أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد الراعي - سر الحرز: الورقتين الخامسة والسادسة















المزيد.....

سر الحرز: الورقتين الخامسة والسادسة


سعاد الراعي
كاتبة وناقدة

(Suad Alraee)


الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 23:00
المحور: الادب والفن
    


فصول من رواية "الحرز "

الورقة الخامسة

لم أعد قادرةً على الحركة، كأن جسدي كله استحال حجراً يابساً طُرِح على أرضٍ باردة. انقطع صوتي عن البكاء، وتيبّست دموعي فوق وجهي كأثرٍ أخير لروحٍ كانت تقاوم ثم خارت.
لم أعد طفلةً في تلك اللحظات، بل شبحاً ينظر إلى الدنيا من وراء زجاجٍ معتم.
وبينما كنت غارقةً في وجعي وخوفي، سمعت صوت المفتاح يلتفّ في الباب كما لو أنه يفتح قبراً.
فتحت أمي الباب. وما إن وقعت عيناها عليّ حتى صرخت كأن شيئاً انتُزع من قلبها.
لم تسأل، لم تحتج إلى سؤال...
كانت الأم تعرف بعينها ما تعجز عنه لغةُ البشر.
هرعت إليّ، تنوح وتولول، تحاول أن تفهم أين يبدأ جرحي وأين ينتهي.
ساعدتني على النهوض، وأنا أثقل من أن تحملني ذراعاها الضعيفتان.
ساقتني إلى الحمّام، وأجلستني تحت الماء.
كانت تغسلني بدموعها قبل الماء، تمرر يديها المرتعشتين على وجهي وكأنها تحاول محو ما لا يُمحى.
كنت أسمع من خلف الباب صراخاً متقطّعاً، شتائمَ كالسهام، صوتَ ارتطامٍ غاضب.
كان عمي، ذلك الوحش الذي يتنفّس بين جدراننا، يهدّدها ويقذفها بالإهانات، يتوعدنا بالطرد والتشريد إن هي فتحت فمها أو حاولت أن تحميني منه.
كان صوته طعنةً أخرى، تُذكّرني بأنني لم أكن ضحية للحظةٍ واحدة، بل ضحية لقدرٍ جائر يحيط بي من كل الجهات.
مكثت أسبوعًا طريحة الفراش.
جسدي لم يعد جسدي، روحي معلّقة في مكانٍ لا أعرفه، لا أرض ولا سماء.
أمي كانت تجلس عند رأسي، تحاول أن تنطق بكلمة مواساة، فأصدّها بنظرةٍ هاربة. لم أرد شيئاً...
لم أعد أريد الحياة نفسها.
كانت فكرة الانتحار تمرّ بخاطري كما تمرّ السحابة بالسماء، لا تلبث أن تغادر، لكنها تُظلّل القلب بظلامها قبل أن تمضي.
كنتُ ضائعة في عالمٍ لا يرحم طفلةً كُسرت قبل أن تفهم معنى الكسر.
توقفت عن الذهاب إلى المدرسة. لم أُعدّ حقيبتي، لم أمسك قلماً، لم أودّع أحداً.
خرجت من عالم الطفولة كما تخرج الروح من الجسد: بلا عودة.

وحين بدأت أستعيد وعيي شيئاً فشيئاً، شعرت بوخزة في ذراعي.
لمست المكان فإذا به “الحرز”، ذاك التميمة التي ربطتها أمي حول ساعدي منذ صغري، وقالت إن فيها بركةً تحفظني من الشرور.
تأملتُه طويلاً، وفي داخلي مرارة لا تشبه أي شيء.
هذا الشيء، الذي كان يُفترض أن يحميني، خانني في اللحظة التي احتجت فيها إليه أكثر من أي وقت.
نزعته بغضبٍ وبكيت، كأنني أقتلع خيبةً عالقة في جلدي.
رمَيتُه بعيداً…
لكن شعوراً غريباً شدّني إليه. كأنه يناديني بصوتٍ خافت:
"صحيح أني خذلتك… لكني ما زلت قادراً على أن أحفظ أسرارك".
ترددتُ،
ثم
التقطته
ثانيةً.
بوضعٍ ما، كان الحرز الشيء الوحيد الذي لم ينظر إليّ بعين إدانة، لم يجرحني، لم يلوّح بيدٍ قادرة على البطش. كان كصندوق صغيراً… وفي داخله مكانٌ يصلح أن يحتضن وجعي.
فتحتُه...
كان يحوي بعض الأوراق القديمة الملفوفة.
أخرجتها، طويتها بهدوء ووضعتها في حقيبتي، ثم جلبت أوراقي الشفافة.
شعرتُ بأنني بحاجة إلى أن أُفرغ كل ما يثقل صدري.
أن أرسم جراحي بكلمات، أن أضعها على الورق علها تكفّ عن مطاردتي في الظلام.
لم أكن أبحث عن عزاء، كنت أبحث عن نجاة:
نجاةٍ روحية، خيطٍ رقيقٍ يربطني بما تبقّى مني.
وبدأت
أكتب…
كان قلمي يرتجف كقلبي، لكنّه يكتب.
يكتب ما لم أستطع قوله لأمي، ما لم يسمعه الشارع حين صرخت، ما لم يفهمه أحد.
كلما كتبتُ سطراً، شعرت أن قطعةً مظلمة داخلي تتلاشى وبصيص ضوء واهن يتنفس.
لم يختف الألم، لكنه صار قابلاً لأن يُلمس دون أن أموت مرةً أخرى.
وحين انتهيتُ من أول ورقة، طويتها طيّاً محكماً، وأخفيتها في الحرز، ثم ربطته حول ذراعي من جديد.
كان الربط أشبه بميثاقٍ جديد، كأنني أعيد بناء ذاتي بخيطٍ من الحبر والورق.
لم يكن الحرز هذه المرة تعويذةً ضد الشرّ، بل صندوق الريح الذي يحمل صوتي، سرّي، حكايتي…
التي لن تُدفن بعد اليوم.
ومع كل ورقةٍ أكتبها، كنت أشعر أن "حياة" ـ تلك الطفلة التي ظننت أنها ماتت ـ ما زالت في مكانٍ ما داخلي، تنفض غبار الانكسار، وتتهيأ ببطءٍ شديد للعودة إلى الضوء.
في مكانٍ عميقٍ داخلي، ظلّ جزء صغير من حياة…
يرفض أن يموت.
جزءٌ خافت، صغير جدا، لكنه موجود…
ينتظر يوماً ينهض فيه من بين الركام فينتقم.


الورقة السادسة

مضت
سنتان…
سنتان ثقيلتان كدهرٍ يجرّ أذياله على كتفيّ النحيلين، وأنا أبحث، في صمتٍ عميق يشبه خفوت الأنفاس، عن مخرجٍ آمن من عتمتي، عن نافذةٍ لا تطل على الهاوية.
لم أكن أفكّر بالخلاص بقدر ما كنت أبحث عن معنى أن أظلّ على قيد الحياة.
في داخلي كانت النار تشتعل، ورغم هشاشتي كنت أعي تماماً أن في قدرتي، لو أردت، أن أقتله.
غير أنّ الفكرة نفسها كانت تسقط من قلبي كحجرٍ في بئرٍ بلا قرار.
أيُّ عدالةٍ تلك التي ستُنقذني لو رفعتُ عني حاجز الخوف وطعنته بخيبتي؟
هل سأفلت من العقاب؟
أم سأُلقى في غياهب سجنٍ لا تنتهي لياليه، وتلاحقني لعنات مجتمعٍ يتقن قلب الحقائق؟ مجتمعٍ يرى في الجلاد ضحيةً بيضاء، وفي الضحية مجرمًا يستحق القصاص؟
في بلدٍ تحكمه شريعة الغاب، والعشائر، والأعراف التي تجعل المرأة مذنبة قبل أن تنطق، متهمة قبل أن تُسأل، عاراً يمشي على قدمين…
وإن كانت هي المكسورة الجناح.
كان عمي لا يملّ من التهديد.
صوته يأتيني كل ليلة كصفعةٍ جديدة:
ـ لا تنكشفي…
إن عُرفت الفضيحة فلن يكون لي حلٌّ سوى غسل العار.
كانت كلماته تتردد في داخلي كناقوس موت.
تعلّمتُ معها أن الصمت ليس اختياراً بل نجاة، وأن الرضوخ ليس ضعفاً بل محاولة يائسة لأن أبقى حيّة، ولو على حافةٍ ضيقة من الظلّ.
انطويتُ على نفسي. لم أعد أخرج من البيت، ولا أستقبل أحداً.
اختفت حياة من العالم، وبقيت «حياة» أخرى، ساكنة، تتنفّس في داخلي بشيءٍ يشبه الاحتضار.
غير أنّ السكون كان وهماً؛ فداخلي لم يكن خامداً كما يظنّ من يراني.
كان بركاناً صغيراً، يكتم غليانه في النهار ويستفيق ليلاً.
في النهار كنتُ أتحرك في البيت كأنني خيالٌ مدجَّنٌ، ألبي طلباته، أقوم بشؤون المنزل، أتعمد أن أبدو منحنية، صامتة.
ربما، لو رآني مكسورة يزهد في إيذائي، أو لعلّ انكساري كان درعاً أرتديه لأمضي يومي بحدٍّ أدنى من الألم.
ومع ذلك، كنت أشعر بثِقَل نظراته عليّ، كأنها يدٌ خفية تمسح على ظهري بنصل سكين بارد.
وفي الليل…
كان لي عالم آخر.
عالمٌ ضيق، لكنه العالم الوحيد الذي أتنفس فيه.
أجلس قرب نافذتي الصغيرة، تلك التي لا تكشف إلا قطعةً من السماء، وأرافق أوراقي كما ترافق الروحُ ظلَّها الأخير.
كنت أفتح الحرز، وأخرج أوراقي الشفافة، وأكتب وأمزق، واعود وأكتب بحمى، كأن الكلمات هي الهواء الوحيد الذي أستطيع أن أبتلعه دون أن أختنق.
كنت أكتب عن خوفي، عن قهري، عن البيت الذي يشبه قبراً، عن رجلٍ يعيش تحت سقف واحد معنا ولا يشبه البشر.
أكتب عن أمي التي تذبل كل يوم قليلاً، وتخفي ضعفها بقوةٍ مصطنعة، وعن تلك اللحظة التي تبدلت فيها حياتي إلى ما لن يعود.
وأحياناً…
كنت أكتب عن انتقامي.
لم يكن انتقاماً من لحمٍ ودم، بل انتقاماً من القدر الذي سلمني بيديه لطفولةٍ مُزقت قبل أوانها.
كنت أتخيلني أقف يوماً ما أقوى، أطول، لا يقدر أن يرفع صوته عليّ.
كان المشهد يشبه حلماً يتكرر، أحفظ تفاصيله: أنا واقفة أمامه، لا أرتجف، أقول له كلمة واحدة فقط، كلمة تشبه صفعة... كفى! تلك الكلمة وحدها التي كانت تعني لي القدرة على استعادة نفسي.
مرّت الليالي وأنا أكتب في الظلام، أدفن أوراقي في الحرز كما يُدفن سرّ في صدر الزمن. كنت كلما طويت ورقة شعرت أن جزءاً صغيراً مني يلتئم، وأنني أبني، ببطءٍ مؤلم، جداراً خفياً يحمي ما تبقّى من روحي.
مع كل كلمة، كنت أتعلم أن الخوف لا يُقاوم بالصراخ، بل بالبقاء…
بالبقاء حيّة رغم كل شيء.
لكن شيئاً آخر كان يتشكل داخلي…
شيء يشبه القوة.
قوةٌ لا تشبه العنف ولا الصراخ، بل أشبه بنبتة صغيرة تشقّ الصخر التماسًا للضوء.
لم أعد تلك الطفلة التي ماتت في الورقة الأولى.
كنت الآن الفتاةً التي تعرف عدوّها، تعرف ضعفها، وتعرف
ـ وهذا الأهم
ـ أنها يجب ان لا تبقى طويلاً على هذه الحال.
كان الليل صديقي الوحيد، والكتابة اليد التي تنتشلني من الغرق.
ورغم الصمت الذي يحيطني، كنت أعلم أنه ليس نهاية…
بل بداية لشيء ما يتشكل، ينمو، يكبر، وسيأتي يوم يخرج إلى النور.
**
يتبع



#سعاد_الراعي (هاشتاغ)       Suad_Alraee#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من رواية الحرز : الورقة الثالثة والرابعة من الحرز
- سر الحرز بأوراقه العشر / تابع لرواية الحرز
- الحرز الفصل الثامن
- الحرز. 8
- الحرز.7
- الحرز. 6
- الحرزـ 5
- الحرز. 2
- الحرز
- قصة الانبعاث
- جمعة عبد الله: خلع خاتم الطائفية في رواية -خلع الخاتم- للأدي ...
- وقفة عند كتاب -الإنسان الذي سبق الثورة- بقلم الناقد والروائي ...
- حين يتوهّج الطينُ نبوءةً في قصيدة -الهلال الخصيب- للشاعر مصط ...
- ذاكرة في ظلال الغياب
- الواقعية المستنيرة في مواجهة العنف الجمعي في رواية -خلع الخا ...
- الذات تكتب سيرتها
- من كتاب الانسان الذي سبق الثورة، الجوانب الإنسانية في سيرة س ...
- خلع خاتم الطائفية،الفصل الخامس والسادس من رواية تحت الطبع
- أنا القربان... قسوة التضحية
- من رواية خلع خاتم الطائفية


المزيد.....




- السعودية.. مهرجان -البحر الأحمر السينمائي- يكرم مايكل كين وج ...
- المخرج الأمريكي شون بيكر: السعودية ستكون -الأسرع نموًا في شب ...
- فيلم -الست-: تصريحات أحمد مراد تثير جدلا وآراء متباينة حول ا ...
- أبرز إطلالات مشاهير الموضة والسينما في حفل مهرجان البحر الأح ...
- رغم حكم بالسجن بتهمة -القيام بأنشطة دعائية-... المخرج الإيرا ...
- المشاهير العرب يخطفون الأنظار في المهرجان الدولي للفيلم بمرا ...
- خمسون عاماً على رحيل حنة آرنت: المفكرة التي أرادت إنقاذ التف ...
- احتفاء وإعجاب مغربي بفيلم -الست- في مهرجان الفيلم الدولي بمر ...
- عيد البربارة: من هي القديسة التي -هربت مع بنات الحارة-؟
- افتتاح معرض فن الخط العربي بالقاهرة بتعاون مصري تركي


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد الراعي - سر الحرز: الورقتين الخامسة والسادسة