خالد علي سليفاني
شاعر وكاتب ومترجم
(Khaled Ali Silevani)
الحوار المتمدن-العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 16:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مقدمة: المراهقة العمرية كمدخل للفهم
في سنوات المراهقة، يتأثر الإنسان بالمظاهر، لأن وعيه يكون في طور التشكّل، ولأن نظرته إلى ذاته تمرّ في الغالب عبر عيون الآخرين قبل أن تستقر في داخله. في هذه المرحلة، يصبح الشكل لغة القبول الاجتماعي، واللباس بطاقة عبور رمزية، والصورة مرآة مؤقتة للهوية. لا يبحث المراهق عن الجمال لذاته بقدر ما يبحث عن الاعتراف، عن أن يُرى ويُعترف به في عالم سريع الحكم وقليل الصبر.
المظاهر هنا ليست سطحية تمامًا، بل تمثل تعبيرًا غير ناضج عن سؤال أعمق: من أنا؟ وحين تغيب البوصلة الداخلية، تحلّ محلها الرموز الخارجية. ومع الزمن، إذا توافرت التجربة والوعي النقدي، يكتشف الإنسان أن القيمة لا تُستمد من القشرة، وأن المظهر قد يلفت الانتباه ويثير الإعجاب لكنه لا يمنح المعنى، وأن الهوية المبنية على نظرة الآخرين تظل هشّة، قابلة للانكسار عند أول اختبار وجودي حقيقي.
ما يبدأ كتجربة عمرية طبيعية، قد يتحوّل لدى البالغين إلى أزمة أعمق حين يغيب النقد الذاتي ويحل الانبهار محل الفهم، وهذا ما سنسميه "المراهقة الفكرية".
المراهقة الفكرية: حين تصبح الأزمة دائمة
من هذا المنظور، لا تُعدّ المراهقة مرحلة إشكالية في ذاتها، بل طورًا ضروريًا يتعلّم فيه الإنسان أن العمق وحده هو ما يبقى. غير أن الإشكال الحقيقي يظهر حين تنتقل هذه الآلية من المراهقة العمرية إلى سن الرشد، أي حين نقع أمام ما يمكن تسميته بالمراهقة الفكرية، ولا سيما لدى فئة من البالغين المنجرفين وراء تيار تمجيد الغرب والحضارة الغربية. هنا، تتحوّل المسألة من مرحلة طبيعية إلى أزمة وعي. فحين ينجرف البالغ وراء المظاهر، لا نكون أمام بحث عن هوية، بل أمام فراغ في المعنى أو هروب من سؤال الذات.
مظاهر المراهقة الفكرية في مجتمعاتنا
تتجلى هذه الظاهرة في صور متعددة من واقعنا المُعاش:
فعلى سبيل المثال وعلى المستوى الفردي، نجد شاب يعود من دراسته في الخارج ليرفض التحدث بغلته الأم في بلده، معتبرًا ذلك علامة "تخلف"! أو امرأة تستنكر على أمها ارتداء الحجاب لأنه "لا يليق بالعصر"، بينما هي نفسها ترتدي ما يُملى عليها من صيحات الموضة الغربية دون تفكير. وعلى المستوى الثقافي، نجد مثقفين يسخرون من كل ما هو محلي ويمجدون كل ما هو مستورد، بدءاً من نمط الحياة وصولًا إلى القيم الأخلاقية، دون قراءة نقدية للسياق، وإعلاميين يقدمون صورة مثالية عن "الحياة هناك" مقابل تشويه ممنهج لـ "الحياة هنا". علاوة على المستوى الاجتماعي؛ إذ نجد عائلات تفخر بأن أبناءها "لا يشبهون أبناء البلد"، أو نخب تتبرأ من انتمائها الثقافي أمام الآخر، ظنًا أن ذلك يمنحها القبول.
الحداثة الغربية: ما وراء الصورة المثالية
لم تُصدّر الحداثة الغربية التكنولوجيا وأنماط العيش فقط، بل صدّرت أيضًا ما وصفه "هربرت ماركيوز" في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد بمنطق الاستهلاك الرمزي، حيث يُقاس النجاح بما يُرى، وتُحدَّد القيمة بما يُعرض، ويُختزل الإنسان فيما يستهلك.
عندما تتلقّى بعض النخب في مجتمعاتنا هذا النموذج دون تفكيك نقدي، يتحوّل التقليد إلى تبعية، والإعجاب إلى ذوبان، والتمدّن إلى قشرة بلا جذور. هنا يظهر ما يمكن تسميته بـ "المراهق الحضاري": جسد ناضج بعقل مستعار، يتبنّى حداثة لا يفهم شروطها التاريخية ولا سياقاتها الاجتماعية، ويستعير قيَمًا لم تُختبر في واقعه.
الواقع الغربي: ما لا يُقال
إنّ الصورة المنقولة إلينا عن الغرب هي ليست الحقيقة كاملة. فالمجتمعات الغربية تعاني من أزمات عميقة لا تقل خطورة عن أزمات المجتمعات الشرقية، وإن اختلفت في الشكل:
المستوى الاقتصادي: فجوات طبقية متزايدة، ضغط اقتصادي، ساعات عمل طويلة، أنظمة ضريبية مرهقة. وفقًا لإحصاءات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) لعام 2023، يعمل الأمريكي العادي حوالي 1,791 ساعة سنويًا مقابل 1,343 ساعة للألماني ك أقصر معدل لمتوسط عدد ساعات العمل، ما يعكس ضغطًا اقتصاديًا يحدّ من قدرة الفرد على تحقيق الذات ويحوّل العمل إلى مجرد وسيلة للبقاء.
المستوى الأسري: معدلات طلاق مرتفعة (50% في الولايات المتحدة، 42% في المملكة المتحدة)، تفكك أسري، علاقات سريعة، التزام هش، أنماط الأسرة الأحادية، وأطفال يفتقدون الاستقرار العاطفي، ففي دراسة نشرتها جامعة أكسفورد عام 2019 أشارت إلى أن واحدًا من كل أربعة شباب بريطانيين يشعر بالوحدة المزمنة.
المستوى النفسي: ارتفاع حاد في معدلات الاكتئاب والقلق واستهلاك المهدئات. حسب منظمة الصحة العالمية، فإن 5.9% من الأوروبيين يعانون من الاكتئاب، مقارنة بـ 4.4% كمعدل عالمي.
كما يشير نعوم تشومسكي في تحليلاته للنظام النيوليبرالي، فإن هذه الظواهر ليست انحرافات فردية، بل نتائج بنيوية لمنطق السوق حين يُفرض على الإنسان والعلاقات معًا.
الواقع الشرقي: بين النقص والميزات
في المقابل، تحتفظ المجتمعات الشرقية، رغم أزماتها العميقة في العدالة والاقتصاد والحريات، بنسيج اجتماعي يخفف من حدّة السقوط الفردي: العائلة، القرابة، الجيرة، والبيئة المحافظة، بكل ما فيها من قيود، تمنح نوعًا من الأمان الوجودي لا توفره القوانين وحدها. والمفارقة أن كل طرف ينظر إلى الآخر من زاوية مغايرة: الشرقي يحلم بحرية الغرب، والغربي، في لحظات الصدق، يحنّ إلى دفء الشرق. لكن الأزمة تبدأ حين نقلّد نتائج حضارة دون أن نرى تكاليفها، وحين نجلد ذواتنا بثقافة الآخر ظنًا منّا أنها الخلاص.
كما يشير زيغمونت باومان في كتابه الحداثة السائلة، فإن الحداثة تُنتج أفرادًا أحرارًا شكليًا، لكنهم هشّون وجوديًا، يعانون من قلق دائم وانعدام استقرار طويل الأمد.
رسالة للمنبهرين
قبل الحديث عن الحل، لا بد من توجيه رسالة صريحة لأولئك الذين يمجّدون الغرب ولا يرون إلا جانبه المشرق: مهما بالغت في المدح، هل تعتقد حقًا أن أغلبهم يعيش تلك الصورة المثالية؟
ثم اعلم أنك، كشرقي، ستواجه في كثير من الأحيان نظرات نمطية: آخر ثقافيًا، وربما مشروع خطر ما لم تُثبت العكس. لكن هذا الإثبات لا يكون بتقليد المظهر، ولا بجلد الذات، بل بالخروج من المراهقة الفكرية، وبناء وعي ناضج يفهم الآخر دون أن يذوب فيه. فالغرب لا يحترم المقلِّد، ولا يعترف بالمنبهر، بل يحترم من يمتلك وعيه، ويقف على أرضه وهو يحاور الآخر برؤية نقدية، لا بعقل مستعار.
معايير النضج الحضاري
بعد هذا التشخيص، لا يعود السؤال الجوهري: من على حق، الشرق أم الغرب؟ السؤال الأعمق هو: متى يكون المجتمع، أو الفرد، ناضجًا حضاريًا؟
إنَّ النضج الحضاري لا يُقاس بتراكم المظاهر، ولا بسرعة استهلاك الحداثة، ولا بقدرة المجتمع على استنساخ نماذج الآخرين، بل بمدى قدرته على:
إنتاج المعنى: أن يمتلك المجتمع مشروعه الخاص، لا مجرد استيراد مشاريع الآخرين.
التوازن بين الحرية والمسؤولية: بين الفرد والجماعة، وبين التقدّم المادي والاستقرار الإنساني.
الوعي النقدي: القدرة على التفكيك والاختيار، لا على النقل والتكرار.
الأصالة المتجددة: الحفاظ على الجذور مع الانفتاح على الجديد.
مسارات الخروج من المراهقة الفكرية
على مستوى الإعلام: إنَّ الإعلام ليس مجرد مرآة تعكس الواقع، بل حقلًا للتفكيك والتحليل، حيث يُقرأ ما يُعرض وما يُخفى، ويُفهم كيف تتقاطع الصورة مع البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. نحتاج إعلامًا ينقل الحقيقة كاملة، لا الصورة المزيّفة فقط.
على مستوى التعليم: بتحول التعليم من الحفظ والنقل إلى الفهم والنقد، حيث تتعلم العقول أن تزن كل نموذج حضاري في سياقه، وأن تميّز بين الشكل والجوهر، وأن تفكك القيَم لتعيد بناءها بما يتناسب مع تجربتها وواقعها. ليس المهم ما الذي نأخذه من الآخر، بل كيف نعيد تفسيره، وكيف يصبح مرآة لنا، لا مجرد تقليد أعمى.
وعلى مستوى الذات: يبدأ النضج حين يدرك الفرد أن قيمته لا تُقاس بنظرة الآخرين له، وأن الاحترام لا يُستمد من تقليد الصور والمظاهر، بل من قدرة الإنسان على مساءلة ذاته، ومواجهة مخاوفه الرمزية، وبناء استقلالية فكرية قادرة على الحوار مع الآخر دون أن تفقد الأرضية التي يقف عليها.
خاتمة: رحلة لا نهاية لها
ا يمكن الخروج من المراهقة الفكرية وبلوغ الرشد الفكري والنفسي دفعة واحدة، بل يتم ذلك من خلال مسار تراكمي، رحلة متواصلة. يمنح الإعلام أدوات الرؤية، والتعليم أدوات الفهم، والذات أدوات اتخاذ القرار. ومع ذلك، فإن النضج الحضاري لا يتحقق إلا حين تتكامل هذه المستويات، ليولد إدراكًا قادرًا على صناعة المعنى، والحفاظ على التوازن بين الحرية والمسؤولية، وبين الانفتاح على الآخر والثبات على الذات.
إنها رحلة الإنسان نحو ذاته في مواجهة العالم، وليست مجرد هروب من الانبهار أو استبدال نموذج بنموذج آخر.
المصادر والمراجع:
زيغمونت باومان، الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رؤوف عزت، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الثالثة، 2016.
هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت: منشورات دار الآداب، الطبعة الثالثة، 1988.
جورج طرابيشي، من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة، بيروت: دار الساقي للطباعة والنشر، 2009.
نعوم تشومسكي، الربح مقدمًا على الشعب: النيوليبرالية والنظام العالمي، ترجمة لمى نجيب لهيئة العامة السورية للكتاب، 2011.
منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، إحصائيات ساعات العمل السنوية، 2023.
منظمة الصحة العالمية (WHO)، تقرير الصحة النفسية العالمي، 2022.
University of Oxford, "Loneliness among young people in the UK"، British Journal of Sociology، 2019.
#خالد_علي_سليفاني (هاشتاغ)
Khaled_Ali_Silevani#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟