خالد علي سليفاني
شاعر وكاتب ومترجم
(Khaled Ali Silevani)
الحوار المتمدن-العدد: 8560 - 2025 / 12 / 18 - 00:20
المحور:
قضايا ثقافية
مقدمة
حين نستمع إلى أغنية ناجحة، نردد كلماتها ونتأثر بمعانيها، لكننا نادرًا ما نتساءل: من كتب هذه الكلمات؟ من ألّف هذا اللحن؟ يظهر المغني على الخشبة محاطًا بالأضواء، بينما يبقى الشاعر والملحن خلف الكواليس، حاضرين بآثارهم، غائبين بأسمائهم. ليس هذا مجرد تقسيم عمل، بل إشكالية وجودية تمس طبيعة الإبداع ذاته: أين يكمن العمل الفني حقًا؟ أفي النص المكتوب أم في الأداء المسموع؟ في الفكرة أم في تجسدها الحي؟
الفصل الأول: الانقسام الأصلي - الجوهر والظاهر
تقوم الثقافة الغنائية على ثلاثية واضحة: الشاعر والملحن ينتجان المعنى الأصلي (الجوهر)، والمغني يجسده أداءً (الظاهر). تضع الفلسفة الكلاسيكية، من أفلاطون إلى هيغل، الجوهر فوق الظاهر، وتؤكد أن الفكرة أسبق من التجلي. لكن المفارقة تبدأ لحظة النجاح: من الذي يُحتفى به غالبًا؟ الظاهر غالبًا، أي المؤدي، فيما يُهمَّش الجوهر، أي الصانع الأول للمعنى.
مفارقة الصانع المحجوب
يواجه الصانع ما يمكن تسميته "مفارقة الخالق المحجوب": آثاره حاضرة في الوعي الجمعي، محبوبة ومرددة، لكن اسمه غائب. يردد الجمهور الكلمات دون أن يعرف صاحبها. هذا ليس إغفالًا عرضيًا، بل "اغتراب رمزي" بالمعنى الماركسي: حين ينفصل المنتج عن نتاج عمله، يغدو ذلك النتاج غريبًا عنه ويُنسب لغيره. أن ترى معناك يعيش في العالم، لكنه لا يحمل توقيعك، تجربة وجودية حقيقية.
الأسبقية الأنطولوجية للنص واللحن
يمكن أن يُقرأ النص ويُقدَّر مستقلًا، ويُسمَع اللحن ويُفهم بوصفه تركيبًا موسيقيًا قائمًا بذاته. أما صوت المؤدي، مهما بلغ تميزه، فيظل غير قادر على التحقق من دون مادة يحملها. بهذا المعنى، فالشاعر والملحن "أعلى قيمة" وأسبق وجوديًا: ما يقدمانه قابل للحضور حتى في غياب التجسيد الصوتي، بينما يظل الصوت إمكانًا معلقًا من دون نص أو لحن يمنحه شكلًا ومعنى.
الفصل الثاني: المؤدي كمبدع - ما وراء القناع
يرى نيتشه أن الحضارات تكافئ من يجيد ارتداء الأقنعة، لكن هل يكون المغني مجرد قناع؟ الجواب: لا؛ فالمؤدي الحقيقي هو "مفسر نشط" يعيد تشكيل العمل لحظة أدائه. يختار النبرة التي تحدد الأثر العاطفي، ويضبط الإيقاع الذي يصنع التوتر أو الانسياب، ويضيف الحضور الجسدي الذي يجعل المعنى محسوسًا. لم تكن أم كلثوم مجرد واجهة لأحمد رامي، ولم تكن فيروز ناقلة محايدة للأخوين رحباني؛ بل شريكات حقيقيات في تحقق العمل النهائي.
الأداء بوصفه إعادة خلق
يؤكد هانس غيورغ غادامير أن التفسير ليس عملية لاستعادة المعنى الأصلي، بل إنتاج معنى جديد في سياق جديد. المغني لا يعيد إنتاج النص فحسب، بل يخلقه من جديد في كل أداء. الصوت البشري وسيط حي يحمل تجربة المؤدي الشخصية، وفهمه الخاص للنص، وعلاقته الآنية بالجمهور. مثال حي: قصيدة أبي فراس "أراك عصي الدمع" التي كُتبت في القرن العاشر، لم تُنقَل فقط حين غُنِّيت في القرن العشرين، بل أُعيد خلقها بالكامل عبر الأداء الصوتي والحضور الإنساني للمؤدي.
ملكية العمل الفني
أعلن رولان بارت "موت المؤلف"، أي استقلال النص عن نية صاحبه بعد إنتاجه. في الأغنية: يكتب الشاعر النص، يؤوله ويجسده المغني، ويستقبله الجمهور ويمنحه معناه النهائي. من هنا، لا يمكن رد ملكية العمل إلى طرف واحد؛ فالعمل الفني الناجح هو حدث تعاوني تتقاطع فيه الذوات، ولا يخضع لملكية حصرية لأي منها.
الفصل الثالث: الاعتراف بوصفه حاجة وجودية
هيغل والاعتراف
يرى هيغل أن الوعي الذاتي لا يكتمل إلا عبر "اعتراف الآخر" به. مطلب الشاعر لا يقتصر على المقابل المادي، بل يتجاوزه إلى: التسمية: أن يُقال هذا كلامه. والاعتراف: أن يُعترف به مصدرًا للمعنى. فالحضور: أن يكون جزءًا من الذاكرة الثقافية. وغياب هذا الاعتراف يولد "عدمًا رمزيًا": شعور الذات بأنها غير مرئية، وهو شعور وجودي قبل أن يكون أخلاقيًا.
سياسة الأغنية الاقتصادية: التهميش المادي
لا يقتصر الإشكال على الاعتراف الرمزي. هناك بعد مادي حاسم غالبًا ما يُسكت عنه في النقاشات الثقافية، لكنه يشكل العمود الفقري للتراتبية الظالمة بين الصانع والواجهة.
نماذج التعاقد والتوزيع المالي
في معظم مؤسسات إنتاج الأغاني العربية المعاصرة، يحصل الشاعر والملحن على واحد من نموذجين: المبلغ المقطوع: يُدفع مبلغ ثابت مقابل التنازل الكامل عن حقوق العمل. في هذه الحالة، لا يستفيد الصانع من أي نجاح مستقبلي للأغنية، مهما بلغت شهرتها أو عائداتها. ونسبة محدودة من الحقوق: وفق تقديرات، قد يحصل الصانع على نسبة صغيرة (5–15%) من حقوق الأداء أو التوزيع الرقمي، بينما تذهب النسبة الكبرى للمطرب وشركة الإنتاج. ومقابل ذلك، يحصل المؤدي على حصة الأسد من عائدات الأغنية (60–70%)، وكامل عائدات الحفلات الحية، وعائدات الإعلانات والظهور الإعلامي، والعقود الترويجية المرتبطة بشهرته.
دور شركات الإنتاج في التعميق
في سعيها لزيادة الربح، تركز شركات الإنتاج الموسيقي على "النجم"، باعتباره المنتج القابل للتسويق، لا على "العمل" باعتباره نتاجًا جماعيًا. وهذا التوجه يؤدي إلى احتكار الصورة، حيث تركز حملات الترويج والإعلام على وجه المطرب وصوته، بينما يُذكر الشاعر والملحن في سطر صغير. وهي عملية تسليع النجم، حيث يتحول المطرب إلى "علامة تجارية" مستقلة، وتصبح الأغنية جزءًا من منتجات هذه العلامة.
إعادة إنتاج التراتبية: التهميش المادي يولد تهميشًا رمزيًا، والعكس صحيح.
العلاقة الجدلية بين الرمزي والمادي
إنّ غياب الاسم ليس نسيان ثقافي محض، بل هو نتيجة بنية اقتصادية تجعل من مصلحة الأطراف الأقوى أن يبقى الصانع في الظل. وبهذا المعنى، يشكل التهميش الرمزي والمادي دائرة مغلقة، فغياب الاعتراف يضعف الموقف التفاوضي، وضعف الموقف التفاوضي يعمق الغياب.
حدود حق الاعتراف
لا يمكن اعتبار الاعتراف حقًا مطلقًا، فثمة أسئلة مهمة تطرح نفسها:
هل كل مساهمة تستحق وزنًا متساويًا؟
هل يملك الصانع حق تثبيت معنى عمله إلى الأبد؟
تجاوزت أعمال كثيرة نيات أصحابها أو خالفتها. المعنى في النهاية أكبر من منتجه الأول.
الفصل الرابع: السياق التاريخي والتحول
العصر الذهبي: اعتراف متوازن
في منتصف القرن العشرين، كان الاعتراف بالشعراء والملحنين واضحًا، إذ كان الجمهور يعرف أن أحمد رامي كتب لأم كلثوم، وأن محمد عبد الوهاب لحّن لعبد الحليم؛ كانت الأسماء تُذكر في المقدمات وتُطبع على الأسطوانات، ما وفر توازنًا رمزيًا بين الأطراف الثلاثة.
الانهيار المعاصر
مع صعود صناعة الموسيقى التجارية، وبدء إنتاج (الفديو - كليب) أصبح التركيز على "النجم" بوصفه منتجًا تسويقيًا، فتراجع التوازن، وأصبح المغني الواجهة الوحيدة، والشاعر والملحن مجرد "مزودي خدمات". غدتِ الأغنية تُنسب إلى الصوت لا إلى النص، وإلى الصورة لا إلى اللحن. لا يعدّ هذا التحول فنيًا فقط، بل اقتصادي وثقافي؛ فالرأسمالية الثقافية تفضل الواجهة الواحدة القابلة للتسويق على التعقيد التعاوني.
الفصل الخامس: مفهوم "الإبداع المُعلَّق"
التعريف:"الإبداع المُعلَّق" هو ذلك الشكل من الإبداع الذي يُنجَز كاملًا من حيث الجوهر، لكنه يبقى ناقص التحقق من حيث الاعتراف. النص مكتوب بتمامه، واللحن مُنجَز في بنيته، والعمل جاهز من حيث الإمكانية. لكن تحققه الوجودي يظل مرهونًا بلحظة التجسيد العلني، أي بانتقاله من الصانع إلى الواجهة.
التعليق كحالة دائمة
قد يتحول الإبداع المُعلَّق إلى حالة دائمة حين لا يُعاد وصل النص/اللحن بالاعتراف، فالصانع موجود من حيث الأثر، لكنه غائب من حيث الاسم. وهذا التعليق يُصيب ذات الصانع نفسها، إذ يعيش مفارقة الوجود بلا ظهور، والتأثير بلا حضور.
المؤدي: كاسر التعليق أو معيد إنتاجه
المؤدي هو "فاعل أخلاقي": إما أن يكسر حالة التعليق عبر الاعتراف الصريح بالمصدر ودوره في نجاح المؤدي، أو أن يعيد إنتاجها عبر اختزال العمل في صوته وصورته. والصراع بين الصانع والمؤدي ليس صراع موهبة، بل صراع حول من يملك سلطة فكّ التعليق.
شرط الاكتمال
لا يكتمل الإبداع لحظة الأداء، بل لحظة الاعتراف المتبادل، فالتجسيد يمنح العمل جسده، والاعتراف يمنحه اسمه. والإبداع الذي لا يُعترف بمصادره: ناجح فنيًا، لكنه مُعلَّق فلسفيًا.
الفصل السادس: الجمهور والمسؤولية الثقافية
سلطة التلقي
يستقبل الجمهور العمل في صورته النهائية: أداءً لا نصًا مجردًا. ومن خلال التفاعل والذاكرة، يمنحه قيمته الاجتماعية. وتميل الذاكرة البشرية إلى الاحتفاظ بالتجارب الحسية أكثر من المعلومات المجردة، لذلك، يُتذكَّر الصوت قبل الاسم، والأداء قبل النص.
بناء أنظمة الاعتراف
ليس من العدل تحميل الجمهور مسؤولية التهميش، لكن يمكن بناء أنظمة ثقافية ومؤسساتية تجعل الاعتراف أكثر تلقائية:
ذكر الأسماء في المنصات الرقمية.
تثقيف إعلامي حول أهمية الصانعين.
تشريعات تحمي حقوق الملكية الفكرية بشكل عادل.
لا يكمن الحل في تحويل التلقي الفني إلى درس أكاديمي، بل في بناء بيئة ثقافية تحترم التعقيد الإبداعي.
الخلاصة: نحو عدالة إبداعية
لا يُختزل العمل الفني الغنائي في صانع واحد ولا في صوت واحد. إنه نتاج صانع يخلق الإمكانية، ومؤدٍ يحولها إلى واقع حي، وجمهور يمنحها الحياة والمعنى. والمشكلة هنا ليست في توزيع الأدوار، بل في تراتبية ظالمة تمجد طرفًا وتغيب آخر، رمزيًا واقتصاديًا. لا يكون الحل بإلغاء الفروق، بل بإقامة اعتراف عادل بتكامل الأدوار. الإبداع الحقيقي هو رؤية الكل لا الجزء، والعدل الثقافي هو الاحتفاء بالجميع.
وفي النهاية، الإبداع المُعلَّق هو نتاج خيارات ثقافية واقتصادية يمكن تغييرها. وسؤالي هنا: هل نريد ثقافة تحتفي بالواجهة فقط، أم ثقافة تعترف بكل من ساهم في صناعة الجمال؟
____________________
المصادر والمراجع:
أفلاطون. الجمهورية. ترجمة فؤاد زكريا. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985.
بارت، رولان. نقد وحقيقة. ترجمة منذر عياشي. حلب: مركز الإنماء الحضاري، 1994.
غادامير، هانز غيورغ. الحقيقة والمنهج. ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح. طرابلس: دار أويا، 2007.
هيغل، غيورغ فيلهلم فريدريش. فينومينولوجيا الروح. ترجمة ناجي العونلي. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2006.
ماركس، كارل. المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844. ترجمة محمد مستجير مصطفى. دار الطباعة الحديثة 1974
نيتشه، فريدريك. هكذا تكلم زرادشت. ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، 2007
ريكور، بول. صراع التأويلات. ترجمة منذر عياشي. بيروت: دار الكتاب الجديدة المتحدة، 2005.
ريكور، بول. نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى. ترجمة سعيد الغانمي. الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط2، 2006.
#خالد_علي_سليفاني (هاشتاغ)
Khaled_Ali_Silevani#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟