أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد الراعي - سر الحرز: الورقتين السابعة و الثامنة














المزيد.....

سر الحرز: الورقتين السابعة و الثامنة


سعاد الراعي
كاتبة وناقدة

(Suad Alraee)


الحوار المتمدن-العدد: 8548 - 2025 / 12 / 6 - 19:08
المحور: الادب والفن
    


تابع لرواية الحرز

الورقة السابعة

كأن البلاد قد انفجرت من داخلها، كجرحٍ ظلّ يخفي نزفه طويلًا ثم انفلت فجأة.
خرج الناس إلى الشوارع يصرخون بالعدالة، يطالبون بإطلاق المسجونين، يهتفون ضد القهر، حتى بدا أن الهواء نفسه صار يحتجّ.
وما هي إلا أيام حتى سقطت جدران النظام مثل غبار تهاوى تحت المطر.
انتشرت الفوضى كحريقٍ يتغذى من اليأس، تتقاذفها عصاباتٌ، وولاءاتٌ جديدة، وكلٌّ يمدّ يده ليقتطع نصيبه من الخراب.
في هذا الانهيار تغيّر عمي…
لا، بل تكشّف.
كانت لحيته التي نبتت فجأة لا تشبه التديّن، بل تشبه ستارًا يُخفي شيئًا أعمق من الدناءة، وأشدّ ظلمة من الخسّة.
صار يتجوّل في الحي وخلفه رجال مسلّحون، يرفعون شعارات الدين على أكتافٍ تلطخت بالغنائم.
يتحدثون عن الشرع، شرع الله، كما يتحدث اللص عن مفاتيحه.
وعندما يعودون إلى البيت، كان المكان يضيق بأنفاسهم، بأصواتهم الثقيلة، بضحكاتهم التي تجرح جدران الليل.
تحوّل بيتنا إلى وكر، لا يكاد يخلو من السلاح والرجال.
أمّي
وأنا
نخدمهم كأننا غبارٌ في طريقهم.
العيون "آه تلك العيون" لم تكن تنظر، بل تنهش.
رغم حجابي، رغم محاولتي الانكماش في ظلٍّ أصغر من جسدي، كانوا يرونني.
يرون اللحم الصغير الذي صار عبئًا عليّ، يرون خوفًا يحلو لهم أن يروه لأن الخائف يسهل امتلاكه.
لم يكن عمّي يومًا رجلًا رحيمًا، لكنّ البلاد حين احترقت، احترقت معه ذرة إنسانيته.
كان قد هتك طفولتي وأنا في العاشرة، سرق براءتي ثم أخفاها كما يُخفى جرمٌ مُحكم الإغلاق.
كنت أظنه يومها ذئبًا واحدًا منفردًا، لا يتكاثر، لكني كَبُرت لأكتشف أن الذئاب تتوالد حين ترى الفوضى وتمعن في الطراد والاغارة، وأن الوحش الذي مزق جسدي في صغري صار اليوم قائدًا لقطيعٍ جائع.
وما عاد يخفي رغبته في بيعي لهم، واحدًا تلو الاخر، باسم "الزواج" و"الشرع"، كفضيلةٍ تُهدى، لا كطفلةٍ تُذبح.
كنت في الرابعة عشرة، لكنني أشعر أن عمري صار ضعف ذلك.
كأن السنوات التي سُرقت مني أثقلت ظهري قبل أن يشتدّ جسدي الذي بدأ يتغير، يتفتح على أنوثةٍ لم أطلبها، ولم تحتملها روحي، بل صارت نذيرًا لما ينتظرني.
وكنت أخشى الليل أكثر من النهار، لأن الليل يحرر وجوههم من الأقنعة.
يضحكون كثيرًا حين يذكرون “التزويج”، يتهامسون عن “الليلة المباركة”، كأن الشرّ حين يُعطى اسمًا دينيًا يصبح نعمة.
في تلك الليالي، حين يدوّي الرصاص في الخارج، كنت أشعر أن الحرب كلها تتواطأ علينا. البيت يهتز، الشوارع تعوي، لكنّ خوفي الحقيقي لم يكن مما يجري للبلاد، بل مما يجري لجسدي، لروحي التي تختنق كلما ورد اسم “الزواج” على لسان عمي.
كنت أعرف أنه لا يقصد بي إلا الصفقة، إلا البيع، إلا أن يُسَلّمني لأول رجل من عصابته يرفع يده.
كنت أعرف أنني سأُعرى من كل شيء، من أمي، من نفسي.
أمّي
كانت ترى وتخاف،
لكنها عاجزة…
مكسورة..
تنظر إليّ أحيانًا وكأنها تعتذر عن الحياة كلها، ثم تخفض عينيها قبل أن يفضحها البكاء.
كنا نغرق معًا، لكنها كانت تخشى أن تسبح، وأنا كنت أخشى أن أموت دون محاولة.

الورقة الثامنة

وفي إحدى الليالي التي انشقّ فيها الظلام عن أصوات اشتباكٍ قريب، عاد عمي متجهمًا، غارقًا برائحة البارود والتعب.
دخل غرفته ثم ناداني بصوتٍ ملغوم.
كان صوته وحده يكفي ليعيد إليّ كل الكوابيس التي سجنتني منذ العاشرة.
ترددت لحظة عند الباب.
تساءلت:
ماذا بقي لي بعد أن سفك طفولتي؟
ماذا يمكن أن يأخذ أكثر؟
دخلت.
كان يجلس في عتمةٍ لا يضيئها إلا خيط من نور متعب.
لم يكن ينظر إليّ كطفلة، بل كشيءٍ يُسوَّق. قال لي بهدوءٍ شرس:
"غدًا… سيأتي من سيتزوجك.
شرع الله، ولا اعتراض."
شرع الله…
كم من الجرائم تُرتكب حين يتوارى الله ويُترك الشرع بين أيدي الوحوش.
تجمدت.
شعرت كأن الأرض انكمشت حتى غدت حافة هاوية.
وعندما اقترب مني، خطوة بعد خطوة، نهض شيء في داخلي، شيء لم أعرفه من قبل. ربما هو الظل الأخير من إنسانيتي، ربما هو ما تبقى من طفلةٍ لم تمت بعد رغم كل شيء.
تراجعت.
قال غاضبًا:
"لا ترفعي عينيك عليّ هكذا والاّ!"
لكنّني
رفعت
عيني.
ثم صرخت…
صرخة خرجت من عمقٍ لم ألمسه أبدًا من قبل.
وركضت...
وركضت نحو حضن امي...
ركضت كأن الأرض تشتعل تحت قدمي، كأن صرختي كانت أول نسمة حريةٍ عرفتها.
لم أنتصر بعد.
ما زلت في بيتٍ تحكمه البنادق، وتديره الذئاب.
لكني في تلك الليلة أدركت أمرًا واحدًا، يكفي لأن يُبقيني واقفة:
إن الروح، مهما ضُيّقت عليها الجدران، تظل قادرة على أن تتمرد…
وأن تحيا...
***
تابع



#سعاد_الراعي (هاشتاغ)       Suad_Alraee#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سر الحرز: الورقتين الخامسة والسادسة
- من رواية الحرز : الورقة الثالثة والرابعة من الحرز
- سر الحرز بأوراقه العشر / تابع لرواية الحرز
- الحرز الفصل الثامن
- الحرز. 8
- الحرز.7
- الحرز. 6
- الحرزـ 5
- الحرز. 2
- الحرز
- قصة الانبعاث
- جمعة عبد الله: خلع خاتم الطائفية في رواية -خلع الخاتم- للأدي ...
- وقفة عند كتاب -الإنسان الذي سبق الثورة- بقلم الناقد والروائي ...
- حين يتوهّج الطينُ نبوءةً في قصيدة -الهلال الخصيب- للشاعر مصط ...
- ذاكرة في ظلال الغياب
- الواقعية المستنيرة في مواجهة العنف الجمعي في رواية -خلع الخا ...
- الذات تكتب سيرتها
- من كتاب الانسان الذي سبق الثورة، الجوانب الإنسانية في سيرة س ...
- خلع خاتم الطائفية،الفصل الخامس والسادس من رواية تحت الطبع
- أنا القربان... قسوة التضحية


المزيد.....




- الأونروا تطالب بترجمة التأييد الدولي والسياسي لها إلى دعم حق ...
- أفراد من عائلة أم كلثوم يشيدون بفيلم -الست- بعد عرض خاص بمصر ...
- شاهد.. ماذا يعني استحواذ نتفليكس على وارنر بروذرز أحد أشهر ا ...
- حين كانت طرابلس الفيحاء هواءَ القاهرة
- زيد ديراني: رحلة فنان بين الفن والشهرة والذات
- نتفليكس تستحوذ على أعمال -وارنر براذرز- السينمائية ومنصات ال ...
- لورنس فيشبورن وحديث في مراكش عن روح السينما و-ماتريكس-
- انطلاق مهرجان البحر الأحمر السينمائي تحت شعار -في حب السينما ...
- رواية -مقعد أخير في الحافلة- لأسامة زيد: هشاشة الإنسان أمام ...
- الخناجر الفضية في عُمان.. هوية السلطنة الثقافية


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد الراعي - سر الحرز: الورقتين السابعة و الثامنة