أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ثائر البياتي - لغةُ الكون والوجود: الشعرُ والموسيقى والرياضيات














المزيد.....

لغةُ الكون والوجود: الشعرُ والموسيقى والرياضيات


ثائر البياتي

الحوار المتمدن-العدد: 8535 - 2025 / 11 / 23 - 23:00
المحور: الادب والفن
    


قد تبدو هذه الحقول الثلاثة، للوهلة الأولى، عوالم متباعدة؛ فالرياضيات علمٌ عقليّ يقوم على الدقّة والمنطق، بينما يقوم الشعر والموسيقى على الخيال والعاطفة. غير أنّ تأمّلًا أعمق يكشف أنها تتقاطع وتتآلف في كونها لغاتٍ تبحث عن الجمال والحقيقة، كلٌّ بطريقته الخاصة.
فالرياضيات ليست مجرد أرقام، بل لغة رمزية تُبنى بها النظريات، وتُشيَّد عبرها الهياكل الفكرية المجرّدة التي نفهم بها الكون. وكذلك الشعر ليس مجرد كلمات مجردة، بل بناءٌ من الصور والمعاني، يسعى إلى قول ما لا يُقال مباشرة. كلاهما يُمسك بمعنى يتجاوز ظاهر الكلام أو ظاهر الرموز. وفي هذا السياق تأتي مقولة العالم الإيطالي غاليليو غاليلي:
"إن الله كتب الكون بلغة الرياضيات."
وهو يؤكد بذلك أن الكون نصّ لا تُفكّ شِفرته إلا بلغة العدد، تمامًا كما تُفكّ شِفرة الروح بالشعر والموسيقى.
وإذا كانت لغة الأعداد هي لغة الكون، فإن الموسيقى لغة الروح. وما يجمعهما أن مبادئ العدد والنِّسب تقف خلف العلاقات الصوتية التي تولّد الألحان؛ فالنغم في جوهره تناسبات دقيقة، من طول الوتر إلى سرعة اهتزازه. إنه لقاءٌ تتماهى فيه الدقة مع الحسّ الجمالي، فيتحوّل الرقم إلى نغمة، والمعادلة إلى موسيقى، والفكرة إلى شعر.
وفي الشعر كما في الموسيقى والرياضيات، يظهر الجمال في البساطة والأناقة؛ فقد تختصر معادلة رياضياتية قصيرة فصولًا طويلة في تفسير قوانين الطبيعة، تمامًا كما يمكن لبيت شعر أن يلخّص تجربة إنسانية كاملة، أو لنغمة واحدة أن تعبّر عن أعمق مشاعر الروح. إنه جمال الاختصار والتكثيف والتناغم، جمال القدرة على قول الكثير بالقليل.
وفيما يرتكز التفكير الرياضياتي على التناسق والأنماط والتموضع الدقيق للعلاقات، يرتكز الشعر على الإيقاع والوزن والتناغم، وترتكز الموسيقى على التواتر والانسجام. وهكذا يصبح الانسجام خيطًا يصل بين معادلة رشيقة، وقصيدة محكمة، ولحن مؤثّر. ويكون الخيال والإبداع شرطًا مشتركًا بينها جميعًا؛ فلا نظريات بلا خيال يصوغها، ولا شعر بلا إلهام يولّده، ولا موسيقى بلا سموّ روحي يخلق لحنها. فالرياضياتي والشاعر والملحّن يحلّقون في الفضاء نفسه، ويصغون إلى الهمسات ذاتها التي تُفصح عن الحقيقة.
والبحث عن الحقيقة هو ما يجمعهم في النهاية: فالنظرية الرياضياتية تبحث عن القوانين التي تنظّم الكون، والقصيدة تبحث عمّا ينظّم الوجدان، والموسيقى تبحث عن الحقيقة العاطفية التي تنظّم الشعور. وعلى الرغم من اختلاف الوسائل، يبقى الهدف واحدًا: الكشف، والفهم، وإعادة صياغة الوجود بلغة أعمق وأجمل.
ويكشف العقل المنطقي النظام في ما يبدو فوضى، كما يكشف الشعر النظام العاطفي الكامن خلف الاضطراب الشعوري، وتكشف الموسيقى النظام الإيقاعي خلف الأصوات. وهكذا تصبح هذه الفنون مرايا مختلفة تعكس الجمال ذاته.
ويذكّرنا ذلك بقول الشاعرة إدنا سانت ميلّاي في وصف إقليدس:
"Euclid alone has looked on Beauty bare."
فهي ترى أن إقليدس رأى الجمال عاريًا؛ جمالًا خالصًا لا يعتمد على اللون أو الشكل أو المادة، بل على العلاقات الجوهرية؛ جمالًا خالدًا لا يذبل. فالدائرة التي عرفها إقليدس هي عينها التي نعرفها نحن اليوم.
وفي لحظة الاكتشاف—سواء في الرياضيات أو في الشعر أو في الموسيقى—يتجلّى جمال يشبه ومضة الحقيقة: فالشاعر يجرّد العاطفة، والرياضياتي يجرّد الكون، والموسيقي يجرّد الصوت؛ والثلاثة يعيدون صياغة الوجود بلغة مكثّفة من جوهره.
وفي الختام، نكتشف أن الصلة بين الشعر والموسيقى والرياضيات هي أنها لغاتٌ تتقاطع وتتفاعل في رسم صورة الوجود: فالأولى تمنح الإنسان صوته، والثانية تمنح الروح إيقاعها، والثالثة تمنح العالم نظامه وشكله.
وحين يلتقي المنطق بالخيال، والكلمة بالفكرة، والعدد بالنغمة، يتجلّى جمالٌ نادر يشهد على وحدة التجربة الإنسانية في أعمق صورها.



#ثائر_البياتي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الولاية 51
- في مفهوم الإرادة الحرة
- نظرية التطور بين البساطة والتعقيد
- نظريات في لغز نشأة الحياة
- هل هناك عداء بين الفيروسات والذكور؟
- الدين والعلم… أوجه الصراع والخلاف
- الحياة والموت... آراء وأفكار
- نظرية التطور... الإنسان أصله سمكة
- فن المنطق في عالم بلا منطق
- في مفهوم التَجريد
- قدسية العدد واحد عند سكان ما بين النهرين
- التبرع بالأعضاء الجسمية… متبرع واحد ينقذ ثمانية أرواح
- قصة العدد سبعة في الحضارات والأديان
- قصة العدد اثنا عشر...في الحضارات والأديان
- فيثاغورس: الموسيقى والرياضيات
- حفل توقيع كتاب رواية: -تَجلَّتْ فَتحكَّمتْ-
- العودة الى الدستور العراقي لعام 2005 الفدرالية حلاً لمشاكل ا ...
- في جمال الرياضيات
- عصر عجائب الجينات
- في مفهوم الحظ


المزيد.....




- إيليا أبو ماضي: شاعر التفاؤل وصاحب الطلاسم
- نور الدين بن عياد: تونس تودع فنان الفكاهة والبساطة، من هو؟ و ...
- إيران: العلماء الناقدون غير مرحب بهم ولا مرغوب فيهم
- إجراءات جديدة لتسهيل تصوير الأفلام الأجنبية في مصر
- عرض خاص لفيلم -أطياف ذلك الضوء- عن الشاعر سلطان العويس
- اختفاء أقارب الفنان الغيني المعارض يثير قلق الأمم المتحدة
- اختفاء أقارب الفنان الغيني المعارض يثير قلق الأمم المتحدة
- بهجت رزق: لابد من تسوية بين الثقافة والسياسة لتجنب الصراعات ...
- من -آنا كارينينا- إلى -الجريمة والعقاب-.. الأدب الروسي يفتح ...
- من صدمة الحرب إلى شاشة السينما... بوسنيان سويسريان يرويان قص ...


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ثائر البياتي - لغةُ الكون والوجود: الشعرُ والموسيقى والرياضيات