موريس صليبا
الحوار المتمدن-العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 14:01
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نشر هذه الدراسة العالمان الفرنسيّان الشهيران ميشال ايف بولوره (Michel-Yves Bolloré) واوليفيه بوناسي (Olivier Bonnassies) في كتابهما الشهير [الله، العلم، البراهين. فجر ثورة]
révolution) (Dieu, la science, les preuves. L’Aube d’une
لقد بيع منه أكثر من ستمائة ألف نسخة، وترجم الى لغات عديدة. صدرت الطبعة الأولى عام 2021، ثمّ توالت طبعات أخرى. وبما أنّ هذا الفصل لم ينشر في الطبعة العربية، فرأينا من المستحبّ ألا يحرم القارئ العربي منه واعطائه الفرصة للاطلاع عليه والحكم على مضمونه. بعد ، الحلقة الثالثة أمس، اليكم اليوم الحلقة الرابعة وعنوانها:
هل كان يسوع مغامرًا فاشلًا
إنّ النظر إلى يسوع كمغامر عرف كيف يجذب الحشود إليه لفترة من الوقت قبل أن ينهار طموحه بسبب إدانته لسوء سمعته، يبدو للوهلة الأولى فرضيّة محتملة.
تتميّز هذه الفرضيّة بتطابقها مع أطروحة التلمود الذي حرّره كتبةٌ يهود اعتُبروا من الشهود المباشرين للوقائع التي حصلت، على عكس ما ورد على لسان رينان وفلاسفة القرن الثامن عشر. فهي تتزامن مع بعض شهادات الكتبة الرومان التي أشرنا إليها سابقا. كذلك تتوافق مع الفترة الزمنيّة المعنيّة التي كان ينتظر خلالها ظهور "المسيّا"، كما سنرى ذلك لاحقاً.
قبل التدقيق في صحّة هذه الأطروحة، دعونا نلخّصها: هناك رجل دسّاس محتال تعلّم السحر في مصر، حاول الاستفادة من توقّع مجيء "المسيّا"، ادّعى أنّه المسيح المنتظر. أخذ يخدع الحشود بالعجائب ويسعى إلى جرّهم للقيام بثورة تهدف إلى الاستيلاء على السلطة. بدت هذه المحاولة خطيرة وكافية لتخويف السلطات المحليّة. لذلك قُبض ُعليه وأُدين وتمّ إعدامه ودفنه. غير أنّ أتباعه الذين كانوا قد تفرّقوا عند وفاته، أعادوا تجميع صفوفهم سرّاً وقرّروا في غضون ساعات قليلة اختلاق تتمّة خياليّة لهذه المغامرة. فسرقوا جسده لإعادة دفنه في مخبأ سريّ. وهكذا ظهر القبر فارغاً، فنظّموا خدعة جديدة في إعلان قيامته.
يتضمّن هذا السيناريو، بالرغم من رومانسيّته، العديد من العيوب.
1. لماذا لم يبحث رؤساء الكهنة عن جسد يسوع؟
اعتُبر يسوع المغامر إنسانًا خطيرًا ومدمّرًا. مات أخيرًا وتشتّت أنصاره الذين بالرغم من كلّ التوقّعات عادوا وقرّروا مواصلة المغامرة وحدهم. أعلنوا قيامته ونسبوا موته، أي موت المسيح، ملك إسرائيل، إلى قادة اليهود في ذلك الزمن. غير أنّ هؤلاء، بعد راحة قصيرة جدًا، وجدوا أنفسهم في مواجهة تهديد جديد لهم ولأمّتهم.
لماذا لم يبحثوا عن جسده إذن؟ كان الأمر بسيطًا للغاية. هذا الخداع العبثيّ، أيّ إعلان القيامة التي اخترعها أنصار يسوع وفّرت لهم فرصة مثاليّة للقضاء عليهم إلى الأبد، إذ كان بوسعهم وضع حدّ نهائيّ لهذه التمثيليّة الخطيرة لو تمكّنوا من العثور على جسده.
لماذا كانت بالتأكيد مهمّةُ سرقة جثة يسوع وإخفائها مستحيلةً؟ هناك أسباب متعدّدة حالت دون ذلك. لم تكن أورشليم القدس آنذاك مدينة كبيرة جدًا، إذ كانت تضمّ حوالي 50000 شخصًا، وكانت لياليها مقمرة في عيد الفصح. علاوة على ذلك، كان الآلاف من الناس يخيّمون حول المدينة بمناسبة الاحتفال الكبير بهذا العيد. لذلك كان شبه مستحيل نقل الجثة سرّاً، ولم يكن أمام أتباع يسوع خيار آخر سوى دفنه مرة أخرى بالقرب من القبر الأصليّ.
في ذلك الوقت، كان قادة اليهود يمتلكون كلّ السلطات تقريبًا. فالمسؤولون الدينيّون والمدنيّون كانوا مخوّلين من قبل الرومان لتنظيم وتنفيذ كلّ القوانين. لماذا لم يقوموا بالقبض على بعض تلاميذه ودفعهم إلى الاعتراف بالحيل التي اخترعوها والكشف بالتالي عن مكان اخفاء الجثّة؟ لو فعلوا ذلك لكانت القصّة قد انهارت حالاً. كذلك، كانت تلك العمليّة قد انتهت بسهولة بسبب الشعور بالاشمئزاز والرعب، وبالتالي بسبب هرب أنصار يسوع ومعظم أتباعه. هنا يبرز اتّفاق واضح بين الإنجيل والتلمود. فالإنجيل يذكر بدقّة أنّه لم يكن أمام الصليب، من الذين شهدوا موت يسوع، إلا عدد قليل من النساء وشابّ واحد هو الرسول يوحنا.
لم يقم أحد بأيّ تحقيق أو بحث رسميّ حول هذا الحدث. فكبار الكهنة لم يفهموا على الفور أهميّة الانتهاء من هذه الكذبة، إلا عندما شهدوا لاحقًا ظهور المسيحيّة وانتشارها في الإمبراطوريّة الرومانيّة. وبالرغم من ذلك، كان بإمكانهم التحقيق والبدء في البحث، أقلّه في الفترة التي سبقت دمار أورشليم الأول عام 70، لأنّ العديد من الشهود عاشوا حتى عام 100، مثل الرسول يوحنا الذي كان شاهدًا رئيسيًّا.
من يدري؟ ربّما بحثوا عبثًا، ولكنّهم فضّلوا الاستمرار بالصمت. فهم وحدهم فقط كانوا يعرفون.
هذا الموقف غير المنسجم والغامض من قبل قادة اليهود لا يؤيّد إطلاقا فرضيّة يسوع المغامر.
2. لماذا أطال التلاميذ تلك المهزلة؟
أعلن يسوع عن نفسه أنّه "المَسيّا" ومات. ثم انفجرت الكذبة في وضح النهار، لأنّ "المَسيّا" مقدّرّ له من الله أن يكون "الملك العظيم"، و"محرّر إسرائيل". فها هم التلاميذ لا حول لهم ولا قوة وحدهم، عددهم قليل، وقد هرب جميع أتباع يسوع الآخرين، كما قيل لنا في الإنجيل.
هل نصدّق حقًا أن هذه المجموعة من الجبناء توافقوا مع بعضهم البعض في غضون ساعات قليلة لتلفيق أكبر عمليّة احتيال وخداع في التاريخ؟ هل كان بوسعهم اعتبار الشخص الذي كان في النهاية مجرّد مغامر والتعامل معه بالمزيد من الموت واعتباره إلهًا نزل على الأرض؟ هل ذهبوا فعلًا إلى القبر، وسرقوا جسده، ودفنوه مرّة أخرى، ثم أعلنوا قيامته؟
ما هو الغرض من هذا السيناريو المذهل؟ أليس من المحتمل أن يكون مشروعا يهدف إلى الاستيلاء على السلطة؟ هل كان التلاميذ يحلمون بتولّي السلطة في بلادهم باسم يسوع، مشدّدين على إمكانيّة انتظار عودته؟ لماذا، في هذه الحالة، لم يشكّلوا على الفور جبهة معا وفي نفس المكان؟ لماذا انتشروا في مختلف أرجاء العالم، كلّ بمفرده، دون زوجة ولا مال ولا أطفال، ليعلنوا عن قيامة "المَسيّا" أمام الوثنّيين الذين كانوا يجهلون حتّى اسمه وكلّ شيء عنه؟
ما هي نتيجة ما فعلوه؟ فالرسول بطرس صُلب في روما عام 64، و الرسول بولس قُطع رأسه في روما عام 67، والرسول يوحنا نُفي إلى بطمس، ويعقوب الكبير قُطع رأسه بأمر من هيرودس عام 41، وأندراوس صُلب في باتراس عام 45، واستُشهد بارثولوميوس في ارابون في ارمينيا عام 47، وسمعان استُشهد في موريتانيا حوالي عام 60، ومتّى، استُشهد بالنار في صعيد مصر عام 61، ويعقوب الصغير ألقيَ من قمة الهيكل عام 62، ويهوذا تداوس شُنق وطُعن بالسهام في أرمينيا عام 65 بأمر من الملك ساناتروك، ومتّى رُجم بالحجارة ثم صلب في إثيوبيا ودفن في بيريتوف. أما توما، فسُلخ حيّا وثُقب بالرمح في ماليابور Meliapour جنوب مدراس، وفيليبّوس عُلّق بقدميه ثم صُلب في هيرابوليسHiérapolis في فريجيا Phrygie حوالي عام 95، ولوقا مات شهيدا في طيبة Thèbes عام 76، ومرقص قُتل في الإسكندرية.
هذا المسلسل المروّع والرهيب، سيدفع، من منظور إنساني، أكثر من شخص إلى تغيير رأيه.
ومن منظور عقلانيّ، لا يمكن لفرضيّة يسوع المغامر أن تصمد إطلاقًا.
3. كلام لا يتناسب مع شخصيّة المغامر
ذكرنا فيما سبق بعض أقوال الحكمة التي نطق بها يسوع، التي هي، بنظر رينان، العلامة التي تكشف عن أعلى مستوى من الحكمة، ظهر حتّى الآن على الأرض. هل كانت هذه الأقوال ستخرج من فم مغامر أم من بعض أتباعه؟ هذا أمر لا يتناسب إطلاقًا مع طموحات أيّ مغامر.
إضافة إلى ذلك، يسعى عادة كل مغامر إلى تحقيق هدف يتطلّب دعمًا على الأقل من فئة من السكان. فلماذا إذًا تُستنبط تعاليمٌ يصعب التقيّد بها، كالكلام المنسوب ليسوع أو لـ"زمرته"، وهو كلام غير قابل للتطبيق كما رأينا أعلاه؟ من المستحيل أيضا أن يحاول أي مجنون الاستيلاء على السلطة من خلال دفع الناس وأتباعه إلى الهرب، على غرار ما فعله يسوع وأتباعه فيما يعد. لهذا السبب لا يتوافق ذلك إطلاقا مع هذه الفرضيّة.
4. لماذا عرفت كرازة الرسل هذا النجاح الباهر؟
لقد صُلب يسوع قبل ثلاثين عامًا فقط، وفي الستّينات من ذلك القرن انتشر المسيحيّون في كل مكان، حتى في روما حيث اتُّهموا ظلما بحرق المدينة سنة 64 وجرى رميهم للأسود. من يستطيع أن يتخيّل للحظة فقط أنّ المغامرين اليهود المساكين جاءوا لتعليم الهراء في الأراضي البعيدة والمعاديّة، قد استطاعوا، دون سيف ولا مال ولا تعليم، تغيير وجه العالم القديم بسلام وهدوء؟ أليس هذا من المستحيل؟
من أين أتى هؤلاء الرجال بهذه الفكرة العبثيّة التي دفعتهم حتى الموت كي يدعموا حيلة نُسبت إليهم، ومن أين استمدّوا الشجاعة والإصرار على تنفيذ هذا المشروع المجنون؟
لنقرأ ما يقوله القديس بولس: "من اليهود خمس مرات قبلتُ أربعين جلدة إلا واحدة، ثلاث مرات ضربت بالعصي، مرة رجمت، ثلاث مرات انكسرت بي السفينة، ليلا ونهارا قضيت في العمق، بأسفار مرارا كثيرة، بأخطار سيول، بأخطار لصوص، بأخطار من بني جنسي، بأخطار من الأمم، بأخطار في المدينة، بأخطار في البريّة، بأخطار في البحر، بأخطار من إخوة كذبة، في تعب وكّد، في أسفار مرارا كثيرة، في جوع وعطش، في أصوام مرارا كثيرة، في برد وعري. عدا ما هو دون ذلك: التراكم عليّ كل يوم، الاهتمام بجميع الكنائس" (2 قورنتس 11، 24-28)، إلخ. فما الفائدة من كلّ هذا، لو كانوا زمرة من المغامرين يبحثون فقط عن هدف زمنيّ؟
انتشرت المسيحيّة سريعًا لدرجة أن ترتليانوس Tertullienكتب في عام 190: "نحن من الأمس، وقد ملأنا اليوم الأرض وكلّ ما تملكون: المدن، الجزر، المناطق المحصّنة، البلديّات، القرى، المخيّمات، والقبائل، والإسطبلات، القصر، مجلس الشيوخ، والمنتدى: لم نترك لكم ألا الهياكل فقط! [...] كان بمقدورنا، دون اللجوء إلى أسلحة ودون تمرّد، الانفصال عنكم بكلّ بساطة، ونقاتلكم بطلاق بغيض [...] بدون شك، كنتم سترتعبون من وحدتكم، من صمت العالم ومن هذا النوع من الخدر حيث ستسقط الأرض كلّها، مثل جثّة ميّتة ."
نحن لم نعمل في مجال المغامرة والقوّة، ولا في مجال التحدّي الملقى على المصير وعلى المجتمع. ما هو على المحكّ هو أمر مختلف تماما يرتبط ببعد آخر. لذلك تسقط أيضا أطروحة يسوع المغامر على غرار الأطروحات السابقة.
وألى اللقاء غدا في الحلقة الخامسة.
#موريس_صليبا (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟