أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - سلفيون … ولاهون… وبينهما متحف!














المزيد.....

سلفيون … ولاهون… وبينهما متحف!


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 10:53
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


هناك لحظاتٌ في عمر الأمم تشتعلُ فيها الذاكرة فجأةً، كما لو أن شعبًا بأكمله يتأمل مرآته الأولى بعد قرون من الغبار. موكب المومياوات الملكية؛ كان واحدة من تلك اللحظات الفارقة؛ الليلة التي وقف فيها العالم إجلالاً لتاريخنا العظيم، ليشهد مصرَ وهي تستعيد شأنها الرمزي، بلدًا لا يشير إلى التاريخ بإصبعه، بل هو التاريخ ذاته. واكتملت اللحظةُ مع افتتاح "المتحف المصري الكبير"، وكأن وعيًا جديدًا أخذ يتشكّل: احترامُ الأثر، اعتزازٌ بالهوية، وإدراك أن ما تحت أقدامنا ليس ترابًا، بل طبقات من الزمن وحكايا خلّدها أجدادٌ عظام.
المتحف الكبير ليس صرحًا يضمُّ شطرًا من تاريخ هذا الجد، بل كتابًا ضخمًا يحكي أقدم روايات الإنسان. ومع توافد عشرات الآلاف من الزوار خلال أيام، تأكد لنا أن الوعي بتاريخنا يتزايد في متوالية هندسية متسارعة ومُبهرة. هذا الوعي كنزٌ آخر تضيفه مصرُ إلى كنوزها. لكن لوحة الوعي، على جمالها، لم تخلُ من صدوع صغيرة كشفت أن الطريق نحو استعادة كامل الوعي الحضاري، ما زال طويلاً.
رجل يدخل المتحف ليتلو القرآن الكريم ويلعن الفراعنة. وآخر يقول إن زيارة المتحف حرامٌ، بينما يوثّق فتواه في فيديو على "هاتفه" الذي يلعن صنّاعه بوصفهم "كفّارًا"؛ وكأنه يعادي "التاريخ" و"الحداثة" في آن، في فقرة تناقُض كوميدي بائس. وفتاة تمد يدها لتضع أحمر الشفاة على شفاة تمثال، كما لو أن الحجر الخالد، مثلها، يحتاج لمسة تجميل ليصبح "صالحًا للكاميرا”! تلك التصرفات الهزلية ليست طرائفَ للتندّر؛ بل علاماتُ نقص خطير في الوعي: الثقافي والديني والجمالي. علامات تشي بأن جزءًا من المجتمع لم يستوعب بعد معنى أن تكون ابنًا لحضارة بهذا العمق والعراقة والخلود والثراء. فالوعي ليس فورة فخر بصور المومياوات، بل فهمٌ حقيقي لطبيعة الأثر، ومكانته في مدونة الرحلة الإنسانية.
ولم تكن هذه أول مواجهة بين الجهل والحضارة. فمنذ قرون غابرة ظهر رجل متطرف اسمه "محمد صائم الدهر"، مشى يجرّ معوله نحو تمثال "أبو الهول"، يروم هدمه، فلم يفلح إلا في كسر جزء من الأنف. فغدا الأنفُ المشطورُ رمزًا لحماقة بشر يواجهون التاريخ بمعول لا بفخر. وفي زمن الإخوان البائس، خرج دعيٌّ سلفي اسمه "عبد المنعم الشحات" مطالبًا بهدم الآثار المصرية، أو تغطيتها بالشمع، انتظارًا لزمن "التمكين" الذي يسمح لهم بهدم إرثنا الحضاري كله! بكل مرارة يشهد التاريخُ أن الحضارة المصرية لم تُهاجم من خارجها، بقدر ما نُخرت من داخلها، على يد بعض أبنائها الذين لم يدركوا قيمتها.
في سبعينيات القرن الماضي، حدثت مفاوضات بين مصر وألمانيا من أجل "استعارة" رأس نفرتيتي من "متحف برلين"، لكن الرئيس الألماني اعتذر قائلا: “نخشى إن أعدناها، ألا يوافق المصريون على رجوعها إلينا.” تلك العبارة الدبلوماسية الجميلة تحمل إيمانَ الألمان بأننا شعبٌ مثقف يعرف قيمة كنوزه ويودُ استعادتها.
ما نحتاجه اليوم ليس الاحتفاء بالمتحف الكبير، بل تحويله إلى مدرسةٍ للوعي. أن ندرك أنه ليس مكانًا لالتقاط الصور، بل محرابٌ مُهابٌ لالتقاط المعنى. معنى أن التماثيل ليست أصنامًا، ولا ديكورًا، بل وثائقُ عزيزةٌ عنّا نحن المصريين. وأن الحضارة المصرية ليست ورقة في كتاب التاريخ، بل بنيةٌ ذهنية تشكّل وعينا كأمة. الوعي الحضاري ليس فورة تشتعل وتنطفئ، بل بنية تحتية راسخة تُبنى بالتعليم، والاحترام، والتجربة، والقدرة على رؤية الماضي كعمود فقري للشخصية المصرية يصلب عودَه ويرفع هامته معتزًّا بإرثه الذي منه يغار العالم.
المتحف الكبير لا يُختصر في حفل افتتاح مهيب؛ بل هو عهدٌ وميثاقٌ بأن نرفع مستوى وعينا إلى مستوى تاريخنا. وما بين سلفيين غافلين يرهبون التماثيل، ولاهين يعبثون بها، هناك ملايين المصريين الذين يدركون أن الحضارة لا تُحمى بالتشديد الأمني وتغليظ العقوبة على المخربين وحسب، بل بتكريس الوعي العميق بثرواتنا التي يفخر بها العالم. فالوعيُ هو الحارسُ الأول للإرث العظيم، وهو الذي يجعل المصري ينظر إلى آثاره لا كأشياء من الماضي، بل كجزءٍ أصيل من حاضره ومستقبله.
المتحف الكبير ليس صرحًا عظيمًا يضم تماثيل حضارتنا، بل هو امتحان معرفي ووطني، يتساءل: هل نحن بالفعل أبناء تلك الحضارة الخالدة، أم ورثة عثروا عليها بالمصادفة؟ هل ندرك أن الآثار ليست حجارة، بل تاريخٌ وعلمٌ وفلسفة وجمال، لا يصحُّ تركها فريسة بين فكيّ سلفيّ متشدد يُشهِّر بها على منبره، ولاهية تعتبرها زينة على رفّ. وبين أولئك وهؤلاء يقف المتحفُ صامتًا وشامخًا يحاول أن يشرح يذكّرنا بأنه قلب مصر النابض، وأهم مشروع ثقافي في القرن الواحد والعشرين، يعلّمنا أن نرى في كل تمثال درسًا، وفي كل بردية مرآة، وفي كل حجر بابًا نحو ماضينا.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفارسةُ … -يسرا-
- على أبواب المتحف… كلُّنا مصر
- مصرُ… التي من أجلها تُشرقُ الشمسُ
- توقيع -فاروق حسني-... على جدارية التاريخ
- التوحُّد… ثمارٌ وراءها ألمٌ
- -ولنا في الخيال حبٌّ-… السينما في أَوْجِها
- -الجونة- … وطنُ الجمال والفن
- أكتوبر … فصلُ الأمجاد المصرية
- حين تتكلم مصرُ... تصمتُ المدافع
- وجهُ مصرَ في اليونسكو
- لعبةُ الحَبَّار
- الإنسان… جسرٌ أم بحر؟
- هندسة عين شمس … العظيمة
- -أولاد- الدكتورة -سهير-
- -زهرة النار-… الحلمُ يخفقُ في الرماد
- -القمة-: -غزّة- امتحانُ الضمير العالمي
- اليوم العالمي للقانون… العدلُ ماءُ الحياة
- سبتمبر … شهر أمي
- الأخلاقُ والمحبة والتجديد… ثلاثيةُ الرسالة في خطبة الوزير
- زجاجُ سيارتي المصدوع… والفلاسفة


المزيد.....




- بابا الفاتيكان عن معاملة أمريكا للمهاجرين: -غير محترمة.. وهن ...
- تكساس تصنف الإخوان المسلمين و كير -كيانات إرهابية-
- هل طالب مسلمون باعتماد العربية لغة رسمية في نيويورك بعد فوز ...
- تكساس تدرج الإخوان ومنظمة أخرى على قائمة الإرهاب
- -الجماعة الإسلامية في لبنان- تدين العدوان الاسرائيلي على عين ...
- الولايات المتحدة: تكساس تدرج الإخوان المسلمين و-كير- في قائم ...
- الأردن يدين محاولات إسرائيليين تدنيس المسجد الأقصى بقرابين
- استطلاع يكشف تنامي أفكار الإخوان بين مسلمي فرنسا
- تعديل الصكوك الإسلامية معركة بين الالتزام الشرعي ومتطلبات ال ...
- عدسة الأناضول ترصد محاولة مستوطنين اقتحام المسجد الأقصى


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - سلفيون … ولاهون… وبينهما متحف!