أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال محمود الطيارة - أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سيرة إبراهيم التّوراتيّة) (4) الفصل الثّالث الضّيافة العربيّة















المزيد.....



أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سيرة إبراهيم التّوراتيّة) (4) الفصل الثّالث الضّيافة العربيّة


كمال محمود الطيارة

الحوار المتمدن-العدد: 8532 - 2025 / 11 / 20 - 22:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أيكون إبراهيم عربيّاً؟!
(في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سيرة إبراهيم التّوراتيّة)
(4)
الفصل الثّالث
الضّيافة العربيّة



يتناول هذا الفصل ما جاء في الإصحاح الثّامن عشر (1 ـ 8) أي استضافة إبراهيم للرّب (יְהוָה) ومرافِقَيْه أو رَسوليه إلى سدوم والإصحاح التّاسع عشر (1 ـ 9) وفيه استضافة لوط للرسولين المذكورين وما رافق ذلك من محاولة اعتداء عليهما من قِبَلِ رجال سدوم ولفهم الرّواية التّوراتيّة ضمن سياقها التّاريخي بعيداً عن الشّروح اللاهوتية المعروفة سنعمد إلى موازنةٍ بين ما جاء في هذه الرّواية من تفاصيل من جهة وتقاليد البدو العرب المعروفة في مجال الضّيافة والقرِى من جهة أخرى

أذكرُ جيّداً أنّ التّربيةَ التي تلقيناها في الصّغر كانت تُحتّم علينا إذا ما وقعنا في الطّريق على كِسرة خبزٍ أن نلتقطها ونقرّبها من فَمِنا فجبهتنا في حركةٍ تدلّ على الشّكر لله ثمّ نضعها جانباً كي لا تدوسها أرجل المارّة فالخبزُ أساس الطّعام في الشّرق الأدنى القديم (وما زال) وهو "نعمة" من نِعَمِ المولى والكثير من النّاس يُقسمون على هذه "النّعمة" وكما رأينا في الفصل السّابق فإنّ المقسوم عليه إمّا مقدّسٌ أو عزيزٌ غالٍ يقرُبُ من القداسة وعليه فالخبز على درجات القداسة له المرتبة العليا وقد زادوا على الخبزِ الملحَ (ربّما لكون الملحَ يُضاف إلى العجين أو لأنّ فيه إصلاحُ الطّعامِ جميعاً وحِفْظُه) وأقسموا بهما معاً وفي ذلك كناية عن التّشارك في الطّعام ووصفوا من نكث العهد بانه خان "الخبز والملح" فاختزلوا الوليمة بمجملها إلى عنصرين فيها هما "الخبز والملح" (سنعود إلى موضوعة "الملح" لاحقاً)

والحال أنّ الوليمة أي الاشتراك في طعامٍ واحدٍ عند الشّعوب السّاميّة القديمة كانت دوماً مرافقة للحلف والعهد والصّلح والاحتفالات المقدّسة أو شبه المقدّسة العامّة أو الخاصّة فهي شاهدٌ على انتهاء مرحلةٍ في الحياة وبدء أخرى منشودة (وممّا مرّ معنا وليمة الصّلح بين يعقوب وخاله لابان ومشاركة إبراهيم ملكي صادق كاهن "إيل عليون" في الطَعام المقدّس : الخبز والنبيذ وهو يرمز إلى الدّم) وأيّة وليمة كانت بطبيعة الحال تحتوي على العنصرين المقدّسين حسب معتقدات هذه الشّعوب عَنَيْتُ بذلك الدم (دمُ الذّبيحة أو القربان) والخبز أو ما يرمز إليهما ولنا في "العشاء الأخير" أو "العشاء السّري" (وهو المأدُبة المقدّسة التي أسّسَت لِسِرّ القربان في اللاهوت المسيحي وقد جمعت المسيح بتلاميذه وفيها كشف السّيد عن الذي سيسلمه إلى الصّليب) المثل الأوضح لقداسة هذين العنصرين الخبز والدّم فها هو يسوع وبَيْنا تلاميذه يأكلون نراه "أخذ خبزاً وباركَ وكَسَرَ وناوله تلاميذَهُ وقال خذوا فكُلوا هذا هو جسدي ثمّ أخذ كأساً وشكرَ وناولهم إيّاها قائلاً اشربوا منها كلّكم فهذا هو دمي دمُ العهد الجديد يُراقُ من أجل كثيرين لِغفرانِ الخطايا" (متّى 26/ 26 ـ 28) فالخبز غدا هنا رمزاً لجسد المسيح والخمرُ رمزاً لدمه يقول يوحنّا نقلاً عن المسيح "من أكلَ جسدي وشرب دمي فله الحياة الأبديّة [...] هذا هو الخبز الذي نزل من السّماء [...] من يأكل من هذا الخبز يحيى إلى الأبد" (يوحنا 6/ 54 ـ 58) وهكذا رفع القربانُ المقدّس الخبزَ إلى أعلى مرتبات القداسة وجعله (رمزيّاً) جسد الرّب ذاته

وعنصرا الخبز والدّم كانا حاضرين في الولائم المقدّسة التي كانت تُقامُ في الشّرق الأدنى القديم قبل الميلاد بآلاف السنين فالنقوش الأوغاريتيّة تحتوي على الكثير جدّاً من مشاهد مثل هذه الولائم التي يقيمها البشر أو الآلهة في مناسباتٍ عدّة يُشاركُ فيها الجمْعُ الطّعامَ المقدّسَ وأحدُ هذه النّصوص تُخبرنا بأنّ "إيل" كبير آلهة كنعان استضاف إلى مائدته الآلهة الأدنى منه وأقام لها في حفلٍ دينيّ الولائم المقدّسة ومثله كان يفعل الإله "بعل" وكانت هذه الولائم التي تُقامُ عند الآلهة "دعوةً إلى السّلام (في ما بينها) وقِراناً للعهد" كما تقول الكتابات عينها ويُقّدّم فيها مما هو مقدّس "اللحم والخبز والخمر" فالولائم هنا فعل ديني/سياسي يتوخّى توطيد العلاقات بين الآلهة وتأكيد سلطة الإله الأعظم بينها فيقوم هذا بواجب الضيافة إزاء من هم دونه بسخاء وأرْيَحيَّة تَشِيانِ بما هو عليه من قدرة وجاه فها هو "إيل قد جلس في مجلسه ونصب مائدته أمام الآلهة ورفع كأسه قائلاً ليأكل من مائدتي من هو جائع وليشرب من خمرتي من هو عطشان لأنّ في بيت إيل لا يجوع ضيف ولا يُهانُ من دخل داره" فصورة "إيل" هنا وهو رأس آلهة كنعان هي بالضبط صورة شيخ القبيلة الذي يمنح ضيفه أمران مرتبطان لا انفكاك لهما عن بعضهما الضَيافة والأمان

وقد حذا البشرُ في هذه الثّقافات حذو آلهتهم (والحقُّ أنّ البشرَ هم من جعلَ الآلهة تحذوا حذوهم!!!) فأقاموا المآدب واستضافوا في المناسبات فحاكَوا بذلك الآلهة التي تستضيفُ وتحمي ومما هو جدير بالذّكر هنا أنّ القرابين التي كان يقدّمها المؤمنون من طعامهم للآلهة (نتاج حيواني أو نباتي) كانت تُسمّى في الأكّديّة "وجبة القربان" فالقربانُ للإله والمأدبة للضيف هما دعْوَةُ المؤمنِ الإلهَ أو الغريبَ كي يشاركاه الطّعامَ وعليه فمشاركةُ الغريبِ للمؤمنِ في طعامه تحاكي مشاركة الإله في هذا الطّعام والفعل في الأمرين مقدّس

فالضّيافة في جذورها إذاً شعيرة مقدّسة والبشرُ هنا في استضافتهم الغرباءَ وعابري السّبيل وطارقي الليل يُحاكون الآلهة في كرمها ويطلبون لذلك بركتها وقد وردت في النّقوش النّبطيّة والآراميّة القديمة عبارات عديدة من مثل "باسم إيل أُقرِي الغريب" أو أيّ إله آخر مما يدلُّ دلالة واضحة على أنّ استضافة الغريب وإكرامه وحمايته كانت تتمّ باسم الإله فهي واجبٌ مقدّسٌ تنظر إليه الآلهة بارتياح ويُجازى فاعله عليه بالخير ولربما لعنت الآلهة من أخلّ بواجبه المقدّس هذا أو غضبت عليه فقد وُجِدّت في كتابات بلاد الرافدين أنّ "مَنْ يُطْعِم يُبارك ومَن يبخل يُعاقب" وأخيرا يجب أن لا ننسى هنا أنّ الإسلام أيضاً قد التفتَ إلى الغريب فجعل ل "ابن السبيل" (وقد وردت العبارة في هذا المعنى ما يقرب من عشر مرّات في القرآن) حقّاً معلوماً في الصّدقات وفي ما ينفقه المؤمنون من أموالهم في سبيل الله

والعُرفُ أن يُرَحَبَ بالضيف أو بابن السبيل أو الغريب قبل أن يُسْألَ عن أصله وفصله ومقصده وقد يدوم الحال على ذلك ثلاثة أيام وهو في حماية مُضيفِه ومعنى ضيف لغويّاً "مَنْ أُضِيفَ" إلى البيت أو الخيمة مؤقّتاً فأصبح جزءاً من الأهل أو الجماعة وكان هناك اعتقادٌ بأنّ بعض الآلهة أو الكائنات الغيبيّة قد تظهرُ في صُوَرٍ بشريّة (مَثَلُ الغُرَباء الثّلاثة وهم الرّبُّ ورسله الذين نزلوا على إبراهيم ثمّ سار منهم اثنان بعد ذلك إلى لوط لتحذيره من خراب سدوم) لتَحمِلَ إلى الناس رسالةً أو لتجرّبهم لذلك يجب الاحتفاء بالغريب وإن غابت عنّا هويته في البداية وقد دعمَ العهد الجديد هذا الاعتقاد بقوله "لا تنسَوا إضافة الغرباء [أي استضافتهم] لأنّ بها أضاف فومٌ ملائكةً وهم لا يدرون" (الرسالة إلى العبرانيين 13/2)

زيادة إلى هذا الملمَحِ المقدّس القديم كان ضَنَكُ العيش في البوادي عاملاً حاسماً في جعلِ الضّيافة أمراً محتّما وواجباً أخلاقيّاً واجتماعيا يرمي إلى حفظِ حياة العابر في الصّحراء بتقديم المأوى له والطّعام والشّراب ولربّما دار الزّمان دورته فصار المضيف يوماً ضيفاً على من كانت له عليه دالّة وقد بالغ البدويُّ في الضّيافة فأوقد ناراً في الليل خصوصاً في أيّام الشّتاء والبرد يهتدي بها العابرون وهي نارٌ مقدّسة (Toufic FAHD : Le Panthéon de l’Arabie Centrale à la veille de l’Hégire مترجم إلى العربيّة) وعُرِفَت ب "نار القِرى" أو "نار الحِمى" فيميل إليها المسافر فيشبع ويروي ظمأه ويبيت قرير العين في حماية مضيفه وكانت "نار القِرى" هذه أو "نار الحِمى" موضع فخرٍ لمن أشعلها وذمٍ لمن توانى عنها وأهملها وذهبت الأشعار بهذا وذاك كلّ مذهب فرفعت من قدر قوم وحطّت من قدر آخرين فعُيِّرَ هؤلاء بما تقاعسوا عنه وكان هذا لهم سبّة إلى آخر الدّهر وقصص الضّيافة عند عرب البادية أكثر من أن تُحصى وقد اختلط فيها على مرّ الأيّام الواقعيّ بالأسطوري والقصد كان دائماً واحدٌ ضربُ المثل بأجود العرب وأكثرهم سخاءً والأشهر بينهم طبعاً حاتم الطائيّ وكعب بن امامة ومعن بن زائدة وغيرهم

وقد عرف كثير من المستشرقين في العصر الحديث عرب البادية هؤلاء ونزلوا فيهم ونقلوا عنهم ما شاهدوه ومنهم الخوري بولس سيور البولسي في أوائل القرن الماضي (قبل 1912)الذي عايش خلال عقدٍ من الزّمن تقريباً عرب حوران والبلقاء وغور الشّريعة (الأردن) وفلسطين وكان يقوم بمهمّة دينيّة في قسم واسع من البادية العربيّة هناك فكان شاهدَ عيان على تقاليد البدو العرب وعاداتهم وأعرافهم وأودع مشاهداته كتابَهُ "عوائد العرب" وفي ذاك الوقت أو قبله بقليل أقام الأب أنطونين جوسان بين ظهراني عرب مؤاب تلك القبائل البدوية في جنوبي الأردن الحالي ودوّنَ عاداتهم ومعتقداتهم في كتابه (P. Antonin JAUSSEN : Coutumes des Arabes au Pays de Moab تُرجِم إلى العربيّة) ويلتقي الرّحّالتان في مدوّنتيهما في مواضع كثيرة جدّاً عن حياة البدو وأعرافهم وفي ما خصّ الضّيافة البدويّة تحديداً وهذا بيت القصيد هنا إذ كيف يبدو مشهد استضافة إبراهيم ولوط لزائريهما عَطْفاً على ما نعرفه من تقاليد البدو؟

يقول الخوري بولس سيور البولسي "إليك الآن أيّها القارئ اللبيب وصف كيفية الضّيافة كما شهدتها بنفسي" فهو شاهد عيان يورِدُ على نحوٍ دقيق احتفاء شيخ القبيلة بضيفه بِدءاً من لحظة وصوله وأثناء المأدبة (عند الأب جوسان نجد هذا الموضوع ص ص 79 ـ 94) فيقول "[...] وأن كان الوافدُ من ذوي المكانة فيُبْسَطُ له فراشين أو ثلاثة فيتربّع عليها الضّيفُ متّكئاً على المرافق الصّوفيًة أو الحريريّة" (ص 12) فاستراحة الضّيف تكون إذاً بتمدّده على بساط أو فراش ومتكئا على ما هو مرتفع قليلاً عن الأرض كالمرفق أو ربّما الحجر إذا لم يكن صاحب الخيمة من الموسرين

أمّا التّوراة فتورِدُ بداية مشهد الاستضافة الإبراهيمي على النحو التالي "وظهر له الرّبّ (יְהוָה) عند بلوطات مَمْرا وهو جالس في باب الخيمة (הָאֹהֶל) وقت حرّ النهار فرفع عينيه ونظر فإذا ثلاثةُ رجال واقفون بالقرب منه فلمّا رآهم أسرع لاستقبالهم عند باب الخيمة وسجد إلى الأرض وقال يا سيدي إن كنتُ قد نلتُ حظوةً لديك فلا تتجاوز عبدك (עַבְדֶּךָ) دعه يُقَدِّمُ لكم قليلاً من الماءٍ فتغسلون أرجلكم وتتكئون تحت الشّجرة (יֻקַּחנָא מְעַטמַיִם, וְרַחֲצוּ רַגְלֵיכֶם- וְהִשָּׁעֲנוּ, תַּחַת הָעֵץ) وأقدّمُ لكم كِسرة خبز تسندون بها قلوبكم ثمّ تمضون بعد ذلك فإنّكم لذلك قد جُزتم بعبدكم فقالوا افعل كما قُلتَ"

ما يلْفِتُ بدايةً هنا أنّ إبراهيم كان على باب خيمته (وهذا تأكيد على أنّه من البدو الرّحل او شبه الرّحل) ونظر فرأى ثلاثةَ رجال غرباء من عابري السّبيل واقفين بالقرب منه مما يعني أنّ خيمة إبراهيم قد نُصِبَتْ قُبالة الدّرب الذي يسلكه الناس في طريقهم وبابها مفتوح في الاتجاه عينه وما فَعَلَهُ إبراهيم هنا بنصبه خيمته في هذا الموضع بالضبط وتوجيه بابها على نحو ما ذكرنا ليس محض صدفة بل هو تقليد بدوي قديم فيه دعوة ضمنيّة (ولكن واضحة كلّ الوضوح) إلى العابر أن يحطّ رحله ويستريح وفي هذا يقول الخوري بولس سيور البولسي "والعرب إذا نزلوا في منبسطٍ من الأرض ضربوا خيامهم بنظامٍ حول خيمة الشّيخ التي تكون عادة في صدر المحلّة موجّهة إلى الطّريق بحيث يعرفها الطّارق ويقصدها للمضافة"(ص 28)

لقد عرَفَ الغرباء الثّلاثة بالعادة إذاً خيمة الشّيخ (إبراهيم) "فالشّيخ هو الذي يقبل الضّيوف عادةً في خيمته الكبيرة الممتازة عن سائر الخيم بوسعها وزينتها" ( عوائد العرب ص 99) وتوقفوا عندها وما أن رأى (الشّيخ) إبراهيم "غُرباء" قد توقّفوا قُبالة خيمته المفتوحة على الطّريق كما يقضي التّقليد البدوي حتى هبّ لاستقبالهم ودعاهم بكل احترام وإجلال إلى أن يُشرّفوه بقبول ضيافته وهذا سلوك بدويّ محض نابع من القيم الاجتماعيّة البدويّة العربيّة كما رأينا آنفاً (فمن شغفهم بالضّيافة كانوا يشعلون "نار القِرى" في الليل ليهتدي بها إليهم عابروا السّبيل) ورحّب بهم أيّما ترحيب ودعاهم إلى أن " וְהִשָּׁעֲנוּ تحت الشّجرة" وفد تُرجِم اللفظ العبري هذا في بعض الأحيان ب"استريحوا تحت الشجرة" (مثلاً "الكتاب المقدّس" طبعة دار المشرق أو الترجمة الفرنسيّة La Bible de Jérusalem) وإن لم يكن في هذه التّرجمات ابتعاد جلل عن المعنى المقصود من إبراهيم وهو الاستراحة إلاّ أنّها تُفقِدُ النّص عمقَه التَاريخي والثّقافي وتُعيق بالتالي الفهمَ الصّحيح للنصّ فالاتكاء فيه استراحة بطبيعة الحال ولكن الاستراحة لا تتضمّن بالضرورة وضعية "الاتّكاء" الذي هو هيئة بدويّة خاصّة في الاستراحة مرتبطة بالجلوس على الأرض فيتربّع الضّيفُ على البُسُط أو الفرش "متّكئاً على المرافق" (عوائد العرب) الصّوفيًة أو الحريريّة أو ما شابه

ومن أسباب الرّاحة أيضا غسل الرّجلين من غبار الطّريق وعناء السّفر فيُحْضِر المضيفُ لضيفه "ماءً مسخناً ليغسل رجليه من غبار الطريق وينال راحة" (عوائد العرب ص 17) ثمّ يتّكأ بعد ذلك في الظّل على المرافق الصّوفيّة أو الحريريّة كما رأينا وهذا بالضبط ما وعد به إبراهيم ضيوفه الثلاثة قائلا دعوني أقدّم "لكم قليلاً من الماءٍ فتغسلون أرجلكم" إنّه لأمر مثير للعجب حقّاً أن نرى أنّ أصول الضّيافة عند البدو الرّحل في الشّرق لم تتغيّر قيد أُنملة منذ عصر إبراهيم (حوالي 1800 ق م على ما يرى االتّوراتيون) إلى بداية القرن المنصرم أي على مدى فترةٍ من الزّمن تقرُبُ من 4000 سنة !!!

الملاحظة الأخيرة حول هذه الفقرة الموطئة لمشهد الوليمة هو أنّ إبراهيم لم يسأل قطُ زوّاره عن هويتهم وقصدهم وهذا من أصول الضّيافة كما مرّ معنا وقد يدوم الحال على ذلك ثلاثة أيام والضّيف في حماية مُضيفِه الذي لا يسأله عن غرضه أو وجهته

ثمّ ما عتّم إبراهيم أن أسرع إلى الخيمة إلى سارة وقال هلمّي بثلاثة أصواع دقيقاً سميذاً فاعجنيها واصنعي خبز مَلَّةٍ (שְׁלֹשׁ סְאִים קֶמַח סֹלֶת-לוּשִׁי, וַעֲשִׂי עֻגוֹת) وبادر إبراهيم إلى البقر فأخذ عجلاً رَخْصاً طيّباً وأعطاه للغلام ليسرع في إعداده ثمّ أخذ زُبْداً ولبناً (וַיִּקַּח חֶמְאָה וְחָלָב) والعجل الذي أعدّه ووضع ذلك بين أيديهم وهو واقف بالقرب منهم تحت الشّجرة (וַיִּקַּח חֶמְאָה וְחָלָב, וּבֶןהַבָּקָר אֲשֶׁר עָשָׂה, וַיִּתֵּן, לִפְנֵיהֶם- וְהוּאעֹמֵד עֲלֵיהֶם תַּחַת הָעֵץ, וַיֹּאכֵלוּ.) فأكلوا" (تك 18/1 ـ 8)

لا بدّ في البداية من الإشارة إلى أنّ الخيمة هي خيمة إبراهيم ذاتها والمقصود هنا أنّه دخل القسم المخصص للنساء يقول الخوري بولس سيور البولسي عن خِيَم البدو الرّحل التي رآها بأمّ العين "وقد تُقسمُ الخيمة إلى قسمين أو أكثر على قدر كبرها فيخصّص جزء منها للضيوف وآخر للنساء ويُدعى الفاصل بينهما "السّاحة" وهو قطعة من منسوج الشّعر كالخيمة يُسدلُ عادةً من الشّرق إلى الغرب ويُدعى قسم النّساء أو الأسرة "المحرم" وقسم الضّيوف "الشّقة" (ص 28 ونجد وصفاً مشابهاً لهذا عند جوسان ص ص 74 ـ 79) وقد ذهب الشّطح اللاهوتي ببعض شُراح التّوراة إلى الزّعم بأنَ خيمة إبراهيم بلغت من الاتساعِ حدّاً أنّه كان لها أبواب من جهاتها الأربعة (!) لاستيعاب الضيوف و المغالاة هنا بيّنة الغرض منها رسم صورة تفوق الخيال لسخاء إبراهيم وعظمته في عصره (!)

بدأ إبراهيم إذاً بإعداد الوليمة لضيوفه على الطّريقة البدويّة التي نعرفها اليوم فدخل إلى ساره وطلب إليها أن تصنع خبز ملّة فالخبز لديهم ليس جاهزاً مسبقاً "بل يعجنون في الحال ويعملون خبزاً فطيراً على الصّاج أو مليلاً لذيذاً" (عوائد العرب ص 17) وخبز الملة (كما ورد في التّوراة) أو المليل (كما ورد في عوائد العرب) غالباً ما يكون بصنع العجين وسكبه مباشرةً على الرّمل السّاخن والرّماد بعد إزالة الجمر ثمّ يُغطى العجين بالرماد السّاخن والجمر وبعد أن ينضج الخبز يُسْتَخرج من النّار ويُنَظّف من الرّماد وطعمه مُدَخّن و"لذيذ" على ما يقول الخوري بولس سيور البولسي فالمطبخ البدوي لا يحتمل فُرناً حجريّاً وإنّما ناره بسيطة تُوقدُ على الرّمل أو الحجر مباشرة أو في حفرة أو طابون ومازال أصحاب القوافل إلى اليوم يعمدون إلى إنضاج خبزهم بتلك الطريقة أي مباشرة على الرّمل السّاخن والرّماد

ثمّ اختار إبراهيم عجلاً عهدَ به إلى غلامه ليصلحه وتناول زُبداً ولبناً وحمل كلّ هذا (الخبز واللحم والزُّبْدَ واللبن) ووضعه بين أيدي الضّيوف فأكلوا والوليمة على هذه الحال تشبه إلى حدٍ بعيد ما يُسمّى عند عرب البادية ب"المنسف [الذي] به يفتخرون وإليه يتوقون" (عوائد العرب 18) وإن تكن التّوراة لم تذكر في ما ذكرته "البرغل" ولكنه يّقدّم ضرورة مع اللحم والزُّبد واستعماله في هذه المناطق حسب الشّواهد الأثريّة يعود إلى ما يزيد عن 5000 سنة قبل الميلاد وما الزّبد (أو السّمن عند بدو اليوم) إلاّ "لسكبه فوق المنسف وكلّما كثّرَ [صاحب الضّيافة] منه كان أشهر بالكرمِ وأحقّ بالثّناء وهم يقولون لتشجيعه "المعزب ربّاح" أي أنّه يربح حسن السّمعة وطيب الأحدوثة [لِكَرَمِه] وقد بلغني أنّ أحدهم قد صبّ على منسف واحد أكثر من خمسة عشر رطلاً من السّمن" (عوائد العرب ص 19)

وأيّاً يكن الأمر فأنّ مأدبة إبراهيم على نحو ما ذكرنا وتحديدا الجمع بين اللبن والزّبد مع اللحم وتقديمها للضيوف في وليمة واحدة انتهاكٌ خطيرٌ لشريعة موسى التي تحرّم الجمع بين هذه العناصر في الطّبخ فقد جاء في سِفر الخروج (23/19) "لا تطبخ جَدْياً بلبن أمّه" وتجدّد النّهي ثانيةً في الإصحاح (34/26) من السّفر نفسه وثالثةً في سفر التّثنية (14/21) وهنا وجد الشّراح والحاخامات أنفسهم في مأزق وتبارّوا في اصطناع الحِيّل لتجاوز العقبة فزعم بعضهم أنّ إبراهيم قدّم هذه الأصناف منفصلة فقدّم اللبن والزّبد ثم أتى بعد ذلك باللحم وزاد بعضهم لتوكيد هذا الفصل كلمة "أوّلاً" بعد "الزّبدة واللبن" وأضافوا شرحاً يقول بأنّ الضّيوف أكلوا من الخبز والزّبدة وشربوا اللبن وبعد ذلك أحضر إبراهيم العجل الذي أعدّه الغلام وكان البعض الآخر أكثر واقعيّة واحتراماً للنصّ فأقرّ بأنّ إبراهيم قد قدّم لزائريه هذه العناصر مجتمعة فعلاً وأنّ الأمر لم يكن محرّماً آنذاك فشريعة موسى وُجدت بعد ذلك بحين ولكن ما غاب عن هذا الرّأي ذِكْرُهُ هو وضع سلوك إبراهيم في سياقه التاريخي فهذه الوليمة وليمة بدويّة بامتياز تُعبّر عن أقصى ما يمكن للبدويّ أن يُظهره من كرم وسخاء إزاء ضيفه حسب التّقاليد والأعراف البدويّة ( تقديم اللحم والسّمن أو الزُّبد وهما مادّتان عزيزتان جدّا في البوادي يعني تقديم أفضل ما نملك للضيف) وأنّ الأمر هنا لا يعدو كونه أنّ إبراهيم البدوي قد عمل بما تُمليه عليه الثّقافة التي ينتمي إليها أي أنّه امتثل لتقليد بدوي يمتد إلى جذور مغرقة في القِدم يصعب حصرها

وأخيراً يُنهي النّصّ التّوراتي لوحة الضّيافة الإبراهيميّة هذه بالقول "ووضع ذلك بين أيديهم وهو واقف بالقرب منهم تحت الشّجرة فأكلوا" وهذا يعني أنّ إبراهيم لم يشارك ضيوفه الأكلَ فلماذا "بقي واقفا"؟ الجواب نجده في المشاهدات العيانيّة عند الخوري بولس سيور البولسي وأنطونين جوسان فيقول الأوّل "ويكون صاحب الضّيافة واقفاً أمام ضيوفه (تماماً كما إبراهيم تحت الشّجرة) يخدمهم ويأتيهم مرّة بعد أخرى بالسّمن المسخّن" (عوائد العرب ص ص 18 ـ 19) أمّا جوسان فيقول "قلّما شاهدت الشّيخ يأكل مع ضيوفه فهو يسهرُ على أن يكون كلَّ واحدٍ منهم مخدوم على ما يرام ويشجعهم على يتابعوا قائلاً لهم "أفلحوا" بمعنى كلوا جيّداً كلوا هنيئاً ص 81) وهكذا نعثر مرّة أخرى على تفاصيل دقيقة عاشت عند البدو لأكثر من 4000 سنة (!)

ثمّ قام الضّيوف وشيّعهم إبراهيم أمّا "الرّب (יְהוָה) فقد ذهب عندما فرغ من الكلام مع إبراهيم" (تك 18/23) وأمّا الرّسولان فقد جاءا إلى سدوم حيث لوط وهنا نصل إلى لوحة استضافة مغايرة بعض الشيء للأولى

تحكي الرّواية التّوراتيّة عن استضافة لوط ما يلي "فجاء الملاكان إلى سدوم مساءً وكان لوطٌ جالساً عند باب سدوم فلمّا رآهما لوط قام لاستقبالهما وسجد بوجهه إلى الأرض وقال يا سيديَّ مِيلا إلى بيت عبدكما وبِيتا واغسلا أرجلكما ثمّ تُبَكِّران وتمضيان إلى سبيلكما فقالا لا بل في السّاحة نبيت فألَحّ عليهما كثيراً فمالا إليه ودخلا بيته فأدّبَ لهما وقدّم لهما خبزاً فطيرا (וּמַצּוֹת אָפָה) فأكلا وقبل أن يضطجعا أحاط بالبيت رجال المدينة رجال سدوم من الحَدَث إلى الشّيخ جميع القوم عن آخرهم فنادوا لوطاً وقالوا له أين الرّجلان اللذان دخلا إليك الليلة أخرجهما إلينا لنعرفهما فخرج لوطٌ إليهم إلى المدخل وأغلق الباب وراءه وقال لا تفعلوا شرّاً يا إخوتي هأنذا لي بنتان ما عرفتا رجلاً أُخْرِجُهما إليكم فافعلوا بهما كما حسن في أعينكم وأمّا هذان الرّجلان فلا تفعلوا بهما شيئا لأنّهما قد دخلا تحت ظِلّ سقفي فقالوا تنحّ من هنا(!) ثم قالوا جاء هذا الرّجل يتغرّب بيننا ثمّ يقيم نفسه حاكماً (!) الآن نفعل بك أسوأ مما نفعل بهما [...]" (تك 19/1 ـ 9)

نلاحظ بادىْ ذي بدء أنّ لوطاً ليس على مدخلِ خيمةٍ جالسٌ قبالتها بل نراهُ جالساً "عند باب [المدينة] سدوم" وقد ذَكَرَ الخوري بولس سيور البولسي أنّ "عديداً من العرب هجروا بيوت الشّعر وشرعوا يسكنون بيوت الحجر وبنوها على غاية البساطة فهي عادة بناية بسيطة مربّعة أو مستطيلة مؤلّفة من أربعة حيطان وسقف [...] وبقرب باب البيت تُقام بناية صغيرة للطبخ" (عوائد العرب ص 29) وهذه بالضبط حال لوط الذي رَغِبَ عن عيش الحلّ والتّرحال مع عمه إبراهيم ومال إلى حياة الحضر في سدوم وعليه فإنّ الرّسولين هنا لم يتوجّها إليه مباشرةً (كما الحال مع إبراهيم) بل مرّا به مروراً فانتهز الفرصة وقد رأى أنّهما غريبان فدعاهما إلى بيته لِما كان عَهِدَهُ من قبلُ في ثقافته البدويّة من قِيَمِ الضّيافة "وألَحّ عليهما كثيراً" والإلحاح هذا مصدره أن الضيافة هنا عند الحضر قيمةٌ أخلاقيّة واجتماعيّة وليست واجبة كما هي عند البدو في الصّحراء حيث أنّ الأمر بالنّسبة إلى المسافر مسألة حياةٍ أو موت في بيئة شبه معدمة

إنّ فِعلُ لوط هنا ما هو إذاً إلاّ مبادرة فردية غير مرتبطة بنظام قيميّ اجتماعي مُلْزِم والإلحاحُ من قِبله والتّمنّع المهذّب من قِبلِ الملاكان سلوك حضريٌّ شرقيّ قديم يخضع لأصول اللياقة والآداب في المجتمع المديني وهي ما زالت حاضرة في مجتمعاتنا إلى اليوم ويسمّونها في لبنان "المجاملة" ويروي سلام الرّاسي في كتابه الفَكِه "لئلاّ تضيع" نكتة طريفة عن هذا الإلحاح المهذّب في المجتمعات الحضريّة المعاصرة ننقلها بتصرّف يقول سلام الرّاسي أنّ الدكتور جورج إدوارد بوست (من الأطباء والمبشّرين الأميركيين في الكلّيّة السّوريّة الانجيليّة في بيروت في القرن التّاسع عشر) دُعِيّ يوماً إلى وليمة عند أحد اللبنانيين وبعد أن أكل وشبع أخذ الحاضرون "يتعازمونه" : "/قرص كبه منشاني/ محشاية كرمال خاطري/ الأكل على قدّ المحبّة/" فسايرهم بوست من قبيل "المجاملة" فكان أن أكل أكثر من طاقته وما لبث المسكين أن شعر بألم في معدته فطلب حصانه فجيء له به فقال لمضيفيه أظنّ أنّ حصاني ظمآن فأحضروا له سطل ماء ووضعوه أمام الحصان فشرب حتى ارتوى ورفع رأسه فأخذ بوست عندئذٍ يقول له اشرب قليلاً أيضاً كرمال خاطري/ غبّة تانية منشاني/ فأبى الحصان مسايرة صاحبه فقال بوست عندها لمضيفيه "إنّ حصاني أكثر حكمةً منّي لأنّه رفض أن يضرَّ نفسه إكراماً لخاطر سواه" وعليه فإذا كان تصرف لوط سلوك حضري مرتبط باللياقة والآداب الاجتماعية فأن سلوك إبراهيم تصرف بدوي عفوي ينبع من ضرورة حياتيّة في بيئة معادية للإنسان

إضافة إلى الإلحاح والتّمنّع المهّذّبين من قِبَلِ لوطٍ وأضيافه الملمح الثاني الذي يشي بحضريّة مشهد الضيافة هذا هو المأدبة عينها وما احتوت عليه فباستثناء الخبز الفطير لا ينقل إلينا النّص (بالموازاة مع ضيافة إبراهيم مثلاً) أيّة معلومة أخرى عن عناصر الوليمة التي أعدّها لوط لزائريه وهذا طبيعي فالمأدبة لم تُقَمْ على مرأى ومسمعٍ من الرّبع بل تمّت خلف الجدران وللبيوت في المدينة أسرارها وهكذا فإنّ الراوي الذي كان بإمكانه مثلاً أن يتكهّن بكل سهولة بعناصر وليمة إبراهيم مفترضاً لذلك قِمّة السّخاء البدوي على ما تقتضيه العادات والتّقاليد كان أعجز من أن يتنبّأ بمضمون وليمة حصلت بعيداً عن العيون ووراء الأبواب المغلقة

الملمح الثالث الذي يشهد بحضريّة هذه الاستضافة هو الصراع بين لوط من طرفٍ ورجال سدوم من طرفٍ آخر حول حماية الضّيف أهيَ حق للضّيف وواجب على المضيف القيام به أم لا؟

تقول الرّواية عَلِمَ أهل سدوم باستضافة لوط لِغَريبَيْنِ فجاء الرّجال منهم لِيَرْتكبوا الفاحشة معهما فخرج لوط إليهم ليحول بينهم ومُرادِهم ودار بين الطّرفين جدالٌ كانت فيه حجة لوط أنّ "هذان الرّجلان لا تفعلوا بهما شيئا لأنّهما قد دخلا تحت ظِلّ سقفي" أي أنّ الرّجلين مشمولَيّنِ بحمايته فلا طريقَ لأهل سدوم لأن ينفذوا إليهما ويفعلون بهما ما يبغون أمّا رجال سدوم فكان لهم رأي آخر لا يقيم وزناً لهذه الحماية لا بل أنّهم أخذوا على لوطٍ وهو حديث العهد بمدينتهم أنّه يريد أنْ يُخضِعهم والمدينة لعُرفه الأجنبي البدوي "فقد جاء هذا الرّجل يتغرّب بيننا ثمّ يقيم نفسه [الآن] حاكماً" ممّا يعني أن هناك نظاميّ قِيَمٍِ متعارضين في ما يتعلّق بمعاملة الضّيف وبالأخص حمايته

إنّ حجّة لوط الذي لم يكد بعدُ يخرج من عهد البداوة ليدخل عيش الحضر تقوم على التّمسك بعُرفٍ بدويٍ أخلاقي واجتماعي أصيل (فرضَه ربّما ضيق العيش في الصّحراء) ترك بصماته حتّى على مواقف الآلهة وخُطَبها (راجع المقدّمة أعلاه وكلمة الإله إيل التّرحيبيّة بضيوفه "لأنّ في بيت إيل لا يجوع ضيف ولا يُهانُ من دخل داره") ألا وهو حماية الضّيف والجار وابن السّبيل والحليف وصاحب العهد وكان الأمر واجباً مقدّساً أّمّا عند البدو العرب الذين خالطهم الخوري بولس سيور البولسي في بداية القرن العشرين فالأمرُ جليٌّ بأنّ هذا المبدأ مازال يحتلُّ مكانته المعهودة في سُلّم القِيَمِ البدويّة المعاصرة وهذا الباب من الحماية يسمّيه هؤلاء البدو ب "الدّخلة" و"الملحة" والدّخلة "هي الدّخول إلى خيمة أو بيت أحد المشايخ أو الأقوياء بقصد طلب الحماية [...] عند ذلك يقبله صاحب الخيمة ويمدّه بكل ما في وسعه لينجده ولو كان غائباً عن الخيمة فكلٌّ يعرف أنّ من يتعدّى عليه كأنّه تعدى على صاحب الخيمة ويقع تحت غضبه وانتقامه. أجل إنّ الخيمة عند أهل البادية شيء مقدّس وحِمى مُكرّم والويل لمن ينتهك حرمته [...] فحماية الخيمة إذن أكبر حماية عند العرب ودخيلها أصبح آمن الجانب محفوظ العهد محمي الذّات والمال بسطوة صاحب الخيمة وبأسه ولنا في لغتما العربيّة أثر من هذه العادة القديمة في قولنا "دخيلك" أي أنا داخل على بيتك طالب حمايتك (عوائد العرب ص 127 ـ 128)

أمّا "الملحة" فما هي إلاّ فرعٌ من "الدّخلة" ومصدرها اللغوي من "الملح" (وهنا نرجع إلى "الخبز والملح" اللذين يّقسمُ بهما ) وهي أن يطلب الواحد منهم حماية قدير أو شيخ بسبب الزّاد أو الطّعام الذي أكله من عنده لدى ضيافته فإذا عارضه عدو أو تصدّى له سالبٌ في طريقه بعد ذهابه من خيمة ذلك الشّيخ الكبير أو الفارس المشهور فيقول له محتمياً به إنّي على مِلْحَةِ فلان ويسمّيه فإن لم يرتدّ عنه المعتدي وغَصَبَهُ على ماله أو شخصه فيرجع إلى الذي كان ضيفاِ عنده ويقول له لقد أهانك فلان وسلبني مالي وأنا على مِلْحَتِك [...] فيقوم الشيخُ برد الاعتبار" (عوائد العرب ص ص 128 ـ 129)

ويمْتَثِلُ عرب بلاد مؤاب للأعراف البدويّة عينها فينقلُ عنهم أنطونين جوسان (ص ص 79 ـ 93) أنّ الضّيافة تُوَلِّدُ ما يعرفونه ب "حقّ الملح" بين الضّيف ومضيفه الذي يجد نفسه مُلزماً (عَمَلاً بهذا الحقّ الذي اكتسبه الضّيف) بتأمين الحماية لضيفه ليس فقط عندما يكون هذا داخل الخيمة أو في الرّبع وإنّما أيضا وهو مسافرٌ على بُعْدِ عدّة أميال من الخيمة وبالمقابل فإنّ "حقَّ الملح" هذا يفرض على الضّيف الالتزام بمبادئ الضيافة وقواعدها خصوصاً تجاه مضيفه وإلاّ أُعلِنَ على الملأ أنّه "بواق" بسبب سلوكه المشين والبُوق هو الباطل والزّور ف"البوّاق" هو من جَلَبَ إلى نفسه الخزي والعار ويُعْلَنُ ذلك بين القبائل فيصير "البواق" منبوذاً ويفقد بذلك حقّ الضيافة في مجتمعه ويروي أنطونين جوسان في هذا الصّدد حوادث كثيرة كان عليها شاهداً

نَهَلَ لوط إذاً من هذه التّقاليد والأعراف طِوال عهد البداوة الذي عاشه قبل استقراره في سدوم ولمّا حاول رجالها الاعتداء على ضيفيْه واجههم بمبدأ "الحماية" البدوي على ما عرَضنا ويبدو أنّ أهل سدوم كانوا على تقليد مغاير لا يُقيم حُرمةً للضيف واتّهموا لوطاً بأنّه يريد فرض الأعراف البدوية على المدينة الحضريّة فهدّدوه بأنّه سيلقى مصير ضيفيه إن فعل ولكن لوطاً أصرّ على موقفه وقد بلغ من تمسّكه بمبدأ "حماية الضّيف" هذا أنّه كان على استعدادٍ لأن يُضحّي بابْنَتيه العذراءتين من أجل أن لا يُمَسّ ضيفيه بأذى لولا أن تداركه الرّبّ فضرب هؤلاء الرّجال بالعمى فعجزوا عن الوصول إليه وإلى ضيفيه(!) الرّسولين من عند الرّب وفي اليوم التالي أُخْطِرَ لوط بهلاك سدوم القادم فخرج برهطه إلى "صوغر" فنجَوا و "أمطرَ الرّبُ على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من عنده من السّماء" (تك 19/24)

خلاصة مؤقّته

شغلت "الضّيافة" موقعاً متقدّماً في سّلّم القيم الدّينيّة والاجتماعيّة في ثقافات الشّرق القديم وكان إطعام ابن السّبيل مدعاة إلى اكتساب رضاء الآلهة وتشابهت أصول الضّيافة وقواعدها إلى حدٍّ بعيد في هذه المجتمعات وبسبب الواقع الماديّ والاقتصادي يمكن التمييز في هذا المجال بين قواعد الضّيافة عند البدو وأصولها عند الحضر وتبيّن ضيافتي إبراهيم (البدوي التّائه) ولوط (الحديثُ العهد بعيش الحضر) للربّ ورسله بعضاً من الفروق بين هذين الوجهين من الضّيافة وقد تبيّن لنا أن أعراف وتقاليد الضّيافة (الاستراحة بالاتّكاء والوليمة وعدمُ مشاركةِ الشّيخِ ضيوفَه الطّعام بل سهره على خدمتهم والحماية أو "حقّ الملح" وغير ذلك)عند العرب البدو في العصر الحديث (أوائل القرن الماضي) تكاد تكون عينها التي امتثل لها إبراهيم ولوط منذ حوالي 4000 سنة في استقبالهما لضيوفهما ولا بدّ من أنّ هذه التّقاليد قد تشكّلت قبل هذا التّاريخ بزمنٍ طويل إذ نراها متجذّرة في حياة القوم ومنتشرة بين قبائل العرب البدويّة وليس من المعقول أنّها ظهرت فجأة متكاملة بين ليلة وضحاها (!) وكما علمنا في ما سبق معرفة إبراهيم القويّة لتقاليد الحِمى والأنصاب والحميم والإرث وغير ذلك من الخصائص التي تميّز المجتمعات البدويّة العربية القديمة نراه هنا وقد أجاد أيّما إجادة في مجال حُسن الضّيافة


يتبع / الفصل التالي وهو الرّابع وعنوانه "أبرام عند أبي مالك ملك جرار في النّقب"

ملاحظة سريعة على الردود التي وصلتني
وصلتني ردود مباشرةً على عنواني الإلكتروني وأخرى عبر الحوار المتمدّن ومن المفضّل عندي أن تكون الردود عبر منصة الحوار المتمدّن، كثير من هذه الرّدود مصدرها الغيرة الشديدة على الإيمان والمعتقدات وأقول أنّه ليس لي في الأمر حيلة فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وإنّما عملي هنا يقوم على قراءةٍ نقديّةٍ للنص المقدّس تستبعد الشّروحات اللاهوتية فهذه في نهاية المطاف من نوع النّص فنكون كمن فسّر الماء بعد الجهد بالماء ووجدنا أنفسنا في حلقة مفرغة أمّا القراءة النقديّة التّاريخيّة فتحاول فهم النّص في سياقه التّاريخي على قدر ما تسمح به المعلومات الأثريّة التي في حوزتنا وأظنّني قد شرحتُ في المقدّمة (الحوار المتمدّن/عدد 8370/11 ـ 6 ـ 2025) المنهج الذي اعتمدّته في البحث فلمن فاته الأمر يمكنه الرّجوع إليها

كمال محمود الطّيارة ـ ليون ـ فرنسا ـ 20/11/2025



#كمال_محمود_الطيارة (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سير ...
- أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سير ...
- أيكون إبراهيم عربياً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سيرة ...
- أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سير ...
- أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سير ...
- أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سير ...
- -شاهد ما شفش حاجة- أو شرُّ البليّة ما يُضحِكُ (موتُ النّخْوَ ...
- من إسلام الضّرورة ‘لى إسلام البزنس (تدنيس المقدّسفي المخيال ...


المزيد.....




- مصرع مواطنين بحادث سير في سلفيت
- يهود أميركيون زاروا سوريا.. وهذا ما خرجوا به
- صحف عالمية: الوضع في غزة كارثي والضفة تشهد إرهابا يهوديا
- صحف عالمية: الوضع في غزة كارثي والضفة تشهد إرهابا يهوديا
- الاحتلال يقتحم قرية سرطة غرب سلفيت ويداهم المجلس القروي
- بعد تكساس.. هل يمتد -حظر الإخوان- لباقي الولايات الأميركية؟ ...
- كايروس الثانية: حين تواجه الكنيسة العالم بضميره المفقود
- تكساس تصنّف الإخوان و-كير- إرهابيتين..خطوة لحظرهما فيدراليا؟ ...
- تكساس تصنف الإخوان و-كير- إرهابيتين.. فهل يتوسع -التصنيف-؟
- حملة تضليل تستهدف مسلمي تكساس وتروج لادعاءات -محاكم الشريعة- ...


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال محمود الطيارة - أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سيرة إبراهيم التّوراتيّة) (4) الفصل الثّالث الضّيافة العربيّة