أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال محمود الطيارة - أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سيرة إبراهيم التّوراتيّة) (3) الفصل الثّاني (جزء 2/2) الإرثُ والبَنونُ والحميم















المزيد.....



أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سيرة إبراهيم التّوراتيّة) (3) الفصل الثّاني (جزء 2/2) الإرثُ والبَنونُ والحميم


كمال محمود الطيارة

الحوار المتمدن-العدد: 8514 - 2025 / 11 / 2 - 01:06
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أيكون إبراهيم عربيّاً؟!
(في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سيرة إبراهيم التّوراتيّة)
(3)
الفصل الثّاني (جزء 2/2)
الإرثُ والبَنونُ والحميم

ملحوظة مهمة: انسلّ خطأ إلى عنوان المقال الآنف "الفصل الأوّل (جزء 2/1) والصّواب "الفصل الثاني" فاقتضى التنويه وعُذرا


**"إيل العَليّ مالك السّموات والأرض" / العهدُ بالدم والختانُ علامة

لكنّ الرّبّ برّ بوعده لأبرامَ فأبعد عنه بذلك شبح الحميم الوارث تلقائيّاً فأمدّه بأولاد أوردت التّوراة أسماءهم فإذا هم كلّهم ذكور (!) (وسوف نعود إلى هذا الأمر في آخر هذا الفصل) وكانت تجربته الأولى في الأبوّة مع هاجر الجارية المصريّة لامرأته ساراي (قبل أن يتحول اسمها هي الأخرى فيصبح سارة وسنعود إلى معنى هذا الاسم واشتقاقاته في الفصل الخامس) وأقول "تجربة" لأنّه في غياب التّحاليل المخبريّة التي تعرفها مجتمعاتنا الحديثة اليوم كان زواج الرّجل بامرأة أخرى السبيل الوحيد لتحديد مصدر العقم بين الزّوجين فحملت الجارية المصريّة هاجر بإسماعيل وتأكّدَ بذلك أنّ العطب في ساراي ولكنّ عيبَ إسماعيل كان أكبر من عطب ساراي فهو ابن جارية أجنبيّة لا تربطها بالعشيرة صلة الدّم وقد رأينا في ما سبق أنّ أولاد الجواري والإماء في المجتمعات البدويّة (وفي المجتمعات الحضريّة كذلك) لا يتساوون بأبناء الحرائر ولا شكّ في أنّ أبرام كان يطلب الولد من الحُرّة فتراءى له الرّب (يهوه = יְהוָה) ثانيةً وقطع له عهداً ووضع للعهد علامة قائلاً "فأنا "الله القدير" (إيل شداي = אֵל שַׁדַּי) [...] أمّا أنا فهوذا عهدي معك تكون أباً لجمهورٍ من الأمم فلا يُدعى اسمك بعدُ أبرام بل يكون اسمك إبراهيم لأنّي أجعلك أباً لجمهورٍ من الأمم [...] وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبديّاً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك [...] وأكون إلههم [...] هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك يُختَنُ كلّ ذكر فتختنون في لحم غُرْلَتِكُمْ فيكون علامة عهدٍ بيني وبينكم [...] وساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة وأُباركها وأُعطيك أيضاً منها ابناً أُباركها فتكون أُمماً وملوك شعوبٍ منها يكونون " (تك 17/4 ـ 16) وما عتّمت سارة أن حملت بعد حين ووضعت إسحاق "وختن إبراهيم إسحاق ابنه وهو ابن ثمانية أيام كما أمره الرّب [...] وصنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطام إسحاق" (تك 21/ 4 ـ 8)

فبحسب هذا النص الطّويل نسبيّاَ (وقد اختزلنا منه ما ليس فيه إفادة مباشرة لموضوعنا وأغفلنا عمدا هنا مسألة الوعد الإلهي المزعوم بأرض كنعان فهذا ما سيكون ضمن دراسة مستقلّة تتناول خروج موسى من مصر بعنوان "يهوه يسطو على آلهة الآباء") يكون إبراهيم قد حصل على ابن من صلبه خالص النّسب فسارة زوجه وأمّ إسحاق هي في الآن عينه أخته غير الشّقيقة أي أنّها تنتمي إلى العشيرة عينها يقول إبراهيم "[...] هي أختي ابنة أبي غير أنّها ليست ابنة أمي فصارت لي زوجة [...]" (تك 20/12) وبذلك توفّرت له الفرصة التي طالما انتظرها ونَعِمَ على الكِبَرِ (كان سنّه يزيد عن المئة سنة) بإسحاق ابناً حُراً من صلبه خالص النّسب (على خِلاف إسماعيل ابن الجارية الأجنبيّة) ومن مظاهر فرح إبراهيم بابنه إسحاق انّه "صنع وليمة عظيمة يوم فِطام إسحاق" (تك 21/ 8) وهذا ما لم يفعله لإسماعيل وهو بِكْرُه بيولوجيّا ومن سخريات القدر أنّ هذه "الوليمة العظيمة" التي أقيمت على شرف إسحاق انتهت بطرد الجارية المصرية هاجر وابنها إسماعيل إلى الصّحراء الموحشة "وسكن هذا في البرّيّة وكان ينمو رامي قوس" (تك 21/20) أي أنّه كان متوحّشاً ومصدر عيشه صيد الحيوانات

وهذا النصّ ذو أهميّة كبيرة لأمرين الأوّل أنّه يبيّن أساس العهد الذي ربط بين إبراهيم وإلهه والثاني أنّه يبرز تحولاً في مِلّة إبراهيم ومعتقداته الدّينيّة

لقد أقام إبراهيم مع ربّه (سوف نحدّده في ما بعد) عهداً خلاصته بكلّ بساطة البنين مقابل الربوبيّة أي أنّ الرّبّ يرزق إبراهيم الولد فتنشئ من نسله أمّةً وبالمقابل يعترف هذا باسمه وباسم ذريته من بعده بربوبيّة ذاك والحلف كما نعلم فيه دائماً مصلحةٌ للطرفين وعليه فلن يكون إبراهيم بعد اليوم "أبتراً" (وهذا ما عيب به نبيّ المسلمين في زمنه ـ سورة الكوثر) ومن جهة ثانية سيكون لهذا الرّبّ من الآن فصاعداً أمّة من بين الأمم خالصة العبادة و كأنّ هذا الرّب كان يبحث عن أُمّةٍ تعبده فوجد ضالتَه في إبراهيم ونسله يقول الرّبّ مخاطباً إبراهيم "أمّا أنا فهوذا عهدي معك تكون أبا لجمهور من الأمم [أي أعطيك النسل والولد كما تشتهي ...] وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك [...] لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك [ وتتخذوني أنت ونسلك من بعدك ...] وأكون إلههم" (تك 17/3 ـ 8)
وإذا كنّا نعلم من هو إبراهيم وكيف وصل إلى أرض كنعان فإنّنا لا نعرف شيئاَ عن هذا الرّب أي الطّرف الآخر من المتعاهِدَيْنِ فالنّص العبري يدلّ بوضوح على أنّ في الأمر اسمين لإلهين إذ يذكر في بداية الآية (تك 17/ 1)أنّ الإله الذي "ظهر" لإبراهيم هو "يهوه" (ְהוָה) ويذكر في نهايتها أنّ الذي قطع معه العهد يُعرّف عن نفسه قائلاً "أنا إيل شداي" (אֲנִיאֵל שַׁדַּי) ولحلّ هذه المعضلة جنح اللاهوتيون أصحاب نظريّة التّوحيد الإبراهيمي إلى الزّعم بأنّ الإلهين واحد وأنّ إبراهيم عرف يهوه (الذي ظهر له) من خلال إيل شداي (الذي قطع معه العهد) وهذا فرْضٌ استنسابي لا دليل عليه ولا يستقيم وسنرى لاحقاً مثالبه وإذا كانت صفات يهوه مُبيّنة خصوصاً في سفر الخروج وما بعده فأنّ النّص هنا لا يشير البتّة إلى طبيعة إيل شداي صاحب العهد مع إبراهيم وصفاته ولا يشير إلى مسألة التّوحيد الإلهي التي نُسِبت إلى إبراهيم أكانت قبل هذا العهد بعده ولكنّه يشي على أيّة حال بأنّ هذا الإله الذي قطع مع إبراهيم عهداً لم يكن قبلاً إلهاً له وإنما طلب إليه للمناسبة أن يكون إلهه مقابل الولد فهل يكون أنّ إبراهيم بعهده هذا مع (אֵל שַׁדַּי) قد حنث بدينه القديم واتّخذ إلهاً آخر من أجل الولد وإن كان الآمر كذلك فما هي طبيعة الإله الجديد وهذه المعتقدات الجديدة التي من طقوسها الختان؟

تزخر النصوص اليهوديّة الثّانوية (التلمود والمدراش وغيرهما) بالرّوايات والأساطير حول التّحول الدّيني لإبراهيم باتجاه مبدأ التوحيد الإلهي فيقدّمُ حسب هذه المرويات على أنّه أوّل من توصّلَ إلى فكرة التّوحيد هذه بنفسه بعدما كان قد رفض عبادة الأوثان التي كان عليها قومه فتارة نراه في متجرٍ يبيع تماثيل الآلهة التي يصنعها أبوه ويحطّم هذه الأصنام فتكسد تجارة أبيه وتارة أخرى نراه يتفكّرُ في الكواكب والشّمس والقمر أتكون هي الآلهة؟ ومرّة ثالثة نراه يُقْذَفُ في النار لرفضه عبادة الأصنام فتكون برداً وسلاماً عليه وكلّ هذه الرّوايات وغيرها لا أثر لها البتّة في النّص التّوراتي وإنّما هي نتاج الخيال الجامح عند الحاخامات وقد دوّنوها كما قُلت في نصوص اليهود الثّانويّة (التلمود والمدراش وغيرهما) ولكنّها مع توالي الأيّام صارت لا تقلُّ قدسيّة عند هؤلاء عن التّوراة عينها وأيّا يكن الأمر فهذه الروايات والأساطير تزعم أنّ إبراهيم نشأ على الدّيانة الوثنيّة ثمّ انتقل بجهدٍ شخصيٍّ منه إلى التّوحيد الإلهي التّام فعرف "يهوه" أو "الرّب" أو "الله" كما يعرفه أصحاب هذه الدّيانات اليوم ثمّ نقل هذه المعرفة بعد ذلك إلى رهطه فالبشر كافة وقد اصطفاه الرّب لهذه المهمة فكان "إبراهيم الخليل"(!)

ولكن من أين كان لهذه الرّوايات أن تنشأ وتزدهر لتصير عقيدة راسخة رسوخ الكلام المقدّس نفسه والجواب تقليديٌّ جدّا عَرضنا له غير مرّة على هذه الصّفحات ويكمن أحياناً في غموض النصوص الأصليّة أو الّثغرات التي تعتوِرُها وكذلك بُعْدِ ما ترويه زمنيّا عن واقع المفسرين الذين يمثلون بالنسبة إلى العامة آنذاك (وما زالوا إلى الآن في مجتمعات كثيرة) قمّة المعرفة الدّينيّة فلا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم ويكون كلامهم يقينا صِرفا فمثلاً جاء في النّص التّوراتي أن إبراهيم خرج وعشيرته من "أور الكلدانيين" و"أ.و.ر." جذر لغوي قديم في اللّغات السّاميّة ومنها العبرية والعربيّة بمعنى النار أو لهب النار أو إيقاد النار الخ ... فشطح بعض المفسرين بخيالهم إلى أنّ إبراهيم هرب من "نار" الكلدانيين خوفاً منه على إيمانه وعلى هديٍ من الرّب (يهوه) الذي أنقذه من نار نمرود وهكذا دواليك تترى الرّوايات وتتكاثر وتتغذّى من غموض النّص وشوائبه

ولكننا لو عدنا إلى ما يرد في النّص مجرّداً عن ترّهات المفسرين والشّارحين عبر العصور نرى أنّ الحكاية مختلفة تماماً فإبراهيم لم يكن قطّ على خلاف مع أبيه تارح سيّد العشيرة آنذاك وقد أطاعه هو ولوط ابن أخيه فخرجوا من "أور الكلدانيين" جميعاَ (باستثناء الابن الثاني ناحور الذي ربما أُبقيّ في المدينة تحرّزاً) بإشارة منه واستقرّوا في "حاران" ولا يذكر النّصّ سبباُ لقرار تارح هذا ولكنّي أرجّح أن الدّافع اقتصاديّ في المقام الأوّل فأور آنذاك كانت تعيش أوضاعاً صعبة سياسيّاً واقتصاديّا وأمنيّاً في حين أنّ حاران كانت محطّة كبرى للقوافل تقع على طريق تجاري مهم يربط بين بلاد الرّافدين والأناضول وبلاد الشام فمصر ويبدو أنّ الأحوال الاقتصادية لرهط تارح في هذا السّياق لم تكن على ما يرام في أور فقرّر الشّيخ الانتقال إلى حاران عساه يجد فيها ما يُحسّن به وضعه المعيشي ويبدو أنّ الشّيخ كان على حقّ في اختياره ويدعم هذه الفرضيّة نصّان من التّوراة الأول هو أنّ أبرام وساراي ولوطا عند خروجهم من حاران قاصدين أرض كنعان جمعوا كلّ مقتنياتهم التي اقتنوها والنفوس (يعني الإماء والعبيد) التي امتلكوها في حاران (تك 12/5) ويمموا شطر أرض كنعان مما يعني أنّ مقامهم في حاران قد عاد عليهم بالنفع العميم والنّصّ الثاني هو ما قاله بعد سنواتٍ خَلَتْ حميم إبراهيم أليعازر الدّمشقي للابان أخي رَفْقَة عندما جاء يخطبها من أخيها لإسحاق بن إبراهيم وذلك في محاولة منه لكسب موافقة لابان على الخطبة "الرّبّ قد بارك مولاي جدّاً فصار عظيماً وأعطاه غنماً وبقراً وفضّةً وذهباً وعبيداً وإماءً وجمالاً وحميرا" (تك 24/35) وهذا القول يدلّ على أنّ حال إبراهيم اليوم على نقيض ما كانت عليه بالأمس فقد كان مُعْسرا وعلى هذه الحال من العُسر عرفه ناحور وابنه لابان في أور والآن بعد سنوات الحل والتّرحال صار موسِرا وابنه إسحاق صار يليق برَفْفَة اخت لابان وحفيدة ناحور(!)

نعود إلى عهد إبراهيم مع (אֵל שַׁדַּי) (=إيل القدير أو كُلّي القدرة) فقد خرج إبراهيم إذاً من أور إلى حاران وكانت هاتان المدينتان مركزين كبيرين لعبادة الإله "سين" أي القمر ورمزه الهلال ويحتلُّ مكانةً وسطى بين الإله الأعلى والآلهة الأخرى المسؤولة عن تدبير شؤون الحياة اليوميّة وكانت أور المركز الرّئيس لعبادة "سين" منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد وفيها معبده الشّهير المسمّى "البيت العظيم للظلام الفاخر" كناية عن الليل الذي يضيئه القمر الفضّي وكان أحد أقدس المعابد في سومر أمّا في حاران فكان معبد "سين" يُسمى "البيت المُفرح" وفي هذا وذاك كهنة وكاهنات يراقبون منازل القمر والكواكب لحساب المواسم والأعياد ويقومون بما تقتضيه الخدمة المقدّسة من تقديم القرابين وإضاءة الشّموع وتلاوة التّراتيل وتقبّل النّذور وغير ذلك وفي دليل على مدى قدسيّة هذه المعابد تذكر النّقوش أنّ ابنة سرجون الأكادي تولّت بنفسها ذات يوم منصب الكاهنة الكبرى في معبد أور وتُظهِرُ التنقيبات الأثريّة أنّه في كلّ بيت تقريبا كان هناك مذبح صغير ل"سين" ليتمكّن أهل البيت من الصّلاة له طلباً للبركة والنّسل فالقمر كان مرتبطاً بالحمل والإنجاب بسبب دورته الشّهريّة التي كان يّعتقدُ أنّها تتحكّم في خصوبة النّساء وهذا يعني أنّ أبرام أو إبراهيم منذ طفولته في أور إلى شيخوخته في حاران وقد تركها في الخامسة والسّبعين من عمره (تك 12/4) كان ينهلُ من بيئة ضاربة الجذور في عبادة القمر أو الإله "سين" وما ارتبط بها من طقوس ومعتقدات خصوصاً في ما يتعلّق بأمر العقم والإنجاب ولا أدلّة أثريّة البتّة على أنّ الختان كان شعيرة أو من طقساً معمولاً به في هذه المعابد

خرج أبرام بعشيرته من حاران وقد بلغ من الِكِبَرِ عِتِيّا بلا ولد رغم زواجه من ساراي قبل عشرات السنين واصطحب معه لوطاً ابن أخيه يشدّ أزره في الملمّات ثمّ حطّا رحالهما معاً في أرض كنعان في شكيم أوّلاً ثمّ في بيت إيل ثانياً وأخيراً لجأ إبراهيم (مع ساراي طبعاً) وعبيده وجواريه إلى بلوّطات ممرا وحيداً بعدما تخلّى عنه ابن أخيه وذهب مع رهطه إلى سدوم فجاور عندها أبرام العموريين (أو الأموريين) وحالفهم ليعوّض حرمانه من الولد وفَقْدَه دعم ابن أخيه والعموريون قبائل بدويّة أساساً جاءت قديماً من شمال الجزيرة العربيّة وبادية الشّام واستقرّت في شمال أرض كنعان ثمّ هاجر بعضهم في ما بعد إلى بلاد الرافدين وكان يّشار إليهم في النّصوص السّومريّة باسم "شعوب بلاد الغرب" وكان الإله الرّئيس عندهم "إيل" أو "إيل العموري" أو "إيل شداي" (=إيل القدير أو كُلّي القدرة) فما هي طبيعة هذا الإله الكلّي القدرة على ما يراه العموريون حلفاء أبرام والكنعانيون عموماً فقد كانت عبادة هذا الإله منتشرة تقريباً في كلّ مدنهم وقراهم؟

وِفق ما تمدّنا به الأثريات والنّصوص الأوغاريتيّة خصوصاً فإنّ الإله "إيل" "جالس على العرش" يرأس مجمع الآلهة فهو "الإله الأعلى" بلا منازع (تصوير يقرب جداً من التّوحيد) وهو أبو الآلهة والبشر جميعاً فهو "الخالق" لكلّ شيء كما تقول هذه النّصوص إنّه "إله السّموات والأرض" ومن أسمائه أيضاً "إيل الرّحيم" و"إيل الحكيم" وغير ذلك وكان التّقرّب منه بغرض طلب البركة والرّزق والخصب فهو الخالق وكما جاء في بعض النّصوص هو الذي "يمنح البذرة في الرّحم" و"يهب الحياة" وكان الرّجال والنساء الذين يعانون من العقم يتوجهون بنذورهم وصلواتهم إلى "إيل الرّحيم" مباشرة دون المرور بالآلهة الوسطى المنغمسة في إدارة شؤون الحياة اليوميّة (في الفرنسيّة يقولون Mieux vaut s’adresser au bon Dieu qu’à ses saints) فهو "الإله الأعلى" الذى يلجأ الناسّ إليه في حالة العقم والرغبة في الإنجاب وقيل أنّه الشّيخ الجالس عند منابع الأنهار (مصدر الحياة) "يسمع دعاء النساء العقيمات" وقد وُجِد كثير من تماثيل النّساء الحوامل أو المرضعات من الفخار في الكثير من المناطق الكنعانيّة وكانت هذه المنمنمات تُقَدّمُ نذوراً رمزيّة ل"إيل الرّحيم" طلباً للحمل أو شكراً على الولادة ومن الأدعية التي تُتلى عند تقديم النذر طلباً للحمل "إيل الرّحيم يا أبا البشر افتح رحْمَ أَمَتِكَ (المرأة التي خلقتها) وارسل روح الحياة إلى بطنها كما أرسلت المياه إلى الأرض العطشى" وما تجدر الإشارة إليه هنا للأهميّة أنّ الإله "إيل" وهو "الإله الأعلى" أو "الأعظم" في أرض كنعان لم يكن معروفاً في بلاد الرّافدين ولم يكن هناك ما يقابله ويتماهى معه تماماّ في تلك البلاد فالصفات التي توحّدت فيه هنا كانت موزّعة على عدة آلهة كبيرة هناك من مثل أنو وإنليل وعشتار ودموزي ومردوخ وغيرهم

مكث إبراهيم ما يقرب من إحدى عشرة سنة في أرض كنعان قبل أن يقوم بتجربته مع هاجر وقبل أن يرى إسماعيل ابنها النّور وخالط إبّان ذلك جيرانه العموريين وغيرهم ممن يعبد "الإله الأعلى" ولا بدّ أنّ فُرصٌاً كثيرة قد واتته آنذاك للاطلاع على معتقداتٍ وطقوسٍ جديدة لم يكن على علم بها في أور وحاران الخاضعتين لإله القمر (سين) خصوصاً في ما تعلّق بالعقم والإنجاب ويبدو أنّ الواقع الجديد حمله على التحوّل شيئاً فشيئاً نحو "الإله الأعلى" (إيل عليون) أو "إيل القدير" (إيل شداي) أو "إيل الرّحيم" الذي يتوجّه إليه من يعاني العقم ويرغب في الإنجاب ولنا على ذلك قرينة دامغة نجدها في سلوكه وهو في طريق العودة من غزوة استنقاذ ابن أخيه لوط التي ذكرنا فنراه في سدوم يتقاسم الخبز والخمر المقدّسَين مع ملكي صادق كاهن "לְאֵל עֶלְיוֹן" (="إيل عليون" أو "الإله الأعلى") ويعطي لملكي صادق الكاهن "العُشرَ من كلّ شيء" مما غنمه ثمّ يرفع يديه إلى السّماء قائلاً "ها أنا رفعتُ يديّ إلى الرّب إيل عليون (الإله الأعلى) مالك السّموات والأرض" (= הֲרִמֹתִי יָדִי אֶליְהוָה אֵל עֶלְיוֹן, קֹנֵה שָׁמַיִם וָאָרֶץ) وكلمة "الرّب" الواردة في النّص هي الترجمة العربيّة لكلمة "يهوه" الواردة في النّص العبري ولا أظنّ أن هذه الكلمة أصليّة في القول المنسوب إلى أبرام ها هنا وإنّما قد أُضيفت بعد زمنٍ طويل من قِبلِ الرّاوي أو النّاقل أو جامع النّص ومُثْبِتُه كتابةً فأبرام لم يعرف قطّ إلهاً بهذا الاسم أي "يهوه" فكيف ينطق والحال هذه باسم إله لا عِلمَ له به والبيّنة على ذلك لا لُبس فيها ولا يمكن دفعها إنّها في الآيتين 2 و3 من الإصحاح السادس من سفر الخروج

וַיְדַבֵּר אֱלֹהִים, אֶלמֹשֶׁה- וַיֹּאמֶר אֵלָיו, אֲנִי יְהוָה
וָאֵרָא, אֶלאַבְרָהָם אֶליִצְחָק וְאֶליַעֲקֹב-בְּאֵל שַׁדָּי- וּשְׁמִי יְהוָה, לֹא נוֹדַעְתִּי לָהֶם
(= ثمّ قال إيلوهيم لموسى "أنا يهوه وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بأنيّ الإله القدير وأمّا باسمي يهوه فلم أُعْرَف عندهُم")

أَوَيَكْذِبُ يهوه على موسى في هذا (!) وهذا محال وعليه فمن أين لأبرام إذاً أن يذكر اسم "يهوه" وهو لا يعرفه (؟!) وعلى عادتهم في هكذا عقبات تاهَ المفسرون في تأويلات لاهوتيّة وإيمانيّة لن نعرض لها هنا بل نعود إلى النّص عينه الذي يذكر قرينة أخرى تبيّن مدى تقديس أبرام ل"إيل عليون" فقد قدّمَ "العُشرَ من كلّ شيء" مما غنمه لكاهن "إيل عليون" ومعبده (ولنّعُد بالذّاكرة إلى يعقوب فهو أيضاً كما رأينا على خّطى جدّه كان أصطفى لإيل الذي فَجَأَهُ في المنام العُشْرَ من كلّ ما يعطيه إياه الرّبّ إن حفظه في الطّريق وأعاده إلى بيت أبيه سالماً ـ تك/28 15 ـ 22) وكما هو معلوم فإنّ القرابين والتقدِمات المقدّسة لا تكون إلاّ لما نقدّسه أو نؤمن بقدسيّته بعيداً عن المعتقدات الذّاتيّة مما يعني أنّ أبرام هنا إمّا أنّه مُقَدِّسٌ ل"إيل عليون" لذاته أو أنّه يعترف بقدسيته وطبيعته إلهاً كلّيّ القدرة (إيل شداي) وكَمْ من مسلم نذر أمراً للسيّدة العذراء مثلاً أو مسيحيّ نذر لبعض أولياء المسلمين فهذا مما نشاهده في كلّ الثّقافات وفي كلا الحالين فإنّ مُجمل تصرّف أبرام هنا أي تناوله للوجبة المقدّسة مع كاهن "إيل عليون" ودفعه إليه العشر مما غنِمه ورفعه يديه بالدّعاء له والاستجارة به ينمّ عن "إيمانه" المباشر أو غير المباشر ب "إيل عليون" أو "إيل شداي" (وهذا يدعم ما قلناه سابقاً بأنّ الأنصاب التي أقامها أبرام في الأراضي التي حماها عند وصوله أرض كنعان لم تكن "مذابح للإله" كما تدّعي النّصوص وتأويلات المفسرين ف"يهوه" لم يعرفه قطّ و"إيل عليون" تعرّف إليه بعد أن أقام سنين بين ظهراني العموريين والكنعانيين وغيرهم في أرض كنعان)

تتوالى القرائن إذاً لتبيّن أنّ أبرام قد عاش تحوّلاً في معتقداته الدّينيّة على أرض كنعان مبتعداً بذلك رويداً رويدا عن آلهة بلاد الرّافدين باتجاه آلهة الأرض التي احتضنته وبالتحديد باتجاه "إيل" الإله الأوّل في هذه الثقافة الدّينيّة الإله الخالق "إيل شداي" "إيل عليون" "مالك السّموات والأرض" "إيل الرّحيم" الذي "يمنح البذرة في الرّحم" و "يسمع دعاء النساء العقيمات" وما هذا العهد المذكور في الإصحاح السّابع عشر إذاً إلاّ تجسيد لهذا التّحوّل وتكريس له في حُلّته النهائيّة النّسل مقابل الربوبيّة ولا شيء آخر البتّة فلا شرائع ولا فرائض ولا طقوس ولا صلوات محدّدة ولا أعياد شُكر للرّب ممّا سنراه لاحقاً مع "يهوه" ورَجُلِه موسى إنّ العهد هنا أساسه فقط النّسلُ (الشّغل الشّاغل لإبرام) مقابل الرّبوبيّة وزيدَ عليه "الختن" علامة وما هو غريبٌ في الأمر أنّ النّصّ لا يورِدُ أيّ تفصيل البتّة للشعائر والطقوس الواجبة يومياً أو موسميّاً لكي يّتّقرّبُ بها هؤلاء المختونون والأتباعُ الحديثي العهد مِن إلههم الجديد "إيل عليون" أو "إيل شداي" والأرجح أنّهم أخذوا بالشّعائر وبالطقوس ذاتها التي دَرّجَ عليها من كان يؤمن بهذا الإله مِن قَبْلِهِم ولا يميز الأتباع الجدد عن غيرهم إلاّ علامة في الجسم لا غير وهي ختان الذكور " يُختَنُ كلّ ذكر فتختنون في لحم غُرْلَتِكُمْ فيكون علامة عهدٍ بيني وبينكم" (ولا شيء يُذكر عن النّساء من ختانهنّ أو عدمه) وقد انصاع إبراهيم للتّو لأمر (إيل شداي) الرّبّ الجديد فختن ابنه إسماعيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة واختتن هو نفسه وهو ابن تسعٍ وتسعين سنة وجميع رهطه وعبيده وهذا يعني أنّ أبناء تارح الثّلاثة إبراهيم (وهو البكر) وناحور (الذي بقي في أور) وهاران (الذي مات قبل أبيه) وابنه لوط لم يكونوا مختونين ممن يدلُّ على أنّهم كانوا على معتقدات دّينيّة مختلفة لا تحتّم عليهم مثل هذا الطّقس الدّموي وأنّ إبراهيم قد حنث بها واتّبع آلهة أخرى

إنّ وسم الحلف أو العهد بين طرفين بالدّم (دماً بشريّاً أو حيوانيّاً) تقليد مغرِقٌ جدّا في القدم عند ما تُسمّى الشعوب السّاميّة وخصوصاً تلك التي قطنت المناطق الممتدّة من شمال سورية الحالية إلى عُمق جزيرة العرب أو تنقّلت فيها ونكاد ألاّ نعرف بالضبط كيف بدأ ومتى ولكن ما نعلمه بالتأكيد أنّه كان للدم عند هذه الجماعات قّدسيّة كُبرى فهو رمز الحياة وفراغ الدّم من الجسم يعني الموت لذلك قالت العرب عن الدّم النّفسُ السّائلة والعربيّة ما زالت تحمل إلى اليوم آثار هذه المعتقدات القديمة جدّا فالدّمُ والنّفسُ عندهم أمر واحد يقول الشّاعر السّموأل "تسيلُ على حدّ الظُّباتِ (=السيوف) نفوسُنا /وليستْ على غير الظُّبات تسيلُ" وقالوا ونقول نحن اليوم أيضاً عن "ولادة المرأة إذا وضعت النِّفاسُ فهي نُفساء" (لسان العرب / نفس) أي أهدرت دماً كثيرا وحياتها في خطر لذلك كان الدّم من أنفس ما ملكوا فأقسموا به وأشهدوه على عهودهم وأحلافهم والقسم لا يكون كما نعلم إلا بالمقدّس أو العزيز الغالي

والأمثلة التّاريخيّة على استعمال الدّم في العهود والأحلاف كثيرة فأقربها إلينا ربما حلف "لعقة الدّم" بين بعض بطون قريش ضد بعضها الآخر قبل حوالي 1500 سنة من الآن إذ غمسوا أيديهم في وعاء فيه دم ولعقوها أو شربوا من ذاك الدم المقدّسّ كما يُقال تثبيتاّ لحلفهم وتوثيقاً لعهدهم في ما بينهم ثمّ نرجع بالزمن إلى أبعد من ذلك إلى حوالي 500 قبل الميلاد لنستعيد مشهد الأعرابيين في الصحراء يتحالفان ويوثّقان حلفهما بالدم يسيل من كفيهما ورجلٌ ثالث بينهما وهو من جرحهما بحجرٍ مسنون ويُّشْهِدُ رجمةً (كومة من الأحجار موضوعة فوق بعضها البعض ـ الأنصاب) والآلهة على هذا العهد على ما يصفه لنا شاهد عيان وهو هيرودوت (النص أوردناه في الفصل الأوَل) وننتقل في الزمن إلى أبعد وأبعد من ذلك إلى النّقوش الأوغاريتيّة والكنعانيّة المقدّسة القديمة المنتشرة في بلاد الشام فنرى الإله الأعلى "إيل عليون" "في بيت إيل مع بني آدم يقطع عهداً معهم بالدّم" ومع ذلك فإنّ هذه النّقوش لا تذكر طقس الختان صراحةّ وإن كان الكثير منها يشير إلى "طقس الدّم" في المعبد أو في احتفال دينيّ عام خارج المعبد من دون الإفصاح عن مضمونه الفعلي لذلك لا يمكن الجزمَ بأنّه "الختان" (!)

إنّ الرّابط بين الحلف أو العهد والدّم إذاً رابط قويّ جداً يعود إلى ماضٍ بعيدٍ في هذه الأصقاع قبل العهد الإبراهيمي في التوراة بأزمان طويلة وما وَسْمُ هذا العهد بالدّم إلاّ على عادة القوم آنذاك وما جعل قربان الدّم هذا في موضعٍ محدّدٍ بالذّات من جسم الرّجل وهو عضوه الذّكري وهذا ما يُقال له بالعربيّة "الختن" أو "الختان" إلاّ ترداد لتقليد كان معمولاً به أيضاً وهو بذاته تجسيد لمعتقدات كانت منتشرة فالختان الإبراهيمي في هذا لا يحمل جديداّ فالتنقيبات الأثرية تقدّم الدّليل القاطع على أنّ الختان كان ممارساً لأغراضٍ شتّى في مصر القديمة فهناك نقوش تعود إلى حوالي 2400 قبل الميلاد تُظهر عمليات ختان لعدد من الرّجال البالغين وتعضد هذه النقوش نصوص على برديّات وهناك من القرائن ما يؤكد أنّ هذه الممارسات كانت منتشرة كذلك في النوبة وشرقي إفريقيا ولكن على العكس من ذلك فإنّ هذه العادة تبدو بعيدةً كلّ البعد عن تقاليد بلاد الرافدين وطقوسها الدّينيّة فلا أدلّة أثرية ولا نصوص البتة تشير صراحة إلى ذلك وقد خلت قوانين هذه البلاد من مثل قوانين حمورابي وغيرها من الإشارة إلى هذه العادة (وربما هذا ما يفسّر كون أبناء تارح الثّلاثة غلف غير مختونين) أمّا مناطق آسيا الغربية من الأناضول إلى جنوبي جزيرة العرب فإنّ الختان كان ممارساً فيها إجمالاً مع بعض الاستثناءات على ما يذكر هيرودوت (القرن الخامس قبل الميلاد) ويضيفُ أنّ قاطني هذه المناطق من فينيقيين وغيرهم "يُقرّون بأنّهم تعلموه من المصريين"

واختصاراً فإنّ الختان عند الجماعات التي عرفته ومارسته كان يتمُّ إجمالاً لأمرين وله في كلّ مرّة معنى مختلف عن الآخر تماماً
1)فهو إمّا "طقسُ بلوغٍ أو عبور" يُعلنُ فيه على الملأ في احتفال ديني عن بلوغ الصبيّ مرحلة الرّجولة (ما بين12 و14 سنة) ويكون الأمر عندها احتفاءّ مقدّساً بالقدرة الجديدة على الإخصاب والإنجاب واستمرار النّسل التي اكتسبتها الجماعة (بمَنٍّ من الآلهة وبركتها) وهذا بالطبع مصدر فرحٍ وسعادة للوالدين وللجماعة بأكملها في آنٍ معاً فيكون الختان وإسالة الدّم عندها على شرف الآلهة علامة شكرٍ لها وقرباناً رمزيّاً بقطع جزء غير ذي بال (إذ أنّ قطعه بمجمله يعني الموت المحتّم) من عضو الإخصاب المسؤول عن استمرار الحياة وتجدّدها وهذا يشبه بالطبع ما كان يُقدّم للآلهة من بكورة المواسم الزّراعيّة تزكيةً للمحاصيل بأكملها فهذه الآلهة خصوصاً آلهة الخصب والحياة في المجتمعات الزّراعيّة ( آلهة المياه والمطر والزرع والحياة عموماً) لا بُدّ وأن يعود إليها على هيئة شكر جزء مما أعطته للبشر وبالطبع فإنّ ما يُقدّم لها قرباناً هو العزيز الغالي أو ما هو من خيار ما يملك البشر (لنتذكّر مواصفات البقرة القربان في العهد القديم ـ العدد 19/ 2 ـ "صحيحة لا عيب فيها ولم يُعلَ عليها نير") والعزيز في هكذا مناسبة بالطبع هو عضو الإخصاب عند الرجل الحديث البلوغ فيقدّم بعضه لا كلّه قرباناً لآلهة الخصب التي كانت سبباً في وجوده
2)وإمّا "طقسُ نذرٍ وتكريسٍ للآلهة" كما يجري اليوم مثلاً عند وَقْفِ (تكريس) بعض الأشخاص في بعض الأديان حياتهم على خدمة المعابد أو الدّخول في الكهنوت ومعنى الختان هنا التطهُّر في حضرة الآلهة أو قبل الانقطاع إليها وذلك بالابتعاد عن الشهوات عن طريق "قَطْعٍ" رمزي للعضو الذي يشكّلُ مدخلاً لهذه الشّهوات (كالرّاهبات مثلاً في القرون الوسطى اللاتي كُنّ وِفق بعض الأديرة أو نُظُم الرّهبنة الخاصّة يقصصن شعورهنّ ويرتدين الملابس الفضفاضة وربّما شددنَ الأربطة واللفائف حول أثدائهنّ لإخفاء معالم أنوثتهنّ ففي هذه الحالة كما تلك قتل رمزي لمصدر الشّهوات) والانصراف بالكليّة بعد التّطهّر بالختان (في كثير من المجتمعات الإسلاميّة يُستعمل اليوم لفظ الطّهارة والتطّهير للإشارة إلى الختان) إلى الخدمة المقدّسة المنشودة

فختان البلوغ هو إذا قربانُ شكرٍ من الإنسان للآلهة على ما أعطته وختان النذر قربان طّهارةٍ للإنسان في تقرّبه من الآلهة وخدمته لها وفي كلا الحالين يحتفظ الإله بموقعه الأرفع والإنسان بموقعه الأدنى إنّها التّراتبيّة الحضَرِيّة التي على رأس هرمها الملك وفي قاعدتها الرّعيّة والبون بينهما شاسع وأمّا الختان الإبراهيمي فالأمر فيه على خلاف ذلك تماماً وهنا بعضُ جديدِه بالنّظر إلى ما سبق إنّه فقط علامةٌ عهدٍ تَساوَى فيه الطّرفان (إبراهيم وإيل شداي) تمام المساواة على غِرار الحلف بين الأعرابيين اللذين وصفهما لنا هيرودوت يقفان على قدم المساواة كل طرف منهما يقدّمُ ما يلزم لإتمام صفقةٍ يكون دمُ الختن فيها خَتْماً لها فهنا النّسل مقابل الرّبوبيّة أعطيك نسلاً وأكثِّرُك فتكونوا لي أتباعاً وأكون لكم إله ولتمييزكم من غيركم يكون الختن لكم علامة والعلامة ليست قرباناً للإله على ما رأينا في الختن سابقاً وإنّما هي وَسْمٌ فقط والوسمُ أثرُ الكيّ في الأنعام من إبل وغنم وغيره غرضُه تمييز القطعان من بعضها وربطها بمالكها تماماً كما يُمَيَّزُ المختونون من غيرهم من أتباع إيل شداي "مالك السّموات والأرض" و"أبو البشر" و"خالق كل شيء" ويُربَطون به فالعهد الإبراهيميّ هنا عهد بدويّ في أدقّ تفاصيله ولكنّ السؤال الآن لماذا اختار الرّب إيل شداي (أو إبراهيم وهو مَن صدّق بالرّؤيا وعَمِل بهاَ) أن يكون الختن تحديداَ وليس أي نوع آخر من القرابين المعروفة في تلك المجتمعات علامة عهده مع إبراهيم ونسله والمكان الذي ستسيل منه الدّماء المقدّسة التي سَتَسِمُ العهد إلى الأبد؟

تبيّنَ لنا أنّ الختان الإبراهيمي ليس قرباناً كما عرفته الثّقافات المجاورة لإبراهيم بل علامةُ عهدٍ فقط وهو مع ذلك علامةٌ مقدّسة وقدسيتها تنبع خصوصاً من كونها علامةُ عهدٍ مقدّسٍ لأنّ أحد طرفيه هو الإله نفسه "إيل شداي" وعليه فلا بدّ للعلامة هنا من أن تكون على مستوى القائمين على العهد وتحمل في ذاتها قيمة رمزيّة كبرى وعهدٌ عِماده الإنجاب والنّسل والإخصاب وأداة ذلك طبعاً عضو الذّكر لا بدّ وأن تكون علامته من عين ما انضوي عليه العهد أي علامة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً برمز الخصب البشري بلا منازع أي عضو الذّكر فكان الختان تلك العلامة وهو قطع جزء غير ذي بال من هذا العضو على نحوٍ لا يُفْقِدُه وظيفته الرّئيسة وهي الإخصاب وعليه فإنّ ما قد يفسّر هذا الاختيار (الختان/العلامة) مرتبط إذاً بطبيعة العهد نفسه وبالأهميّة الرّمزية العالية التي يتمتع بها عضو الذّكر في هذه الثقافات رمزيّة وصلت حدّ التّبجيل والقداسة وتشهد على ذلك الآثار والنقوش التي وصلتنا من جهة ونصّ من التّوراة نفسها من جهة أخرى

إنّ المعطيات الأثريّة التي يزودنا بها الباحثون في التّاريخ القديم للشرق الأدنى تُرَجّحُ أنّ الأعضاء الجنسيّة وخصوصاً عضو الذّكر الذي يظهر بوضوحٍ منتصباّ في كثيرٍ من النّقوش والجداريات والتّماثيل من الأناضول إلى مصر مروراً ببلاد ما بين النّهرين وأرض كنعان لم تُعبَدْ لذاتها وإنّما كانت تُقام لها الطّقوس والشّعائر لكونها مصدرَ الخصوبة واستمرار الحياة (ومن العلماء من يرى عكس ذلك لأنها تمثل قدرة الآلهة على الإخصاب) وأيّاً يكن الأمر فإنّ العضو التناسلي الذّكري كان يُعدُّ رمزاً للقدرة الإلهيّة على الإنجاب والإخصاب وتجدد الحياة وإنّ هذه القدرة موجودة ولكن بدرجة أقل عند الرّجل بفضل تدخّل الآلهة فالكون في هذه الثّقافات ذكر ٌ وأنثى وقوة الخلق في العضو الذّكري فكانت تُقام في المعابد والمواسم الزّراعيّة وحسب الفصول طقوس الزّواج المقدّس بين الآلهة وشعائر أخرى استخدمت فيها رموز قضيبيّة وكانت تُتلى في هذه المناسبات الصلوات وتقدّم القرابين لآلهة الخصب لترعى الزّراعة والقطعان فتزيد المحاصيل ويعمّ الخير وقد صُنِعَتْ لآلهة الخصب هذه تماثيل صغيرة يظهر فيها عضو الذكر منتصباً وكانت هذه المنمنمات تُستعمل للتّبرّك وجلب الخصب أو للوقاية والحماية من العين الشّريرة أو الحسد وغير ذلك فتُعلّق مثلاً في البيوت أو بعض الأماكن المختارة أو في الأعناق قلاّدات

وهكذا كان العضو الذكر في الثقافات القديمة السّابقة على إبراهيم واللاحقة عليه رمزا للخصوبة والقوة الذّكوريّة والقدرة الإلهية على الخلق والإنجاب فهو والحال هذه يكاد يرقى إلى درجة القداسة ولا بدّ أن إبراهيم كمعاصريه قد تأثّر بهذه المعتقدات فنراه في مشهد غريب (بالنسبة لنا نحن اليوم) يجسّد بفعلٍ منه هذه المعتقدات وهذا المشهد الغامض نراه في الإصحاح الرابع والعشرين من سِفر التّكوين (2+3+9) إذ جاء فيه "وقال إبراهيم لعبده كبير خدّام بيته المُوَلّى على جميع ما كان له فيه : ضع يدك تحت فخذي (שִׂיםנָא יָדְךָ, תַּחַת יְרֵכִי) فاستحلفك بالرّب (يهوه) إله السّماء وإله الأرض أن لا تأخذَ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الّذين أنا مقيم بينهم [...] فوضع العبد يده تحت فخذ مولاه إبراهيم وحلف له على ذلك (וַיָּשֶׂם הָעֶבֶד אֶתיָדוֹ, תַּחַת יֶרֶךְ אַבְרָהָם אֲדֹנָיו- וַיִּשָּׁבַע לוֹ, עַלהַדָּבָר הַזֶּה)" فماذا يعني ذلك؟

سياقُ النّص (الذي سنعود إليه أكثر تفصيلاً في الفصل الخامس) أنّ إبراهيم كَبُرَ وتقدّمَ في السّن وصار عاجزاً عن تحمل أعباء السّفر فطلب إلى حميمه مدبّر شؤونه (من المرجح أنّه أليعازر الدّمشقي نفسه) أن ينوب عنه في السّفر إلى "آرام النّهرين" مدينة أخيه ناحور لطلب زوجةٍ لابنه إسحاق واستحلفه بهذه الطريقة التي قد تبدو غريبة لأوّل وهلة وتقوم على "وضعُ اليدِ تحت الفخذ" والقسم على ذلك والموضع الذي طلب إبراهيم إلى مولاه أن يمسّه "تحت الفخذ" بغرض القسم عليه ما هو إلاّ عضوه التّناسلي أو كما جاء في شرح "الكتاب المقدّس"/دار المشرق "لمس الأعضاء الحيويّة (les parties vitales) لجعل القسم غير قابلٍ للنقض" (!!) فيكون قد أقسم ويده على العضو التّناسلي لسيّده بأنّه فاعل ما أُمِرَ به

وقد استُعمِلَ لفظ "الفخذ" في عدد من المواضع في العهد القديم كنايةً عن الأعضاء التناسليّة الذّكريّة منها مثلاً أنّ "جميع النّفوس التي أتت إلى مصر والخارجة من فخذ (יְרֵכוֹ) يعقوب [...]"(تك 46/26) "وأيضاً "جدعون الذي كان له سبعون ولداً خارجون من فخذه (יְרֵכוֹ) [...]"(قضاة 8/30) ولكنّ بعض الترجمات ومنها بالطّبع العربيّة ارتأت أن تستبدل اللفظ الأصلي المشحون بالمعاني العقائديّة والتّصورات الذّهنيّة للعصر التي يمكن أن تهدينا إلى الفهم الصّحيح للنصوص بكلمة "مهذّبة" برأي القيّمين على الأمور تطيح بالمعنى الأصليّ للنص فكانت "من صلبه" بدلاً "من فخذه"(!!)

إنّ هذه التّصورات الذّهنيّة والممارسات المرتبطة بها كانت متأصّلة في المخيال الجمعي ويبدو أنها استمرّت لقرون طويلة إذ بعد سنوات من قَسَمِ مولى إبراهيم على هذا النحو ها هو يعقوب وهو الحفيد الذي يقفو أثر الجدّ بعناية يقوم بالحركة عينها فيستحلف وهو في مصر على فِراش الموت ابنه يوسف بأن يَرجِعَ بجثّته إلى أرض كنعان يقول النّص "ولمّا دنا أجل إسرائيل (أي يعقوب) دعا ابنه يوسف وقال له : إن نلت حظوةً في عينيك فضع يدك تحت فخذي واصنع لي رحمةً ووفاء لا تدفني بمصر [...] قال (يوسف) سأفعل كما قلتَ فقال له اِحْلِفْ لي فحلَفَ له يوسف [...]"(تك 47 /29 ـ 31) ومن الجدير بالإشارة هنا أنّ مولى إبراهيم وحميمه كما يوسف ابن يعقوب لم يبديا إي تردّد في فعل ما طُلِبَ منهما للتّو فالقسم على عضو الذّكر رمز الخصوبة كان بالنسبة لهما على ما يبدو أمراً طبيعيّا ومن العادات والتّقاليد المألوفة آنذاك في هذه الثّقافات

إنّ وضع اليد على شيء ما بغرض الحلف أو القسم كما نراه مثلاً مع رؤساء الولايات المتحدة الأميركيّة وهم يؤدون القسم الرّسمي ويدهم اليمنى على الكتاب المقدّس يعني بما لا يدع مجالاً للشك أنّ هذا "الشيء" مقدّس أو أنّه على أقلّ تقدير غالٍ وعزيز عند من يُقسمُ عليه إلى درجة تقْرُب من القداسة ومن هنا فإنّ العضو الذّكر الذي يلمسه حميم إبراهيم أو يوسف بن يعقوب ويقسمان عليه هو بالنسبة لهذه الثقافة مقدّس أو على درجة عاليةٍ من التّقدير والإجلال تقرُب من القداسة ولذلك تراه الموضع المثالي في جسم الرّجل لتسيل منه الدّماء المقدّسة (الختان) ليجسّد بذلك علامة "عهد مقدّس" مع "إيل شداي" مضمونه الأوّل والرّئيس الخصب والإنجاب فإبراهيم وِفق النّص التّوراتي لم يكن يطلب ارضا ولكنه كان يطلب ولدا والوعد بالأرض ما جاء إلاّ عرضاً

نوجز الآن بأسطر قليلة ما تقدّم فنقول (وِفقاً للرواية التّوراتيّة) خرج أبرام أو إبراهيم من أور على إشارة من أبيه إلى حاران بمعيّة العشيرة وهو على دين آبائه ثمّ ترك حاران إلى أرض كنعان وهو ابن خمسٍ وسبعين سنة من دون ولد بعد عشرات السّنين من زواجه من ساراي وقد تقادمت عليها السّنون وانعدمت أو كادت فُرصُ حَمْلِها وقد اصطحب معه لوطاّ ابن أخيه يعضُدُه في مجتمعٍ قبليّ "مَنْ عزّ فيه بزّ" أي غلبَ والعزّة لا تكون هنا إلاّ بالأبناء والعدد ولا أبناء لديه يرثونه وتكون له العزّة بهم فثار معاتباّ ربّاً توّسّم فيه الخير عَرَفه في أرض كنعان "ماذا تعطيني وأنا ماضٍ عقيماً (!؟)" فهَدّأ الرّب الجديد من روعه ووعده بما يشتهي ثمّ جاءه بعد ذلك بعهدٍ كما لو أنّ الأمر حِلفٌ بين أعرابيين لك الولد كما تُحبّ وأكون لكم إلهاً ويكون الختان بيننا علامة أبديّة في نسلك و "من نكث منكم بعهدي" يُباد فقبل إبراهيم العهد واختتن للتّو وختن كلّ من معه من الذّكور ولقد أفردت التّوراة لهذا الفصل من سيرة إبراهيم وشجونه في ما خصّ التوق إلى الإنجاب والرغبة بالولد إصحاحين كاملين (الخامس عشر والسّابع عشر أي ما يقرب من خمسين آية) وفي هذا دليل على عمق أزمة إبراهيم النّفسيّة ودورها في تشكّل معتقداته الدّينيّة وتصوّراته الذّهنيّة الجديدة بعيداً عن بلاد الرافدين تلك المعتقدات والتّصورات التي أورثها أبناءَه وقد لمسنا بعضاً منها عند حفيده يعقوب كما رأينا وهكذا برّ "إيل شداي" بعهده وكَثُرَ أبناء إبراهيم من هاجر إلى سارة فقطّورة فالمحظيات اللائي تسرّى بهن فعظُمَ شأنه إلى أن "أسلم الروح ومات بشيبة صالحة شيخاً وشبعان أيّاماً [...]"(تك 25/8) فقد أعطاه الرّب ما اشتهى فكان له وَرَثَةٌ وزّع عليهم ما ملك فكيف كان ذلك؟

***الوَرَثَة وحقّ البكورة

كانت نُظُم المواريث في المجتمعات الحضريّة في الشرق الأدنى القديم من بلاد الرافدين إلى مصر مثبتة في قوانين وعقود مكتوبة (أقدمها تعود إلى أكثر من 2000 قبل الميلاد) يسهر على تنفيذها سلطة مركزيّة ويتولى نظام قضائي حلّ الخلافات النّاشئة وكانت الوصيّة تلعب دوراً كبيراً في هذه النّظم التي كان عِمادها الاقتصادي مبدأ الملكيّة الفرديّة وليس الملكيّة الجماعيّة أو شبه الجماعيّة التي تميّز المجتمع البدوي على ما سنرى لاحقاً

ففي مصر القديمة مثلاً على ما جاء في البرديّات والنّقوش كانت التّركة (من أموال ومواشٍ وعقارات وعبيد) تُقسّم بالتساوي بين الإناث والّذكور إلاّ في حالات خاصّة وكانت المرأة ترثُ وتورِّث والأرملة كان لها الحق في جزء من التّركة وكان لها حقّ التّصرّف في أملاكها أمّا في بلاد الرافدين فالطّابع البدوي كان مازال حاضراً في القوانين والشّرائع المعمول بها وخصوصاً قانون حمورابي (يعود إلى حوالي 1750 قبل الميلاد ويتألّف من حوالي 300 مادة) وحمورابي ينتمي إلى قبائل العموريين والعموريون بدوٌ أتوا من بادية الشّام وشمال جزيرة العرب وقد استقرّ بعضهم تدريجيّا في شمال سوريا وبلاد الرّافدين وأسسوا ممالك عِدّة (ماري وبابل مثلاُ) وبقي بعضهم على حياة البداوة في مناطق أخرى وقد أدخلت هذه الشّرائع رغم تأثّرها بالقِيّم المجتمعيّة البدويّة بعض التّحسّن لصالح الإناث والصّغار وباقي الورثة فكانت التّركة تقسّم على جميع الذّكور من الزّوجات الشّرعيّات وإن بقي هناك تمييز خاص للابن البكر الذي ينال حصّة إضافيّة ويرث "البيت الأبوي" وأُتيح للبنات أن يرثنَ ولكن في حالة انعدام الذّكور كما كان للأرملة نصيب يضمن لها النّفقة والسّكن وغير ذلك

ونُوجز فنقول إنّ نقاط تشابهٍ عديدة وُجِدت بين هذه القوانين الحضريّة في مصر وبلاد الرّافدين ومنها أنّ كلَّ أفراد الأسرة (أي الأولاد الشّرعيون أو المعترف بهم) من الذّكور والإناث والأرملة كان لهم نصيب من التّركة ولكن بشروط محدّدة وعلى نِسَبٍ متفاوتة فالابن البكر كانت عليه مسؤوليات اجتماعية ودينيّة فهو أصبح "كبير العيلة" بعد وفاة الأب لذلك كان نصيبه من الميراث يفوق نصيب إخوته وقد يكون مضاعفاً ولكنّه لا يلغيهم (أو يلغي حقّ الأخوات في مصر القديمة فكان للبنات نصيب من التركة وربما تساوين في ذلك مع إخوتهنّ الذّكور أحياناً) وكان للزوجةِ أيضاً حقٌّ في ما ترك زوجها مع حرّية التّصرّف كاملةً في حصّتها وحقّها في الاحتفاظ بمهرها حتّى الأطفال القُصّر من بنين وبنات كان لهم نصيب في التّركة وكانت هناك تدابير لحماية حقوقهم منها تعيين وصِيّ على أموالهم بشروط محدّدة ويُسْألُ الوصيّ أمام القانون عن حُسن إدارته وقد يُعهدُ إلى الأمِّ بأمر إدارة أموال أولادها أمّا أولاد الإماء والجواري فلم يكن لهم الحقّ في الميراث ما لم يكن المتوفي قد اعترف بأبوته لهم أو ترك وصيّة في هذا الشّأن

ولو نظرنا إلى ما فعله إبراهيم بشأن تركتِه لوجدناه يختلف كلّ الاختلاف عمّا سبق وأوردناه حتى الآن بصّدد المجتمعات الحضّريّة المجاورة له فهو قد أنجب من البنين ثمانية أعلمتنا التّوراة بأسمائهم إسماعيل (من الجارية المصرية هاجر) وهو بكره البيولوجي وإسحق (من سارة وهي أخته غير الشّقيقة أي من عشيرته) وإبراهيم يراه بِكْره الحقيقي وستة ( أسماؤهم معروفة وهم من قطورة زوجته الثّالثة بعد سارة وقطّورة لا يُعرف عن نسبها شيء ولكن من المرجّح أنّها تنتمي إلى واحدةٍ من القبائل العربيّة التي كانت منتشرة في جنوبيّ فلسطين ويزعم المفسرون أنّه من أبنائها انحدرت الأمم التي قطنت تلك المناطق في ما بعد من مثل الدّادانيين وأهل مَدْيَن (وهم قوم شعيب أو يثرو الذي نزل عليه موسى لمدّة أربعين سنة) وآخرون من "أبناء السّراري" لم تذكر التّوراة أسماءهم أو عددهم فلمّا أحسّ إبراهيم بقُرب الأجل "أعطى إسحاق كلّ ما كان له وأمّا أبناء السّراري أي المحظيات اللواتي كُنّ لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحاق ابنه (יִצְחָק בְּנוֹ) شرقاً إلى أرض المشرق وهو بعدُ حيّ"(تك 25/ 5 ـ 6) وهذا هو النّص الوحيد في التّوراة الذي يتطرّق إلى هذا الموضوع في ما خصّ إبراهيم ويستدعي الملاحظات التّالية
1)وزّع إبراهيم تركته وهو بعد حيّ
2)أعطى كل ما يملك لإسحاق
3)أبناء السّراري أو المحظيات (ولا عِلم لنا بعددهم) أعطاهم عطايا من غير تحديدٍ لطبيعة هذه "العطايا" ولربما كانت كما نقول اليوم من نوع "جوائز ترضية" وصرفهم أي أبعدهم إلى أرض المشّرق بعيداً عن إسحاق
4)لم يرد ذكر أولاد قطورة وهي زوجة (אִשָּׁה) وليست محظيّة أو سريّة (الجمع הַפִּילַגְשִׁים) حسب التّوراة بين من نال شيئاً من التّركة أو "العطايا"
5)كذلك لم يرد ذكر لإسماعيل لا إلى جانب إسحاق ولا مع "أبناء السّراري"
6)خصّ النّصّ هنا فقط إسحاق بنعت "ابنه"

وكما درجت العادة ذهب المفسرون في تأويلاتهم اللاهوتيّة والتوحيديّة كلّ مذهب فاستنجدوا بنصوصٍ أخرى في التّوراة لا علاقة لها البتّة بموضوع الإرث اقتطعوها من سياقها النّصّي ليُبرّروا مزاعمهم فقالوا مثلاً بالبركة الإلهيّة التي حطّت على إسماعيل وهي خير من المال والميراث وبأنّ أولاد قطّورة نالوا شرفاّ عظيماّ بأنّ كانوا أجداداً لأمم وشعوب كثيرة وما إلى ذلك ولكنّ العودة إلى السّياق التاريخي للرواية التّوراتيّة والثّقافة البدويّة التي ينتمي إليها إبراهيم قد تساعدانا على سّبْرِ المبادئ التي كانت وراء هذا التوزيع الإبراهيمي على هذا النحو لتركته وهو بعد حيّ

على نقيض المجتمعات الحضريّة التي كانت أنظمة المواريث فيها قائمة على مبدأ الملكية الفرديّة التي تحميها سلطة مركزيّة وقضاء فإنّ أعراف الإرث وتقاليده في المجتمعات البدويّة (الرّحل أو شبه الرّحل) كانت تستند إلى مبدأ الملكيّة الجماعيّة أو شبه الجماعية مع الحفاظ على ثروة القبيلة داخلها (وهي غالباً من قطعان الإبل والغنم والماعز والمراعي والحِمى والآبار والعيون) وسلامة القبيلة بعدد رجالها وتحالفاتها وكلّ هذا مختَصَرٌ في مبدأ العصبيّة القبليّة وهي ليست انتماءً آنيّاّ ينتهي بعد وقت ما بل انتماء إلى جماعةٍ معيّنة أي القبيلة (يوازي ما نعرفه اليوم بالانتماء الوطني) مستمرّ منذ أزمان سحيقة عبر الأنساب (وحدة الدّم) والأجيال (العادات والتّقاليد) والفخر والهجاء في الشّعر والأمثال ينالان من الحاضر والماضي الذي يعود إلى قرون على حدٍ سواء والحامل لهذه العصبيّة القبليّة هم الرّجال دون النّساء فكان الإرث يذهب غالباً أو قدراً كبيراً منه إلى الابن البكر لِعِظَمِ مسؤولياته في العشيرة واليسير إلى إخوته الشّرعيين (صِلة الدّم) وإذا "لم يكن للمتوفي من الذّكور من يرثه ولا أب صُرِفَ إرثه إلى إخوته أو عَصَبته إن لم يكن له إخوة ولا يُدْفَعُ إلى الأخوات [...] والعَصَبَة هم الذين يرثون الرّجل عن كلالة من غير والدٍ ولا ولد" فهم الأقارب الذّكور البعيدون من جهة الأب وهذا معنى قولهم من لم يكن من النّسب لحاً (أي قريب) فهو كلالة (أي بعيد) (لسان العرب/ عصب) وعليه فإنّ الورثة في التّراتبيّة هم على النحو التالي الأولاد الذّكور أوّلاً وأخّصُّهم البِكر (دون الصغار والبنات) فالأب فالإخوة (دون الأخوات) فالعَصَبة (وهم الذّكور الأبعدون = أولاد عمّ كلالة من جهة الأب دون الإناث)" إضافة إلى الحميم كما مرّ معنا سابقاً

فالغالب إذاّ في المجتمعات البدويّة أنّ الورثة الأصليون هم الذّكور أبناء الحرائر وعلى رأسهم الابن البكر الذي غالباً ما تؤول إليه رياسة العشيرة أو القبيلة أمّا البنات والنّساء فلا شيء يُذكرُ لهنّ بل ولربّما كانت المرأة في بعض الأحيان جزءاً من التّركة ذاتها (كما رأينا في ما سبق وزواج المقت شاهد) أمّا ابن الجارية أو الأمة أو السّرية فيُقْصى تماماً عن الميراث وقد يرثُ في بعض الأحيان شيئاً إذا اعترف به الأب ولكنّه يُنْظَرُ إليه دائماً على أنّه أدنى منزلة من أخيه ابن الحرّة (ولنا في حكاية عنترة مثلٌ رغم طابعها الأسطوري) ويروي الأصمعي "أن بعض القبائل لا تورّث ابن الأمة شيئاً حتى وإن اعترف به الأب" وقيل أنّ "ابن الحرّة يرث السّيف والفَرَس (كناية عن الرّياسة) وابن الأمة يرث العصا (كناية عن مهنة الحِلاب والصّرّ كما قال عنترة أي الرّعي)" لذلك قالوا "ابن الأمة لا يسود الحيّ"

إنّ إبراهيم في توزيعه لتركته على نحو ما رأينا يُطابق الأعراف البدويّة بحذافيرها فهو قد أعطى ابنه من الحرّة "كلّ ما له" وهو يعتبره بِكْرَهُ اجتماعيّاً وعُرفيّاً وهو الوحيد الذي حاز على نعت "ابنه" في هذا النّص وأقصى ابن الجارية هاجر إسماعيل بالكليّة وهو بِكره البيولوجي وإن كان اعترف به ابناً وقد طالعنا منذ قليل قول الأصمعي "أن بعض القبائل لا تورّث ابن الأمة شيئاً حتى وإن اعترف به الأب" وقد كانت سارة تعي ذلك تماماً فهي حين لمحت " ابن هاجر المصريّة الذي ولدته لإبراهيم يمزح مع ابنها قالت لإبراهيم أُطرد هذه الجارية وابنها لأنّ ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق" (تك 21/9 ـ 10) فامتثل حينها إبراهيم للطلب فكانت "الوليمة العظيمة التي صنعها إبراهيم يوم فطام إسحاق" شؤماً على إسماعيل وأمّه ثمّ أعطى أبناء السّراري "أُعطيات" وصرفهم ومن المرجّح جدّاً أنّ أولاد قطورة وهم لم يُذكروا في النّص قد عُومِلوا معاملة أبناء المحظيّات رغم أنّ أمّهم زوجة شرعيّة لإبراهيم والسبب في ذلك عندي هو أنّ أمهم أجنبيّة (وسوف نعود قي الفصل الخامس إلى مسألة الزّواج من أجنبيات عند إبراهيم وفي التّوراة عموماً) فهي وإن لم تكن جارية إلاّ أنّ أولادها غير خالصي النّسب كما هو حال إسحق أمّا البنات والنّساء (ومنهم قطورة نفسها والسّراري اللاتي أنجبن لإبراهيم) فلا ذِكر لهن البتة في هذا المقام (ولهذا أغفلت التّوراة في نصّ سابق ذكرهنّ مع أسماء الذّكور من قطورة) فالقسمة الإبراهيميّة للإرث هنا هي قسمةٌ بدويّةٌ بامتياز تبيّن مدى تقفّي إبراهيم أثر الأعراف والتّقاليد القبليّة البدويّة ولا عجب في ذلك فهو البدوي شبه الرّحل المجاور للعموريين وحليفهم وكان عِمادُ نظامهم الاجتماعي القبيلة والعصبيّة القبليّة وهي لديهم أقوى من ولائهم لأيّ سلطة سياسية أخرى ونظامهم الاقتصادي قائم أساساً على الملكيّة الجماعيّة فالأعراف في ما خصّ الإرث عندهم تهدف أساساً إلى حفظ وحدة القبيلة واقتصادها واستمرارها في الوجود عن طريق الذّكور الشّرعيين وخصوصاً الولد البكر ويبدو أنّ حق البكورة بقي حجر الزّاوية في نظام الإرث الإبراهيمي (حكاية الصّراع بين عيصو ويعقوب وتنازل الأوّل عن حق البكورة مقابل طبق العدس) إلى أن هبّت رياح التّغيير الحضريّة من مصر القديمة واستبدلته بقانون الأسباط المتساوين وفُتِحَ البابُ للبنات كي يَرِثْنَ في حالات معيّنة وهذا موضوع آخر لن نطرقه فهو بعيد عن موضوع إبراهيم



ملحوظتان
1)الفصل القادم هو الثالث بعنوان الضيافة العربيّة
2) نظراً لطول هذا الجزء من الفصل الثاني فقد أرجأت الرّدّ على التعليقات إلى المرّة القادمة


كمال محمود الطّيارة ـ ليون ـ فرنسا ـ 1/11/25



#كمال_محمود_الطيارة (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سير ...
- أيكون إبراهيم عربياً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سيرة ...
- أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سير ...
- أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سير ...
- أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سير ...
- -شاهد ما شفش حاجة- أو شرُّ البليّة ما يُضحِكُ (موتُ النّخْوَ ...
- من إسلام الضّرورة ‘لى إسلام البزنس (تدنيس المقدّسفي المخيال ...


المزيد.....




- مسؤول ايراني تعليقا على مذابح السودان: اميركا وإسرائيل تسعيا ...
- ترامب يهدد نيجيريا بعمل عسكري وقطع المساعدات بسبب -قتل المسي ...
- ترامب يهدد بتدخل عسكري في نيجيريا بسبب -اضطهاد المسيحيين-
- مقاطع مفبركة عن -الفاشر-.. الإخوان في قبضة -كاشفي التضليل-
- ضاحي خلفان: لو استمر الإخوان في حكم مصر لما تم افتتاح المتحف ...
- الفياض: فتوى المرجعية الدينية أسقطت مخطط تفتيت العراق
- قوة دولية -إسلامية- محتملة بغزة والأردن وألمانيا يشترطان
- صحف عالمية: قوة إسلامية لسلام غزة والاغتيال السياسي ممكن بإس ...
- ترامب: -المسيحيون في نيجيريا يواجهون تهديداً وجوديّاً وسننقذ ...
- ديانة زوجة نائب رئيس أمريكا وعدم اعتناقها المسيحية يشعل ضجة ...


المزيد.....

- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال محمود الطيارة - أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سيرة إبراهيم التّوراتيّة) (3) الفصل الثّاني (جزء 2/2) الإرثُ والبَنونُ والحميم