2. أنسنة الطبيعة: بدلاً من آلهة متصارعة خلف كل رعد أو موجة، حوّل الكتاب المقدس هذه القوى إلى "مخلوقات" تخضع لقوانين الخالق.

في سياق المقارنات الكبرى، ننتقل إلى "أساطير الخلق"، وتحديداً المقارنة بين ملحمة "إينوما إيليش" البابلية وسفر التكوين العبري، فهي توضح كيف استلهم كُتّاب الكتاب المقدس الإطار العام للقصة مع تغيير جوهرها تماماً.
مقارنة بين "إينوما إيليش" وسفر التكوين
في الأساطير البابلية، الخلق هو نتاج معركة دموية بين الآلهة (مردوك ضد تيامات)، بينما في الكتاب المقدس هو عمل نظامي بكلمة الله. إليك المقارنة المتتالية للأحداث:
1. حالة ما قبل الخلق (العماء المائي)
• إينوما إيليش: تبدأ القصة بوجود "تعامة" (Tiamat) التي تمثل المحيط المائي المالح للفوضى.
• سفر التكوين (1: 2): تذكر القصة أن "الأرض كانت خربة وخالية، وعلى وجه الغمر (Tehom) ظلمة". (وكما ذكرنا سابقاً، "تعامة" و"تعوم" هما لغوياً نفس الكلمة).
2. ترتيب الخلق (الجدول الزمني)
المذهل هو أن ترتيب الخلق في النصين متطابق تقريباً:
1. الظلمة والماء البدائي.
2. خلق النور.
3. خلق الجلد (القبة السماوية) لفصل المياه العليا عن السفلى.
4. ظهور اليابسة.
5. خلق الأجرام السماوية (الشمس والقمر والنجوم).
6. خلق الإنسان.
7. الراحة الإلهية.
3. خلق الإنسان
• إينوما إيليش: يُخلق الإنسان من دم الإله المتمرد "كينغو" ليكون عبداً للآلهة، يقوم بأعمالها الشاقة لكي تستريح هي.
• سفر التكوين (1: 26): يُخلق الإنسان "على صورة الله ومثاله" ليكون سيداً على الأرض ووكيلًا للخالق، والراحة (السبت) هي من أجل الإنسان لا من أجل حاجة الله.
لماذا هذا التشابه في "الهيكل" والاختلاف في "المضمون"؟
يُطلق العلماء على هذا الأسلوب اسم "المناظرة اللاهوتية" (Polemic):
• الكاتب الكتابي استخدم نفس "السيناريو" المعروف لدى جيرانه البابليين.
• لكنه قام بتحويله: بدلاً من آلهة تتصارع وتخاف، هناك إله واحد يسيطر. بدلاً من إنسان خادم ذليل للآلهة، هناك إنسان مكرم.
انتقالاً إلى "سفر أيوب" والوحوش الأسطورية:
في سفر أيوب (الإصحاحات 40 و41)، يظهر وحشان هائلان:
1. بهيموث (Behemoth): يُصور كملك لحيوانات البر (يشبه فرس النهر أو ديناصوراً في بعض التفسيرات)، وهو رمز للقوة البدائية.
2. لوياثان (Leviathan): يُوصف هنا بتفصيل مذهل كوحش ينفث النار من منخاريه، لا يقدر عليه بشر.
الهدف في سفر أيوب: هو إحراج أيوب! الله يقول له: "إذا كنت لا تستطيع السيطرة على هذه الوحوش التي خلقتها أنا، فكيف تجرؤ على محاسبتي على طريقة إدارتي للكون؟".

مقارنة "أمثال سليمان" مع "حكم أمنيموبي"، ثم في سفر أيوب والرموز الميثولوجية فيه.
أولاً: أمثال سليمان و"حكم أمنيموبي" المصري
تعتبر هذه المقارنة من أوضح الأدلة على "أدب الحكمة" العالمي المشترك. "حكم أمنيموبي" هو نص مصري قديم يعود للأسرة العشرين (حوالي 1100 ق.م).
المقارنة النصية المتتالية:
• نشيد أمنيموبي: "أمل أذنيك لكي تسمع كلماتي، وضع قلبك لكي تفهمها.. لأنها مفيدة لمن يضعها في قلبه."
• أمثال سليمان (22: 17-18): "أمل أذنك واسمع كلام الحكماء، ووجّه قلبك إلى معرفتي.. لأنه حسن إن حفظتها في جوفك."
• نشيد أمنيموبي: "لا تصاحب رجلاً حاد الطبع، ولا تدخل معه في حديث."
• أمثال سليمان (22: 24): "لا تستصحب غضوباً، ومع رجل سُخْطٍ لا تجئ."
• نشيد أمنيموبي: "لا تنقل تخوم الحقول.. ولا تقتحم تخم الأرملة."
• أمثال سليمان (23: 10): "لا تنقل التخم القديم، ولا تدخل حقول الأيتام."

ثانياً: سفر أيوب والصراع مع "قوى الفوضى"
سفر أيوب ليس مجرد قصة عن المعاناة، بل هو نص فلسفي ميثولوجي عميق يستخدم صوراً من بلاد الرافدين وكنعان لوصف عظمة الخالق.
1. "بهيموث" و"لوياثان" (رموز الفوضى)
في الفصول الأخيرة (40-41)، يصف الله لأيوب كائنين عظيمين. هما ليسا مجرد حيوانات، بل هما تجسيد لقوى الطبيعة التي لا يمكن ترويضها:
• بهيموث (Behemoth): يُصور كملك اليابسة، عظامة كأنابيب نحاس، وقوته في متنه. في الميثولوجيا، يمثل القوة الأرضية الخام.
• لوياثان (Leviathan): يُصور هنا كوحش بحري ينفث لهيباً، وجلده لا يخترقه رمح. هو "ملك كل بني الكبرياء".
2. أيوب وأسطورة "الإنسان المتألم" (LuduL Bel Nemeqi)
توجد قصيدة بابلية شهيرة تُعرف بـ "أيوب البابلي"، تحكي عن رجل بارز فقد كل شيء وتساءل لماذا يعاني الصالحون.
• التشابه: كلا النصين يطرح السؤال الجوهري: "لماذا يسمح الإله بالألم للأبرياء؟".
• الاختلاف: في النص البابلي، الحل هو تقديم القرابين لاسترضاء الآلهة المتقلبة. أما في سفر أيوب، فالحل هو "الثقة في حكمة الله" التي تتجاوز إدراك العقل البشري المحدود، وهو ما يظهر عندما استعرض الله له وحوش الميثولوجيا (لوياثان) ليقول له: "إن كنت لا تفهم أسرار مخلوقاتي، فكيف تفهم أسرار أحكامي؟".

الخلاصة:
لماذا هذه الاقتباسات؟
إن وجود هذه التشابهات لا يقلل من قيمة النص الكتابي، بل يظهره كنص "متفاعل" مع عصره. الكُتّاب لم ينسخوا الأساطير، بل "عمّدوا" اللغة الأسطورية (Christianized/Baptized the myths) ليستخدموها في التبشير بفكر جديد:
1. وحدانية الخالق مقابل تعدد الآلهة المتصارعة.
2. سيادة الأخلاق مقابل نزوات الآلهة.
3. كرامة الإنسان كوكيل للخالق وليس عبداً سُخرة للآلهة.

تعد دراسة "الميثولوجيا في الكتاب المقدس" نقطة تحول كبرى في الفكر الديني والبحث التاريخي، وقد أحدثت تأثيراً عميقاً في ثلاثة مستويات أساسية:
1. فهم النص في سياقه الحضاري
قبل هذه الدراسات، كان يُنظر إلى الكتاب المقدس كنص معزول تماماً عن محيطه. لكن اكتشاف نصوص "أوغاريت" و"ملحمة جلجامش" و"أناشيد إخناتون" جعلنا ندرك أن:
• اللغة الدينية مشتركة: كُتّاب الكتاب المقدس استخدموا "المواد الخام" الثقافية المتاحة في زمانهم (مثل صور التنانين والعمالقة) للتعبير عن أفكارهم.
• النص ليس في فراغ: الكتاب المقدس أصبح يُقرأ كجزء من حوار حضاري واسع، حيث كان الكُتّاب العبرانيون يقتبسون الأساطير المحيطة بهم ثم "يفككونها" ليعيدوا صياغتها بما يتناسب مع رؤيتهم للإله الواحد.
2. مفهوم "المناظرة اللاهوتية" (Polemic)
أحد أهم التأثيرات هو التحول من فكرة "النقل" إلى فكرة "الرد". فالدراسات الحديثة ترى أن الاقتباس الميثولوجي لم يكن سرقة أدبية، بل كان تحدياً فكرياً:
• عندما يصف المزمور الله بأنه "الراكب على السحاب" (وهو لقب الإله الكنعاني بعل)، فهو لا يقتبس شعراً فحسب، بل يقول للقارئ القديم: "إلهنا هو الذي يفعل ما تظنون أن بعل يفعله".
• هذا التأثير جعل الباحثين يفهمون النص الكتابي كنوع من "الدعاية المضادة" للأساطير الوثنية السائدة وقتها.
3. التمييز بين "الأسطورة" و"الحقيقة اللاهوتية"
أدت هذه الدراسات إلى تغيير جذري في نظرة المؤسسات الدينية والباحثين لتعريف "الأسطورة":
• الأسطورة كوعاء: لم تعد الأسطورة تعني "قصة كاذبة"، بل أصبحت تُفهم كـ "لغة رمزية" تستخدم لوصف حقائق لا يمكن وصفها بلغة العلم المجرد.
• الأنسنة وإلغاء السحر: أظهرت الدراسات كيف قام الكتاب المقدس بـ "تفريغ" الطبيعة من الآلهة (Demythologization). فالبحر الذي كان إلهاً هائجاً (تيامات) أصبح في التكوين مجرد "مادة" يسيطر عليها الله، والشمس التي كانت إلهاً (آتون) أصبحت مجرد "نور كبير" لإنارة الأرض.
4. التأثير على النقد الكتابي وعلم الآثار
فتحت هذه المقارنات الباب أمام "النقد التاريخي"، حيث أصبح من الممكن تتبع تطور الأفكار الدينية عبر الزمن:
• التأثير البابلي: ظهر بوضوح في نصوص السبي (مثل حزقيال ودانيال).
• التأثير الكنعاني: ظهر في المزامير والشعر العبري القديم.
• النتيجة: أصبح الكتاب المقدس يُفهم كـ "مكتبة" تعكس تفاعل شعب مع جيرانه عبر أكثر من ألف عام، مما زاد من قيمته التاريخية والأدبية.
هل تغيرت نظرتنا للدين؟
نعم، فبدلاً من رؤية هذه الاقتباسات كـ "نقطة ضعف" أو "تقليد"، أصبح الباحثون يروْنها كـ "عبقرية أدبية". لقد استطاع كُتّاب ذلك العصر أخذ قصص الشعوب الأخرى المرعبة والمبنية على صراع الآلهة، وتحويلها إلى رسائل تدعو للأخلاق، والعدل، والمسؤولية الإنسانية.



#كمال_غبريال (هاشتاغ)       Kamal_Ghobrial#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معجزات وقيامة يسوع- رؤية عقلانية
- يسوع الأناجيل وانتحال النبوءات
- شبح -المسيحية الصهيونية-
- صديقي الجليل د. حسام بدراوي عفواً
- المسيرة من الطوطمية إلى التوحيد
- ولادة يسوع العذرية
- شخصية وخطاب يسوع- رؤية تحليلية
- يسوع بين التسامي والتطرف
- الإله -يهوه- وجذوره التاريخية
- العلاقة بين فلسفة إبكتيتوس والأخلاق المسيحية
- إبيكتيتوس الجذر الفلسفي للأخلاق المسيحية
- القبطية الأرثوذكسية وكراهية العالم
- طيور الشرق الغارقة
- فراق الإنسان عن الشمبانزي
- محاكمة ذبيحة- قصة قصيرة
- الفُلك- قصة قصيرة
- موسى التوراتي بين التاريخية والأسطورة
- مختلف مقاربات الموروث المقدس
- تطور اللاهوت العبراني من التعدد للتوحيد
- معضلة مسؤولية القمة والقاعدة


المزيد.....




- الفاتيكان.. البابا ليو الرابع عشر يترأس قداس عيد الميلاد للم ...
- مسيحيو غزة يصلون للسلام بعد عامين من الحرب
- المسيحيون الفلسطينيون في غزة يقيمون قداس عيد الميلاد بعد عام ...
- سوريا: عملية أمنية محكمة تسفر عن توقيف زعيم بارز في تنظيم -ا ...
- قداس الميلاد.. مسيحيو غزة يصلون للسلام بعد عامين من الحرب
- سوريا تعلن اعتقال -زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في دمشق- بالت ...
- المسيحيون في العراق يحيون قداس عيد الميلاد المجيد
- وزير خارجية ايران يهنئ بمناسبة ذكرى ميلاد السيد المسيح (ع)
- وسط القلق والصلاة والركام.. مسيحيو غزة يحتفلون بالميلاد
- شاهد.. هكذا احتفلت طهران بميلاد السيد المسيح (ع)


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال غبريال - الميثولوجيا بالكتاب المقدس