|
محمّد الموسويّ، عابر عراقيّ من الإسلام إلى المسيحيّة (1)
موريس صليبا
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 22:19
المحور:
قضايا ثقافية
صدر عام 2010 باللغة الفرنسيّة كتاب بعنوان "مهما كان الثمن" (Le Prix à payer) لمؤلفه جوزف فاضل، أي السيّد محمد الموسوي سابقا. وبعد صدوره بالفرنسيّة، ترجم هذا الكتاب ونشر بالإنكليزية والاسبانية واليونانية والإيطالية والألمانية، واليونانية، والسلوفانية، والبولونية. يتحدث فيه عن مراحل عبوره من الإسلام إلى المسيحية، ويسرد بإسهاب مختلف أنواع الاضطهاد والتعذيب والتهديد التي تعرّض لها وعانى منها بسبب اختياره السير على طريق السيّد المسيح. منذ صدور كتابه باللغة الفرنسية لم تجرؤ حتى الآن أية صحيفة أو وسيلة إعلام عربية أن تتكلّم عن اعتناقه للمسيحية أو عن هذا الكتاب الذي عرف إقبالا منقطع النظير في الدول الغربيّة. لذلك نودّ اطلاع قرّاء العربيّة على سيرة هذا الرجل ومعرفة حقيقة ما جرى معه في ضوء ما جاء في هذا الكتاب.
من هو محمّد الموسويّ العراقيّ الذي بدّل اسمه وأصبح جوزف فاضل؟
ينتمي محمّد إل أسرة "السيّد الموسوي" الشيعيّة العريقة في تاريخ العراق والإسلام. يعود أصلها إلى النبيّ محمد وبالتالي إلى سلالة الإمام الشهير موسى الكاظمي الذي يتحدّر بدوره مباشرة من سلالة علي بن أبي طالب، ابن عم النبيّ وصهره. أسرته لا بل عشيرته كبيرة ومتشعبة، لها فروع عديدة في إيران وفي لبنان حيث يعتبر آية الله الخميني والسيّد حسن نصر الله من أفرادها، أي من آل الموسوي. أما والده، السيّد فاضل علي الموسوي، فكان حتى وفاته عام 2001 زعيما وقائدا معروفا لهذه القبيلة، بالإضافة إلى ثروته الطائلة واعتباره من كبار الملاّكين الزراعيين والإقطاعيين في العراق. اشتهر بمعارفه المتعددة واختباره الواسع واعتداله الرصين وشخصيته المرموقة، وهذا ما أهّله لزعامة شؤون القبيلة الموسوية بكاملها. هذه الأسرة هي في الواقع أسرة ارستقراطية تلعب دوما دورها وتحافظ على كرامة قبيلتها في المجتمع العراقي. عمل الوالي على توجيه ابنه محمّد وإعداده لتسلّم إدارة شؤونها عندما يعجز ويتقدم في السنّ. لذلك كان في طفولته كما في شبابه يشعر بالحمل الثقيل الذي سيلقى يوما ما على عاتقه، فلم يتسنّ له كباقي الأطفال أن يعيش طفولة سعيدة، هادئة، تعجّ باللعب واللهو والمرح. كان من واجبه معاشرة الراشدين وحضور الاجتماعات في القاعة الكبيرة المخصصة لذلك في دارتهم الفسيحة العامرة والتي يدعو إليها ويترأسها دائما والده. وهذا ما كان يسبّب له الكثير من الضجر والملل والكآبة، بالرغم مما كان يتمتع به من امتيازات ومن تقدير واهتمام خاص سواء من قبل الوالد الذي كان يعتبره وريثه ووليّ عهده، أو من قبل أفراد الأسرة الصغيرة أو القبيلة بكاملها بزعامة الوالد. لذلك كان محمّد الابن الكبير يعيش في جوّ من الرفاهية والترف والبذخ.
قبل اعتناقه المسيحيّة كان محمّد الموسويّ، مثل كل مسلم، يعتقد أن المسيحية دين محرّف وأن المسيحيين كفرة، مشركين، أنجاس، حرّفوا كتبهم المقدّسة ويمارسون دائما الكذب، والنفاق، والفسق، والفساد. كان يتجنبهم ويبتعد عن معاشرتهم، لأن الناس في دارته كانوا دائما يرددون على مسامع الحاضرين أن المسيحيين يجتمعون في الكنائس، ليس للصلاة كما يفعل المسلمون في الجوامع، بل لممارسة الفجور وارتكاب الفحشاء الجماعية.
أما عن احتكاكه بالمسيحيين فقد حصل في بداية العام 1987 عندما التحق بالخدمة العسكرية بعد أن تمكن من التهرب منها مدة خمس سنوات بفضل نفوذ والده وعلاقاته المتينة بالمسؤولين السياسيين وإمكانية شراء ضمائر الموظفين بالمال. ولكن في المرة الأخيرة كان لا بدّ له من الانصياع. فتمّ إرساله إلى كتيبة المشاة في قاعدة عسكرية تبعد عشرين كلم عن شط العرب، أي النهر الذي يفصل بين إيران والعراق. كانت تلك القاعدة معدّة كمحطة استراحة للجنود العائدين من جبهة القتال العراقية الإيرانية، بالإضافة إلى كونها مستودعا للأسلحة. لدى وصوله إلى تلك القاعدة، قيل له أنه سيسكن في حجرة واحدة مع رفيق آخر يدعى "مسعود"، وهو إنسان طيّب ومسيحي. صُدم عند سماع ذلك، وصرخ عاليا:
"هل يمكن لابن الموسوي، زعيم أكبر قبائل العراق الشيعية، أن ينام في نفس الحجرة مع شخص مسيحي يُعتبر "نجسا"، تنبعث منه رائحة كريهة؟" غير أنه لم يكن بوسعه رفض ذلك، فرضخ للأمر مكرها، بانتظار الفرج في اليوم التالي. عند دخوله إلى تلك الحجرة كان مسعود موجودا فيها. رتّب أغراضه وأخذ يراقب هذا الرجل بكثير من الحذر والريبة. وبعد مرور يومين، تبيّن له أن "مسعود" ليس خبيثا، بل إنسانا مهذبا ولطيفا ونظيفا، ولا تنبعث منه أية رائحة كريهة، بعكس ما كان يقال في أسرته بأنه يمكن التعرّف إلى المسيحي من الرائحة الكريهة التي تنبعث منه. عندئذ قال في نفسه: "لربما أرسلني الله سبحانه وتعالى لتبشير هذ الكافر وتحويله إلى الإسلام، وهكذا أكسب أجرا عظيما في الجنة مع حور العين وأنهار اللبن والعسل وكل الملذّات التي وعدنا بها النبيّ". ولكن في الواقع لم تكن هذه المكافأة مبتغاه الرئيسي، بل السمعة الحسنة التي سيتمتع بها بين عشيرته والشهرة الرفيعة في المجتمع العراقي في حال نجح في إقناع هذا المسيحيّ بالإسلام. في البداية، تجنب محمّد كثيرا التطرق مع مسعود إلى المواضيع الحسّاسة، خاصة الدينية، ولكنّه تحيّن الفرص لإقناعه بتفوّق الإسلام وتساميه على الأديان الأخرى.
قبل نهاية الأسبوع الأول على وصوله، كُلّف مسعود بمهمة خارج القاعدة. أثناء غيابه عن الحجرة المشتركة شعر محمّد بانه مثل أسد في قفص، محبطا، لا هدف له ولا عمل. فأخذ يتفحّص المكان الذي يضع فيه مسعود أغراضه، فوقع نظره على كتاب صغير جذبه عنوانه كثيرا، "معجزات يسوع". أخذه وبدأ بقراءته. قبل ذلك لم يسمع إطلاقا بمعجزات شخص يحمل هذا الاسم. حتى في القرآن لا يذكر شيء عن ذلك. وغداة عودة مسعود من مهمته سأله محمّد عن يسوع الذي يتكلم عنه الكتاب، فأجابه حالا: "إنه عيسى بن مريم، الاسم الذي يطلقه عليه القرآن." خطّة محمّد لأسلمة مسعود.
في إحدى المحادثات سأل مسعود هل عند المسيحيين كتاب مقدس مثل القرآن عند المسلمين، بهدف الاطلاع عليه ودحض تعاليمهم ومعتقداتهم، وهل بإمكانه أن يوفر له هذا الكتاب. ولكه قبل أن يرفض مسعود ذلك، سأله: "هل قرأت القرآن؟" أجابه محمّد: "حتما، فهل تعتبرني كافرا أو مسلما سيئا؟" غير أنّ مسعود كرّر السؤال مشددا: "هل قرأت القرآن فعلا؟" فأجابه محمّد بنوع من الحدّة: "ألم أقل لك إنني قرأته، وكذلك أعيد قراءته مرة كل سنة في شهر رمضان." وهنا سأل مسعود محمّدا ببساطة وهدوء: "وهل فهمت معنى كل كلمة وكل آية وردت فيه؟" لم يجرؤ محمّد على الإجابة عن سؤاله، بل لاذ بالصمت، لأن السؤال أربكه كثيرا، إذ شعر وكأنه سيف قاطع ينحره في الصميم. هنا تذكّر محمّد كيف كان الأئمة يعلمونهم ويقولون لهم: "اعلموا أن قراءة القرآن من أوله إلى آخره واجب وتكفي للمؤمن كي يكافأ عليها في يوم الدين، وليس فهم النصّ." غير أن مسعود استغل الفرصة وعرض عليه صفقة: "إذا شئت أن آتيك بالإنجيل للتعرّف على تعاليم الدين المسيحي، فلا مانع لديّ، شرط أن تعيد أولا قراءة القرآن محاولا التعمّق بمعانيه بتجرد وصدق ومنطق سليم دون مواربة أو احتيال." وهكذا بدأ محمّد الموسويّ بقراءة القرآن قراءة نقدية، دون الإشارة بشيء إلى مسعود. ولكن القلق أخذ حالا يقضّ مضجعه، إذ لم يجد شيئا في كتاب محمد يثبت اقتناعاته السابقة التي أخذت تنهار سريعا. هنا بدأ بالتساؤلات المرّة: "ما قيمة هذا الفخر والاعتزاز الذي أتبجّح به عبر اسمي، وقبيلتي، وأصلي وسلالتي؟ ما الفائدة من كل ذلك؟ على ماذا أبني حياتي إذا كان الإسلام هراء وبناء فارغا؟ بمن وبماذا أؤمن من الآن فصاعدا؟"
هنا أخذ محمّد بفقد كل أمل وإيمان بهذا الدين، ووجد نفسه كتائه في الصحراء، لا نصير له ولا دليل. كلما حاول التفكير بحياة وسلوك النبيّ محمد الذي كان يعتبره القدوة الحسنة، وجد نفسه أمام إنسان رهيب بكل معنى الكلمة. لم يتوقّف عن التساؤل: "كيف يعقل أن يكون محمد نبيّا مرسلا من لدن الله، هذا الرجل الذي شرّع لنفسه تعدّد الزيجات والسبايا؟ كيف يمكنني أن أقتدي برجل سلك عكس ما كان يبشر به؟ كيف يجوز له أن يطلب من امرأة مات زوجها أن تنتظر ثلاثة أشهر وعشرة أيام قبل أن تتزوج، بينما هو تزوّج امرأة في نفس اليوم الذي قتل فيه زوجها مع أكثر من ستمائة شخص؟"
وكذلك راودته اسئلة كثيرة مؤلمة عن الإسلام وعن محمد تحرج كل إنسان يحتكم بصدق إلى العقل والمنطق. انهار أيمانه بالإسلام وبمحمد نبيّ الاسلام ولم يعد بوسعه التفكير إطلاقا بتبشير مسعود بهذا الدين. محمّد الموسويّ بدأ بقراءة الإنجيل.
في أيار 1987، استيقظ محمّد مرة من النوم وهو في حالة من الغبطة والانشراح وكأنه تعافى من مرض عضال أدخل الكآبة والأسى إلى نفسه خلال الأسابيع الماضية. وعندها تذكر حلما أتاه ليلا مفاده أنه كان يقف على ضفّة نهر صغير، ويقف أمامه على الضفة الأخرى رجل في العقد الخامس من عمره. ولم يدر ما الذي كان يدفعه للوصول إليه. فبينما حاول العبور وجد نفسه معلّقا في الهواء، فارتعب جدّا من عدم قدرته على العودة إلى الأرض. غير أن ذلك الرجل لاحظ مؤشرات الخوف على وجهه، فمدّ له يده وساعده على العبور. ثمّ قال له: "لا بدّ لك من أن تأكل من خبز الحياة كي تستطيع عبور هذا النهر وحدك." بقيت هذه الجملة محفورة في عقله، بينما تلاشى رويدا رويدا جمال ذلك الحلم.
وحال نهوضه من الفراش، لاحظ أن مسعود قد عاد من إجازته. فحيّاه بنظرة دافئة وابتسامة هادئة. ثمّ قدّم له كتاب الإنجيل الذي كان قد طلبه منه قبل خمسة أشهر. ذكر له بأن هناك أربعة أناجيل في كتاب واحد تروي حياة السيد المسيح، وكلها متوافقة في المضمون، ولكنها تختلف في طريقة الوصف والسرد. فبدأ محمّد بقراءة إنجيل يوحنا، ووقع على الفصل السادس حيث تشير إحدى الآيات إلى "خبز الحياة"، أي الكلمة التي سمعها ليلا في الحلم. فأعاد قراءة تلك الفقرة التي يخاطب فيها المسيح تلاميذه قائلا: "أنا خبز الحياة، من يأتي إليّ لن يجوع أبدا..." وهنا اعترته رعشة رهيبة، وأشرق نور ساطع في حياته فأعطاها معنى جديدا. وقع في عشق السيّد المسيح الذي تتحدّث عنه الأناجيل. وأدرك أن حلم الليلة الماضية لم يكن حلما تافها، بل دعوة أو رسالة خاصة موجّهة إليه عبر هذه الكلمات. غمره فرح روحاني، وتأكد أن مجرى حياته تغيّر تماما ابتداء من تلك اللحظة. وهكذا بدأت رحلته الطويلة مع السيّد المسيح، كما تغيّرت نظرته تماما إلى المسيحية والمسيحيين. فبدلا من الصلوات الخمس المفروضة يوميا في الإسلام، وجد في الصلاة الربّانية، أي "الأبانا" الواردة في الإنجيل، صدى عذبا في عقله وبلسما لذيذا مهدئا في قلبه. فقال في نفسه: "إذا كان الله يتكلّم مثل الأب الذي يحبّ أولاده، وإذا كان يغفر للخطأة ذنوبهم، إذا لن تكون علاقتي معه منذ الآن فصاعدا كما كانت سابقا، علاقة خوف ورعب وابتعاد، بل علاقة حب كما هو الحال بين أفراد العائلة."
فبعد أن كان مصمما على تبشير مسعود بالإسلام، لم تعد لديه أية رغبة إلا الأكل من "خبز الحياة"، بالرغم من عدم فهمه بعد لهذا السرّ.
عندما أخبر مسعود بالتحوّل الجذري في حياته، كان يتوقّع منه أن يبادره بابتسامة عريضة وترحيب حارّ واغتباط لا مثيل له. غير أنه فوجئ بقلق رهيب واضطراب داخلي أليم يعتري هذا الرجل ويشلّ بنيته الصلبة. انفجر مسعود حالا بالغضب قائلا: "ولكنك ألا تعي ما تقول؟ ألا تعرف بأنهم سيقضون عليك؟"
فأجابه محمّد: "هذا أمر مستحيل، أسرتي تحبّني ولا يمكن أن ترضى بأن يصيبني سوء."
عندئذ تفرّس مسعود به مستغيثا: "اسمع جيّدا! أنت تعرّض حياتك للخطر، وحياتي أيضا. في هذا البلد لا يستطيع أي مسلم تغيير دينه بهذه الطريقة، لأن عقابه سيكون الموت المحتّم!" لم يكترث محمّد لإنذاره، بل أجابه: "هل نسيت أن المسيح مات أيضا، و تعرّض رسله كذلك للاضطهاد ولأقصى المخاطر والعذابات حبّا به. فلماذا لا أقتدي أنا بهم إن كنت فعلا أحب السيّد المسيح؟".
عندئذ طلب منه مسعود أن يصلّيا معا ويستلهما الروح القدس كي ينوّر عقلهما. ثمّ شدّد عليه كثيرا كي لا يتكلّم عن هذا الأمر عندما يعود إلى أسرته. وهذا ما حاول فعله إلى حدّ ما.
خلال المأذونية التي تلت، لم يكتم محمّد هذا السرّ تماما. فقد ذهب، حال وصوله إلى البيت، الى أحد آيات الله. سأله عن رأيه بإنجيل المسيحيين، فأجابه:
"هناك أشياء صحيحة فيه وأخرى خاطئة أو ناقصة، مثل مجيء النبي محمد بعد عيسى، كما أن عيسى ليس ابن الله كما يدّعون."
ثم طلب الامام منه ألا يعود إلى استشارته بمثل هذه الأسئلة الصعبة والمضنية، قبل أن يضيف:
"إن الناس يأتون إليّ لأرشدهم إلى ما هو حرام أو حلال في حياتهم. أرجوك أن تتخلّى عن كل هذه الأسئلة اللاهوتية، فهي معقّدة ولا فائدة منها."
كانت الأشهر الأربعة التي قضاها مسعود في القاعدة العسكرية من أسعد الفترات في حياته كشاب. ويتأسف أنها مرّت كما يقول كسرعة البرق، بالرغم من أن نمط الحياة في الخدمة العسكرية لم يتغيّر إطلاقا. غير أن التغيير الجذري حصل في حياته الشخصية الداخلية وفي تلك الحجرة الضيّقة التي كان يتقاسمها مع مسعود.
الجديد في الأمر هو أنهما بدآ يصلّيان معا ولساعات طويلة. فقد علّمه مسعود كيفية رسم إشارة الصليب، وتلاوة صلاة "الأبانا"، و"السلام الملائكي"، وكيفية التأمل بكلام الإنجيل. وهكذا اكتشف كيفية التقرّب من المسيح، وكيفية الحوار الروحي معه. فقد بذل مسعود جهودا حثيثة ليشرح له أسرار الإيمان التي يصعب فهمها على المسلم، مثل سر التثليث.
في الواقع، تعجّب محمّد كثيرا من النظرة الجديدة التي أخذ يلقيها على محيطه والاعتبار الخاص لكل إنسان يعمل أو يتعامل معه. لقد غابت تماما النظرة العلوية السابقة التي ورثها بحكم وضعه العائلي والتي كانت بارزة سابقا في علاقاته مع الجنود رفاقه. فقد أصبح لديه اندفاع لخدمة الآخرين ولمحبتهم كما يحبّهم المسيح. وفي عائلته كذلك، بات الحب الذي يعلّمه إياه يسوع المسيح شعاره مع كل الذين يحيطون به، ولم يعد لديه إلا هدف واحد ألا وهو تقاسم الفرح الداخلي الذي يغمره مع الآخرين الذين لم يشعروا حتى الآن بجمال حلاوته.
بعد انتهاء الخدمة العسكرية وعودته إلى الأسرة، مرّ محمّد بحالة من الريب في بداية فصل الشتاء 1987-1988. لم يعد يتمكن من الاتصال برفيق الدرب، مسعود، الذي بفضله تعرّف على المسيح وتعاليمه السامية وحبّه لبني البشر. كان يفرح كثيرا بالصلاة الجماعية معه، وهذا ما شعر بالحاجة إليه منذ أن افترقا. لذلك قرر أن يبحث عن مواطنين مسيحيين في بغداد كي يصلّي معهم ويتعرّف على طقوسهم أملا بإيجاد من يساعده في سبيل الحصول على المعمودية. كان يغتنم فرص غياب والده عن البيت للخروج والبحث. فكلما اعتقد انه سيجد من يساعده من الكهنة، كانت الصدمة كبيرة تأتي وتخيّب أمله لتحقيق أمنيته. كم من مرة اغلق رجال دين مسيحيين بابهم في وجهه عندما يسمعونه يقول: "أنا آمنت بالمسيح وأريد أن أتعمّد." كم من مرة سمع بعضهم يقول له: "عندما يولد الإنسان مسيحيا يبقى مسيحيا، وهذا هو الحال أيضا بالنسبة للمسلم." وعندما استغاث مرة بأحدهم قائلا له: "أستعطفك باسم المسيح ودمه! أرجوك ألا تطردني من الكنيسة"، ولكن جواب هذا الكاهن كان حزينا ومؤلما: "الأوامر يا أخي واضحة وصريحة وجازمة، لا يسمح لنا إطلاقا بأن نسمح للمسلمين بدخول كنائسنا." وبعد بحث طويل وخيبات أمل عديدة، لم يبق له إلا الصلاة وقراءة الكتاب المقدس الذي كان يجد فيه عزاء لعذابه ومدعاة للأمل. فكان يتذكر دائما ويعود إلى ما قاله المسيح في الفصل الخامس من إنجيل متى: "طوبى لكم إذا عيروكم واضطهدوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهلَّلوا لأن أجركم عظيم في السماوات. لأنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم."
كذلك كان يتذكر كلام مسعود وتحذيراته: "كل مسلم يحاول الانتماء أو الاندماج في جماعة مسيحية عراقية سيواجه حتما حواجز عديدة." فبفضله كان محمّد يثمّن شجاعة المسيحيين الأولين الذين عانوا الكثير من الاضطهادات. وكذلك بفضل الصلاة وقراءة الكتاب المقدس وسير الشهداء لم يفقد الأمل إطلاقا ولم يضعف إيمانه بالمسيح.
في تلك الفترة من البحث والتجاذب بين الأمل والخيبة، بين العذاب والرجاء، كان همّه الوحيد الابتعاد عن البيت والعيش في مكان آمن يستطيع أن يمارس فيه إيمانه بكل حرية ودون خوف أو قلق. لم يفكر إطلاقا بالزواج أو بتأسيس عائلة ولا بخلافة والده على زعامة القبيلة، بالرغم من كل الامتيازات والسلطان المطلق، والثروات الطائلة التي سيتمتع بها.
غير أن والده كان يخطط له عكس ذلك. في بداية العام 1992 فاجأه بقوله: "يا ابني، أريد أن أزفّك خبرا سعيدا، لقد وجدت لك عروسا." لم يستطع سماع ذلك، فأجابه للتوّ رافضا: "ولكن لا ميل لي الآن للزواج." فلم يبال الوالد بكلامه، بل قاطعه قائلا: "لقد دفعت المهر وأعطيت كلامي لأسرة العروس. اعلم أن شرفي وكرامتي أصبحا على المحك، والرفض غير وارد."
وهكذا تزوج محمد من آنسة لم يكن يعرفها مسبقا. وقد رزقهما الرب مولودهما الأول، "أزهر"، في نفس السنة، وبالتحديد في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول، يوم عيد الميلاد.
وهذا ما سمح له بالسكن مع زوجته وابنه في بيت مستقل وبعيد عن مراقبة الوالد وأفراد الأسرة. وقد وفّر له هذا الوضع الأسري الجديد إمكانية التحرّك ومواصلة البحث مجددا عن مجموعة مسيحية ينضم إليها وتساعده على اقتبال سر المعمودية. بالرغم من فشله في المحاولات السابقة، لم بفقد الأمل. في صيف 1993 أعاد من جديد البحث عن المناطق التي يسكنها المسيحيون في بغداد. نجح بعد عناء طويل في الوصول إلى أحد كبار المسؤولين في إحدى الكنائس الذي قَبِل أن يستقبله بعد محاولات مضنية. وما أن كشف له عن اسمه وأسرته المسلمة وإيمانه بالمسيح ورغبته في قبول سرّ المعمودية، حتى ارتعب وثار غيظه وطرده خارجا. آلمه كثيرا هذا التصرّف بالرغم من تفهمه لخوف المسيحيين. إلا أن الرب كان يدبّر شؤونه. في نفس اليوم، أعلمه مواطن مسيحي بسيط بأن الكاهن الذي يخدم رعيته، يرغب في استقباله حالا. وهكذا تعرّف إلى رجل دين مسيحي آخر أدرك تماما صدقيّة إيمانه وسمح له بالتردد إلى كنيسته ومشاركة المؤمنين في الاحتفالات والصلوات الدينية.
محاولة الهرب والاختفاء
في تلك الفترة كان محمّد عازما على ترك زوجته والهرب إلى منطقة بعيدة يستطيع فيها عيش إيمانه وحياته المسيحية بأمان وهدوء. غير أن ولدهما أزهر غيّر حياته وتفكيره، ولم يعد بإمكانه أن أعيش في الخفاء عنه وعن زوجته التي أنجبت له هذا الملاك. فبعد معاناة أليمة، صارح زوجته التي كانت متمسكة بإسلامها ومتديّنة كثيرا، بحقيقة محبة المسيح ولماذا آمن به. ولكنها اغتاظت من ذلك وهربت من البيت عائدة إلى بيت ذويها. غير أن الربّ منحها القوّة والصبر كي تحتفظ بهذا السر. ثم بعد عودتها إلى البيت، نجح محمّد في اقناعها بقراءة الإنجيل كي تتأكد من سمو الإيمان بالمسيح. وهكذا بدأت، بعد رفضها القاطع ومحنة أليمة تجاوزتها، ترافقه مع ولدهما إلى الكنيسة وتشترك في الطقوس الدينية الرعوية، أملا بأن يتقبلوا جميعا سر المعمودية ويقبلون جسد المسيح الذي هو خبز الحياة. غير أن الكاهن الذي تعرف إليه وقبل بمرافقتهم روحيّا لم يجرؤ على تعميدهم خوفا من السلطات الدينية والسياسية.
لم يفقد محمّد الأمل، بل اخذ يبحث عن كنائس أخرى. وبعد عناء تعرف على كاهن راهب من أصل أجنبي يدعى "الأب غبريال"، يتكلم العربية بطلاقة رائعة. فبعد حوار طويل ومكثّف معه دام فترة من الوقت، وبعد نشوء صداقة بينهم وبينه، قبل أن يعمدهم بعد إعدادهم وتربيتهم المسيحية الضرورية لقبول هذا السرّ العظيم.
انفضاح سرّه
خلال فترة الإعداد للمعمودية، كان لدى محمّد حدس يؤرقه بأنهم لن يصلوا إلى النهاية. بالرغم من الاحتراز بالنسبة للعائلة، توقف عن المشاركة في الممارسات الدينية التي تشير إلى انتمائه للإسلام. مثلا توقف عن الصلاة ومرافقة أفراد القبيلة كل يوم خميس في زيارة الأماكن المقدّسة الشيعيّة في كربلاء. وهذا الأمر أثار كثيرا قلق العائلة.
فمساء أحد أيام صيف 1997، وأثناء غيابهم عن البيت جاء إخوته وأولاد عمّه وبعض أفراد من قبيلته إلى بيتهم وأخذوا يفتّشونه، فوجدوا الكتاب المقدس الذي كان يضعه دائما في مكان بعيد عن الأنظار، كما سألوا ابنهما أزهر إلى أين يذهبون كل يوم أحد معا، فأجابهم برسم إشارة الصليب على وجهه. وهكذا انفضح أمرهم أمام العائلة وخرج للعلن.
ج - في صباح اليوم التالي استدعاه الوالد إلى قاعة الاستقبال. وما أن وطأُ عتبة الباب حتى انهارت عليه الأيادي بالضرب. غُلّت يداه ورجلاه بالسلاسل وألزم على الركوع أرضا. وعندما رفع رأسه قليلا ليرى من هم الذين مارسوا ذلك، تبيّن له بأنهم إخوته وأعمامه وأولادهم، وبينهم حسن، المسؤول في جهاز المخابرات. ولمّا سأل الوالد عما حصل، أجابه باحتدام وهيجان جنوني:
"أتسأل عمّا حدث أنت الذي أصبحت مسيحيا؟ أنت مريض أو مجنون؟ هل تتخيّل العار الذي سيلحق بي، أنا والدك؟ أنت تعرف جيّدا أنه، عندما يتحوّل أحد أولاد قبيلتنا من المذهب الشيعيّ إلى المذهب السنّي، لا يسمح بعد ذلك، حتّى لأهله، بالدخول إلى دارنا ولا إلى مساجدنا. والآن ماذا سيُقال عن أحد أولادي الذي اعتنق المسيحيّة؟ لم يبق لي الآن إلا وضع حجاب على وجهي عندما أخرج الى الشارع تماما كما تفعل أمّك." وكذلك والدته التي دخلت القاعة، أخذت تولول وتتقيأ عبارات رهيبة: "أقتلوه، اقتلوه، وارموه في الزبالة!". بعد مشاورات جرت بين والده وباقي أفراد الأسرة، نُقل محمّد في صندوق سيارة إلى النجف. في الطريق شعر بالخوف من الموت دون قبول سرّ المعموديّة. فحال توقف السيارة هناك، قاده إخوته واقرباؤه، مكبّلا بالسلاسل، إلى مكتب آية الله الإمام محمد باقر الصدر الذي أصدر، بحضور والده وباقي أفراد الأسرة الذين رافقوه، فتوى تقول: "إذا ما تأكد أنه تحوّل إلى المسيحية، فإنه يستحقّ الإعدام، والله سيكافئ منفذ هذه الفتوى."
عندما سمع ذلك تنفّس محمّد الصعداء وشعر بأن مهلة إضافية بالحياة أعطيت له. غير أن الإخوة أعادوه إلى صندوق السيّارة التي اتّجهت نحو بغداد، دون معرفة المصير الذي ينتظره.
(والي الغد في الحلقة الثانية والأخيرة)
#موريس_صليبا (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ياسر إريك، إسلاميّ سودانيّ يصبح أسقفًا أنغليكانيًّا
-
اليكم ماأنجزه الوجود الفرنسي خلال 132 سنة في الجزائر. رسالة
...
-
حمدان عمّار، مفكّر ثائر على الفكر الإسلاميّ المدمّر
-
كيف كفرت بالإسلام مسلمة سلفيّة في فرنسا
-
سالم بن عمّار: يا شعوب إفريقيا الشماليّة، ألم تدركوا بعد أنّ
...
-
هوبار لومار (26)ز خواطر ختاميّة
-
هوبار لومار يسأل (25): هل من حلّ لخروج المسلمين من مأساة الإ
...
-
هوبار لومار يسأل (24): متى ستستيقظون أيّها المسلمون؟!
-
هوبار لومار يسأل (22):هل تعرفون كيف تسيئون لأولادكم؟
-
هوبار لومار يسأل (22): ماذا تعرفون عن أحوال العالم الإسلامي؟
-
هوبار لومار يسأل (21): هل سمعتم بمبدأ -المعاملة بالمثل-؟
-
هوبار لومار يسأل (20): ماذا تقولون عن هجرة المسلمين إلى الغر
...
-
هوبار لومار يسأل (19): ماذا تعرفون عن -المسلم المعتدل-؟
-
هوبار لومار يسأل (18): هل تعرفون أنّ الرجل المسلم متسلّط؟
-
هوبار لومار يسأل المسلمات (17): ماذا تعرفن عن الحجاب؟
-
هوبار لومار يسأل (16) المرأة المسلمة: ماذا تعرفين عن وضعك في
...
-
المواطن الفرنسيّ هوبار لومار يسأل (15): هل تعرفون حقيقة مفهو
...
-
هوبار لومار يسأل (14): أيها المسلمون، هل تعرفون حقيقة موسى و
...
-
هوبار لومار يسأل (13): أيّها المسلمون، ماذا تعرفون عن الخنزي
...
-
هوبار لومار يسأل (12): أيّها المسلمون، هل تعرفون حقيقة صيام
...
المزيد.....
-
ميلانيا ترامب: تربطني بالرئيس بوتين قناة اتصال مفتوحة للمّ ش
...
-
السعودية: إحباط تهريب 8.6 كيلوغرام من مخدر -الشبو- عبر منفذ
...
-
قوات أمريكية تصل إلى إسرائيل.. ومصدر يوضح مهمتها
-
مَن هي الفنزويلية التي فازت من مخبئها بجائزة نوبل للسلام، وه
...
-
ماكرون يعيد تعيين سيباستيان لوكورنو رئيسا للوزراء
-
بعد ترامب .. السيسي يدعو ميرتس للاحتفال في مصر بوقف حرب غزة
...
-
تونس: احتجاجات في قابس تطالب بتفكيك مجمع للفوسفات بعد تسجيل
...
-
ما الأبعاد الإستراتيجية العسكرية لوقف إطلاق النار في قطاع غز
...
-
مظاهرات في دول عربية احتفالا بوقف الحرب بغزة
-
واشنطن تقيم مركز تنسيق في إسرائيل لمراقبة تطبيق اتفاق غزة
المزيد.....
-
في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي
/ د. خالد زغريت
-
الحفر على أمواج العاصي
/ د. خالد زغريت
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
-
الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان
/ د. خالد زغريت
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
المزيد.....
|