سعاد الراعي
كاتبة وناقدة
(Suad Alraee)
الحوار المتمدن-العدد: 8545 - 2025 / 12 / 3 - 20:47
المحور:
الادب والفن
" 1ـ 2"
تمتمت بهمسة خرجت من عتبةٍ كانت تخاف الاقتراب منها:
"حان الوقت… لأعرف".
مدّت
يدها
نحوه
ببطءٍ
حَذِر،
كأنها تخشى أن تستيقظ الأرواح النائمة بين ثناياه.
تناثرت الأوراق التي في داخله واحدةً تلو الأخرى، رقيقة كأجنحة فراشات ذابلة، مرقَّمة بأناة تنحدر من الواحد إلى العشرة...
كأن حياةً كاملة أُفرِغت في هذا الترتيب الغريب.
التقطت إيفا الورقة الأولى بأطراف أصابعها المرتجفة، ثم فردتها ببطء، وكأنها تخشى أن تتمزّق الذاكرة ذاتها… وبدأت
القراءة...
الورقة الأولى
كانت حياتنا قبل مرض أبي هادئة كجدولٍ صغير ينساب بين بيوت الفقراء، بسيطة، مطواعة، لا تُفاجئ أحدًا. كان أبي يعمل سائقًا في الميناء، رجلاً لين الملامح، طيب الطبع، يملك من الصبر ما يجعل صوته دائمًا منخفضًا حتى وهو يواجه قسوة الدنيا.
كنتُ ابنته الوحيدة.
طفلة في العاشرة، أعيش في كنف والداي كزهرةٍ لا تعرف من الرياح سوى النسائم، فأنا موضع دلالهما رغم ضيق الحال، وكانا يشيّدان لي في كل يومٍ حلمًا صغيرًا يعوّضني عن كل ما ينقصنا.
لكن الربو الذي لازم أبي سنينًا طويلة بدأ يتحوّل إلى ذئبٍ ينهش أنفاسه نهشًا. لم يعد سعاله عارضًا عابرًا، بل صار يتردّد في صدره كطبول حرب تقرع في ليلٍ بلا نجوم.
ومع تدهور صحته اضطر لترك العمل، او لأقل سرح منه.
حصل بعد جهدٍ مُرهِق على تقاعدٍ هزيل لا يكاد يسد الرمق.
بدأت أمي تُخفي دموعها في المطبخ، وأصبح وجه أبي أكثر انطفاءً، وكأن الهواء الذي يستنشقه لم يعد يكفي لبقائه في هذا العالم.
وحين ضاقت السبل، اضطر أبي إلى استدعاء أخيه.
كان عمي ــ ذلك الرجل الذي لا يأتي إلا إذا احتاج ــ يعمل في سلك الشرطة، ويتاجر في الظلام بكل ما يمكن بيعه أو تهريبه.
جاءنا بزيه الرسمي، مسدّسه يتدلّى عند خاصرته كتهديدٍ صامت، وحضوره يملأ البيت رائحة خوفٍ لم أعرفها من قبل.
سأل أبي عن قدرته على إيصال بعض "الصناديق"، كما فعل في مرةٍ سابقة.
ولم يجد أبي بُدًّا من الموافقة، فالعوز كان شرسًا، ينهش في نبرة صوته ورجولته.
منذ ذلك اليوم صار بيتنا مخزنًا لعلبٍ مبهمة ولفائف غامضة، صناديق مُحكمة الإغلاق لا يجرؤ أحد على السؤال عمّا بداخلها.
كان عمي يكلّف أبي بنقلها وحده، مريضًا كان أم على حافة الإغماء، لا يهمّ.
كان يكلّمه من علٍ، يوزّع كلماته وكأنه يرمي صدقاتٍ على متسوّل.
أما أنا، فكنت أرتجف كلما دخل البيت بحذائه الملطّخ وعينيه الزائغتين؛ كنت أشعر، على صغري، أن حضوره يطفئ شيئًا من نورنا.
زاد عمل أبي مع عمي مرضًا فوق مرض.
صار فراشه ضيقًا عليه، وأنفاسه كخشبٍ يابس يشقّ طريقه نحو الاحتراق.
وحين أخبرنا الطبيب بأن أيامه صارت معدودة، انكمشت أمي كظلّ يُسحب من عنفوان نهاره، بينما لم يكلّف عمي نفسه حتى بالسؤال عنه.
كنتُ أذهب إلى المدرسة بخطواتٍ متردّدة، أختبئ خلف صديقاتي، أستعرِض وجوههن لأتأكد أن أحدًا منهن لا تعرف بصدقات الجيران التي صارت أمي تقبلها مُكرهة. كنت أخجل، بل كنت أشعر بأن العالم كلّه ينظر إليّ بعينٍ تُشفق وتدين في آنٍ واحد، وكنت أبكي سرًا حين أسمع أمي تستقبل زوّارًا يحملون لنا ما يسد رمقنا.
وبعد اشهرٍ قصيرة وثقيلة، رحل أبي.
رحل وكأنه اعتذر عن الحياة، وتركنا معلّقتين في هواءٍ ملتبس لا نعرف كيف نتنفسه.
لم تمضِ أيام حتى أدركنا أن موت أبي لم يكن نهاية العذاب…
بل بدايته.
فقد أصبحنا تحت رحمة العم، ذلك الذي كان ظلّه وحده كفيلًا بأن يصادر الدفء من البيت.
كنت طفلة،
نعم...
لكنّ قلبي كان يرى ما لا تراه أعين الكبار. كنت أعلم، بيقينٍ يشبه حدس الجياع، أن الأيام المقبلة ستختبر قدرتي على البقاء… وأن الخوف الذي يسكن البيت لن يغادر بسهولة.
الورقة الثانية
لمّا انطفأ وجه أبي إلى الأبد، وبات اسمه يُتلى همسًا في أركان الدار، حلّ عمّي في حياتنا كظلّ ثقيل لا يُرى منه سوى سواد الطمع ونتانة السلطة.
كان يأتي بصفة المعيل،
يحمل في يده ما يشبه الرحمة،
وفي قلبه ما يشبه الخراب.
يزورنا بحجّة السند، بينما كانت نظراته تفصح عن نوايا لا تخفى على من ذاقت الفقد وعرفت مبكرًا ألوان الخديعة.
كنتُ يومها طفلة، لكنّي أحمل في داخلي قدرًا من فطنة مبكرة، تلك التي تمنحها المآسي لأصغر أبنائها. كنتُ أرقب خطواته وهو يدخل غرفة أمّي، يغلق الباب وراءه، ثم يخرج بعد ساعات بنفَس متثاقل، وأمّي تلوذ بجدار المطبخ تنتحب، تشتم حظّها وتدفن وجهها في راحتيها كأنها تحاول إخفاء ما لا يُخفى.
أدركت،
دون أن يخبرني أحد...
أنّه كان يراودها عمّا لا حق له فيه،
وأنه يلوّح بقطع المعونة إن رفضت،
بل...
يتجرّأ على ضربها إن نهضت كرامتها لتقف في وجهه.
ومنذ تلك اللحظة، انفتح في صدري بئرٌ من الكراهية لا قرار له.
كنت أراه نجسًا يمشي على قدمين، وأتحاشاه كما يتحاشى الطاهر كل ما يدنّس روحه. صرت أختبئ في زوايا البيت، خلف ستارة متهالكة، تحت السرير، أو قرب سطح الدار حيث لا يصعد أحد.
لكن عينيه كانتا تلاحقانني أينما حللت، كأن حضوري يوقظ فيه شرًّا آخر.
يسأل أمّي دائمًا عن غيابي، وحين يعلم أنّني في الدار يطلب أن أقدّم له الطعام والشاي، مكرسًا من وجودي خادمة أبدية من حقه المكتسب.
كم كرهتُ تلك اللحظات. يدٌ صغيرة ترتجف وهي تحمل طبقًا أكبر من قدرتها، ونظرات متوحّشة تترصّد كل خطوة. وحدث غير مرة أن انزلقت يدي وسقط الطبق على الأرض، فيستشيط غضبًا، ينهال عليّ ضربًا وشتماً، ثم يعاقبني بعقوبة كانت أشدّ قسوة من الألم ذاته: حرماني من المدرسة، التي كانت نافذتي إلى العالم، ومهربي الصغير من رائحة الخوف في البيت ومن نظراته التي تغتال لحظات الطمأنينة المتلألئة بالامان.
مرّة، وحين تكدّست المرارة في صدري، قلت لأمّي
إنني أريد قتله.
كنت أقولها بصدق طفلة وصلت إلى منتهاها. وضعت أمّي يدها على فمي بسرعة، كمن يخشى أن تستيقظ العواصف، وقالت بصوت مبحوح، هادئ ولكنه حازم:
"لا تكرّري هذا أبدًا، يا حياة…
إن علم بما نويتِ سنُدفن معًا دون أثر.
عليكِ أن تكوني لطيفة معه…
فلا تظهري نفورك".
لكن كيف لطفلةٍ أن تجامل وحشًا؟
قلت لها: إنني أكرهه، ولا أطيق حضوره في بيتنا، ولا أحتمل إهانته لنا.
كنت أقول ذلك وقلبي يخفق بخوف وتمرّد لا يعرف شكلاً ولا مخرجًا.
لكن...
بلغني في المدرسة، همسًا بين الطالبات، أنّ عمّي يريد الزواج من أمّي، وأنه سيصير "والدًا" لي. كانت الفكرة وحدها كفيلة بإصابتي بالغثيان. نفيتُ الأمر..
لا بل رفضته بكل ما أوتيت من قوة الرفض... كأنها نبوءة شرّ لا يجوز أن تتحقق.
لكن اليوم الذي خشيتُه جاء، ولم يكن بإمكاني صده.
جلس عمّي أمامنا، بعينين لا تعرفان الحياء، وقال إن علينا الانتقال إلى بيته لتوفير الإيجار، وإنه ينوي الاقتران بأمّي "سترًا لها... لنا".
يا للسخافته!
كان
يمنّ
علينا
بما
سرقه
من
طمأنينتنا.
اقتاد أمّي إلى أقرب مأذون، وكأنها صفقة يجب إنهاؤها بسرعة.
عادت تلك الليلة صامتة، كأن صوتها نُزع منها.
عيناها تحملان أثر معركة خاسرة.
تم الزواج في يوم واحد، وكأن القدر استعجل الوجع كي يستقرّ في صدورنا.
وفي صباحٍ كالح، حملنا ما تبقّى من متاعنا القليل، وانتقلنا إلى بيت عمّي، تابعين اياه كمقادين لا حول لهم، كخراف تُساق إلى جزار الجديد.
كنت أسير باتجاه الشاحنة التي اقلتنا، وأنا أصر على اسناني وأضغط على يدي حتى تترك أظافري أثرًا في جلدي، كأن ذلك الألم الخفيف يُساعدني على احتمال ألم أكبر.
كنت أحسّ بأن الطفولة تُسلب مني، وأنني أدخل عالمًا غريبًا لا مكان فيه لضحكة، ولا لكتاب، ولا لسماء نظيفة. كل شيء كان ثقيلًا:
الطريق،
الهواء،
نظرة أمّي الشاردة،
وصمتها الذي يشبه استسلامًا مجبَرًا لا قبولًا رضيًا.
ومع ذلك، في داخلي كانت هناك شعلة صغيرة، لا أعرف من أين جاءت، ربما من ذكرى أبي، أو من شيء دفين في روحي، شعلة تقول إنني سأكبر يومًا، وإن هذا الظلم، مهما تمدّد، لن يبتلعني كاملة.
كانت الطفلة في داخلي ترتجف…
نعم، لكنها لن تركع.
وكل خطوة نحو بيت عمّي كانت تُعمّق عزيمتي على أن أحيا بطريقة لا تشبه قسوته، وأن أظلّ، رغم الخوف، حياة:
تلك الصغيرة التي لم يسمح لها القدر أن تكون طفلة،
لكنها أقسمت أن تحفظ ما تبقّى من نورها في قلبها، ولو سرًا.
#سعاد_الراعي (هاشتاغ)
Suad_Alraee#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟