عائد زقوت
الحوار المتمدن-العدد: 8534 - 2025 / 11 / 22 - 03:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نحن لا نعاني لأنّ الحياة قاسية، بل لأنّنا نهوى المعاناة واللأواء، كما يهوى البعض رواية الأساطير والأخيلة، ليصنع منها سرديّة بطولية.
نحن في أعماقنا نعشق المعاناة، لا لذاتها، بل لأنها تمنح قصصنا شيئًا من الميلودراما التي نحتاجها كي نشعر أنّ لإنجازاتنا وزنًا حقيقيًا.
فحين نتجاوز الألم، يكافئنا جهازنا العصبي بجرعة لطيفة من هرمون الدوبامين، فنخرج من التجربة مقتنعين بأنّنا مفيدون، إصلاحيون، وأنّنا نُضيف للعالم شيئًا من العقل والضمير.
فهي ليست مجرد عارض عابر، بل شرط وجودي نُعلّقه على أبواب حياتنا كي تبدو رحلتنا جديرة بالرواية.
بدون قدر محسوب من الألم، نخشى أنْ نفقد إحساسنا البطولي؛ لذلك يمدّنا جهازنا العصبي بجرعة دوبامين صغيرة، كرشوة بيولوجية، لنتوهّم أنّنا أنجزنا معركة كَونيّة، يهمس لنا عبرها: رائعون، لقد تعذبتم بما يكفي لتشعروا أنكم عظماء!
وهكذا، وبعد هذا الطقس العصبي، نخرج مُبللين بالبشر، وبضغطة واحدة نقول لأنفسنا بثقة الفلاسفة: أنّنا مفيدون وإصلاحيون، وأنّنا نضيف للعالم شيئًا من العقل والضمير، وأنّنا بالتأكيد فاضلون ومحترمون ونستحق محبة الجميع.
فمعاييرنا الأخلاقية دائمًا، وبكل صُدفة عجيبة، تأتي على مقاس غرورنا تمامًا، إنّها دراما أخلاقية نصنعها بأنفسنا… ونُصفّق لها بجدية كما لو كانت قَدَرًا.
لكنْ في غزة، لا تأتي المعاناة كهواية وجودية ولا كطقس تراجيدي لنيل وسام الأخلاق؛ هناك تستمر المأساة فعلًا، ويمتدّ الألم كل يوم بفضل العبث السياسي الفصائلي؛ أولئك الذين يعيشون في مدينتهم الفاضلة الخاصة، مُحصّنين بأسوار خطاباتهم الرسمية تارة وبالشعبوية تارة أخرى، يستمدون من معاناة الناس وقودًا لشرعية بقائهم وكأنّ الألم مِداد خطاباتهم.
وبينما ينزف الناس، يَنعم اللاعبون في الظلّ بحياة تبدو كأنها مُحاطة بهالة فاضلة، فَصَيَّروا من الألم العام أُكسجينًا سياسيًا يتنفسونه كما يتنفس المرء الهواء، ويبدون وكأنّ الخراب هو وقود صمودهم الوحيد.
وهنا يُطلُّ السؤال الذي نخشى طرحه:
متى نخرج من سياستنا الكهفيّة؟
ومتى نتخلى عن منهج الشيطان في تخريب الأرض والإنسان، وندرك أنّ استمرار العبث لا يصنع بطولة، بل يُدمر وطناً، ويُهشم أرواحًا، ويُحوّل الأرض إلى خراب، ويموت الناس قهرًا لا فقرًا.
فنحن لا نعاني صُدفة بل لأنّ بعضًا من بعضِنا يستمتع بالمعاناة ويعشقها.
#عائد_زقوت (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟