|
|
عبد الحسين سلمان عاتي والإبادة الجماعية لمصادر التاريخ (4)
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 8530 - 2025 / 11 / 18 - 20:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
التاريخ الحقيقي والتاريخ "السرّي" الزائف من المعرف أن التاريخ هو ميدان العلم المتخصص بالبحث الأكاديمي والفهم لمنهجي (systematic) للأحداث التي وقعت للبشر بالفعل، وذلك باستخدام الأدلة القائمة، مثل: السجلات المكتوبة والتحف والتقاليد الشفوية لشرح وتفسير أهمية تلك الأحداث وأسبابها بغية فهم سيرورة التغيير عبر الزمن، وكيفية تأثير الوقائع التاريخية على الحاضر والمستقبل. ومن المعلوم أيضاً أن فهم ووصف وتفسير الحقائق التاريخية هي عملية إعادة البناء للماضي المؤسسة على الأدلة المتمثلة بالمصادر المتوفرة. بدون وجود المصادر التي توثق أي سردية تاريخية كانت، لا توجد حقائق تاريخية، ولا يوجد بحث تاريخي أساساً عن تلك السردية. على سبيل المثال: قبل قرن ونصف من الزمان لم تكن البشرية تعرف أي شيء عن أمجد حضارة انجبها تاريخها، ألا وهي الحضارة السومرية التي نضبط ساعاتنا وأيامنا وأسابيعنا وسنيننا ودوائرنا الهندسة طبقاً لنضامها. ثم، شيئاً فشيئاً، أخرج لنا علماء الآثار تاريخها وتراثها الأدبي والعلمي والسياسي والاجتماعي والديني، وفكوا اسرار لغتها الإلصاقية.. والتقدم المعرفي التاريخي بصدد هذه الحضارة القديمة المندثرة وغيرها متواصل. كيف اكتشف علماء الآثار هذه الحضارة، ومن ثم دوَّن المؤرخون ما نعرف اليوم عن تاريخها؟ الجواب: من اكتشاف الأدلة المادية التي كانت غير متوفرة عليها واستنطاقهم لها حصراً، وليس من الخيال، أبداً. المؤرخون لا يخمِّنون ولا يتخيلون ما كان يمكن أن يحدث في الماضي، بل يفسّرون الأدلة المتوفرة لديهم فعلاً عمّا حصل. وهذه الأدلة هي دوماً محدودة وناقصة، لذا فإن التاريخ هو ليس أبداً سجلاً لما قد حصل فعلاً في الماضي، بل أنه الوصف لما تقول المصادر أنه قد حصل فعلاً، في ضوء كون وقائع الماضي قد مضت وانقضت وما عادت قابلة للملاحظة وللتدقيق المضارع لها زمنياً. وعندما لا تتوفر المصادر التاريخية عن حقائق ووقائع ما في الزمكان، تبقى تلك الحقائق والوقائع مجهولة تماماً وتندثر بلا ذكر تاريخي لها، إن لم تظهر ألأدلة التي كانت غير معروفة سابقاً عليها. ولما كان مصدر تاريخي لا بد أن يكون مدوناً من طرف شخص أو جهة ما؛ لذا، فإن هيكلة الخبر التاريخي (ما يتم التوكيد عليه من تفاصيل وما يُهمَّش أو يُحذف أو يُضاف أو يُلوى أو يُسبب) تتبع دوماً أهواء المدوّن وتوجهاته وأغراضه ... إلخ). وهو ما يعني أن كل مصادر التاريخ إنما هي سرديات منحازة بالضرورة يختلط فيها الذاتي والموضوعي. ولهذا يقال أن التاريخ هو ليس من العلوم الدقيقة، وإنما هو علم اجتماعي، لكونه خاضعاً للبحث الموضوعي، علاوة على التفسير الذاتي لفهم الماضي: يُحلل المؤرخون الأدلة القائمة ويفسرونها، وهي عملية تتطلب توظيف منهجيتهم الخاصة، واستدلالهم، وتعاطفهم. هذا يعني أنه لا توجد نسخة واحدة قاطعة للتاريخ، بل هو عملية إعادة بناء متعددة ومستمرة. ولما كانت السردية التاريخية هي بطبيعتها مجزأة وناقصة، فإنه يستحيل حصر كل أحداث أي حقبة ماضية على نحو كامل. يسعى المؤرخون جاهدين ليكونوا كاملين قدر الإمكان، لكن السجل الباقي عن أي سردية تاريخية يبقى دائمًا ناقصًا بسبب محدودية المصادر. ومحدودية المصادر تفرض "حق النقض" للمصادر الموجودة فعلاً على التصورات المتخيلة لأن المؤرخين لا يستطيعون تقديم الادعاءات التي لا تدعمها الأدلة على هواهم، لأن مثل هذا التحيز سيحول التاريخ حقلاً خياليًا بحتًا - على غرار الروايات الأدبية والقصص التي تنتمي للأدب وليس لعلم التاريخ. ومع ذلك، يمكن للمصادر أو المناهج الجديدة أن تُغير فهمنا للحقائق التاريخية بمرور الوقت. قلتُ أن علماء التاريخ الحقيقيين – وليس مزيفيه – يلتزمون دوماً بالقاعدة الذهبية القائلة بأن المصدر التاريخي المعقول القائم يفرض حق النقض على التشكيك به أو إلغائه إلا بوجود أدلة مباشرة معتبرة معاصرة له التي من شأنها أن تستكمله أو تعدله أو تشكك في مصداقيته، لأنه بدون الإلتزام بهذه القاعدة ينقلب التاريخ من علم اجتماعي إلى أعمال أدبية تصف أشخاصاً وأحداثاً خيالية ومختلقة لا قيمة تاريخية حقيقية لها. ولهذا، يقسّم المؤرخون المصادر التاريخية إلى مصادر رئيسية توفر الإجابة المباشرة على أسئلة المورخ: متى وأين ومَن وماذا وكيف ولماذا ... بصدد الموضوع قيد البحث بغية صياغة العرض والتفسير المتماسك له، وبين الأدلة الثانوية التي لا تقدم الأجوبة المباشرة للإجابة على أسئلة البحث تلك، بل تتطلب الجمع مع أدلة أخرى للإجابة عليها. ويقدم علماء التاريخ قيمة الشهادة المعقولة لشهود العيان المنطقية على الشهادة السماعية المعاصرة لها، ويرفضون أي شهادة تتنافى مع العقل وطبيعة تجارب الحياة أو تلك المغرضة؛ ويقدمون الدليل التاريخي المعقول الأقدم زماناً على التالي عليه زمكانياً. فإذا ما نهض بعد مضي مائة عام أو ألف عام أو أكثر رأي أو سردية إما تغاير تماماً وقائع نفس الحدث أو تلغيها تماماً على نحو تحكمي، فإن الباحث التاريخي لا يضيع وقته كثيراً بصدد نبذ هذا الرأي لأن وجود شهادة شهود العيان المعاصرين له يفرض حق الفيتو ضد أي رواية أو تصور أو تفسير لاحقٍ لاغٍ أو مغاير له. صحيح أن الباحث التاريخي عليه مقاربة بياناته التاريخية نقدياً، ولكن المنهج النقدي لا يستطيع أن يلغي تحكماً الأدلة المتوافقة مع تجارب الحياة ومقتضيات السياقات والقرائن المحيطة، ولا تحويل الشك العلمي المُنتِج الى ذريعة للإلغاء التحكمي وغير المعقول للأدلة التاريخية الراسخة والمتواترة والمتماسكة منطقياً. هذه هي – باختصار شديد – مميزات المنهج العلمي للبحث التاريخ الحقيقي. أما منهج التاريخ الزائف فيعتمد كلياً على الفبركة بغية تحقيق المهمة الموكولة إليه لدعم بعض الأجندات السياسية أو الدينية المعاصرة أو الاتجار بالإكاذيب ودغدغة المشاعر المريضة، بدلاً من اكتشاف الحقائق التاريخية. ولكي يُنفِّذ هذه المهمة القذرة، على مزيف التاريخ أن ينكر كلياً أو انتقائياً وجود الحقائق التاريخية التي من شأنها أن تنسف أو "تخربط" عليه غزل المهمة الموكلة إليه وذلك عبر التمسك بتلفيق مقولة: "عدم وجود أي شيء مؤكد تماماً، وبالتالي فإنه لا يوجد أي شيء صحيح"؛ مع تفسير صمت الأدلة عن ايضاح تفصيل ثانوي ما عن شيء ما باعتباره الإلغاء لوجود ذلك الشيء كلياً (مثلاً: تفسير عدم وجود اسم شخص ما في سجل الناخبين لعهد معين يعني عدم وجود ذلك الشخص أصلا في ذلك العهد). ومع الإبادة الجماعية للمصادر التاريخية الراسخة التي يراد إزاحتها وتكرار المغالطات والادعاءات المُضلّلة بزعم أن هناك مؤامرة تاريخية مسؤولة عن خلق نمط أو قناعة ما والحفاظ عليها، يتولى المزور للتاريخ التمسك بالسرديات التاريخية المنحازة التي تتناسب مع المهمة التلفيقية المناطة به، وللسبب المغرض الذي يزوده به أسياده الذين جندوه. وعلاوة على الربط العشوائي للأحداث المتباينة بغية تشكيل سرديات تاريخية مختلقة، يتم أعتماد الإثارة واسلوب الصدمة لترويج تلفيق الفرضيات حول عواقب الأحداث غير المحتملة التي "كان من الممكن" أن تحدث، وبالتالي الافتراض الضمني بكونها قد حصلت بالفعل. ولكون مؤلفات التاريخ الزائف لا يمكن طبعها من طرف دوريات البحث التاريخي الأكاديمية المعتبرة ولا دور النشر المحترمة لخضوعها لـ "مراجعة الأقران" (Peer Review)، فإنه يصار إلى طبعها بهيئة كتاب حصراً من طرف دور نشر ذات ارتباطات مشبوهة بالجهة الممولة لكتابة التاريخ الزائف. ومن أمثلة كتب التاريخ الزائف الشهيرة جداً: مفتاح حيرام (1996) لروبرت لومس العام الذي اكتشفت فيه الصين أمريكا:1421 (2002) لجافين مينزيس سحرة الآلهة: الحكمة المنسية لحضارة الأرض المفقود (2015) لجراهام هانكوك التاريخ السري للعالم (2007) جوناثان بلاك القوطية المكسيكية (2020) لسيلفيا مورينو غارسيا بنات أسبرطة (2021) لكلير هيوود المسيح الثاني (1997) لكريستوفر نايت الحراس السريون للهوية الحقيقية للمسيح (1997) لبين بيكنيت المصادر: https://en.wikipedia.org/wiki/Historical_method https://en.wikipedia.org/wiki/Pseudohistory https://www.goodreads.com/shelf/show/pseudo-history ولسوء حظ الفاتيكان، فإن كل الألاعيب أعلاه الممميزة لمنهج تزييف التاريخ نجدها ماثلة أمام أعيننا في نشر المهندس الكيمياوي عبد الحسين سلمان عاتي ما يقول أنها ترجمته الخاصة من الفرنسية للعربية لكتاب "التاريخ الخفي للاسلام" لخدم الفاتيكان، كل من :الفرنسي خريج مدرسة إدارة أعمال أودون لافونتين الأمي بالفباء التاريخ وباللغة العربية، وعرّابه القس الكاثوليكي الفرنسي إدوار ماري والمشرف على أطروحته للدكتوراه رولان مينرات، رئيس أساقفة ديجون. لنأخذ هذه الفقرة من نص الترجمة لكتاب "التاريخ الخفي للإسلام" أعلاه: "المهمة صعبة، إذ رسّخ التراث الإسلامي بعض التصنيفات والصور المتعلقة به في العقل الواعي واللاواعي، مما يصعب التخلص منها عند محاولة فهم التاريخ من جديد. إلا أن المنهج العلمي، وهو جوهر منهجنا التاريخي النقدي، يتطلب إعادة التقييم هذه. جوهريًا، يجب أن نبدأ من الصفر..." إنتهى النص المقتيس. لدينا أولاً العنوان المثير جداً لكتاب خادم الفاتيكان هذا:" التاريخ الخفي للاسلام "، المصمم خصيصاً لخلق الصدمة لدى القاريء: الإيحاء هنا هو أن التاريخ الموجود حالياً للإسلام هو ليس تاريخاً صحيحاً وذلك لوجود تاريخ آخر للأسلام هو "التاريخ الخفي" الذي شمّر أودون لافونتين عن ساعديه لاكتشافه وتسطير مندرجاته للبشرية. ليقارن القاريء الكريم استخدام مفردة: " الخفي" في عنوان هذا الكتاب مع استخدام مفردة "السرّي" في عناوين كتابَي: "التاريخ السري للعالم" و" الحراس السريون للهوية الحقيقية للمسيح " و "المصنفين عالمياً بكونهما مثالين أكيدين على كتب "التاريخ الزائف" وفق المصدر الأخير أعلاه. ولكن الكلام عن وجود "تاريخ خفي" للإسلام يستلزم حتماُ إكتشاف أدلة تاريخية مباشرة جديدة في موقع ما عن زمكان الإحداث التاريخية الإسلامية، فهل أن مثل هذا الإكتشاف الجديد حاصل بصدد "الإسلام" في زمن محمد الذي يعمد المنقود على تزييفه؟ هل تم اكتشاف مخطوطات جديدة - مثل مخطوطات قمران التي تتوافق مع نسخة "الترجمة السبعينية" للتوراة وليست النسخة الحاخامية لها، لتثبت للعالم أجمع أن النسخة الأخيرة قد تم التلاعب بنصوصها على نحو سري لاحقاً بعد تاريخ صدور الترجمة السبعينية في القرن الثالث قبل الميلاد؟ هل الإسلام في عصر الرسول والخلفاء الراشدين والامويين والعباسيين كانت لديه مؤسسة بابوية فوقية مثل الفاتيكان بهيئة دولة مليئة خزائنها بالملفات السرية عن تفاصيل أسماء مليارات الأطفال والراهبات اللائي تم اغتصابهن داخل الكنائس والأديرة المسيحية منذ عام 325 م. لليوم (330000 ألفاً منهم في فرنسا فقط خلال السبعين عاماٌ الماضية)، فقام هذا العلي- بابا الفاتيكاني - الذي يجهل اللغة العربية - بفتح مغاراتها، فكشف عن الوثائق السرية الخفية فيها، وهو يريد اليوم نفع البشرية بتعريفهم عليها؟ المصدر: https://www.npr.org/2021/10/05/1043302348/france-catholic-church-sexual-abuse-report-children وماذا عن ملف اختطاف وتغييب إبنة موظف الفاتيكان ذات الخمسة عشر ربيعاً إمانويلا أورلاندي عام 1983 داخل أسوار الفاتيكان، والتي كانت حاملاً بجنين فاتيكاني وقتها، والذي يرفض الفاتيكان الكشف عن أي شيء بصددها حتى اليوم رغم مضي 42 عاماً على اختطافها وتغييبها؟ المصدر: https://www.thetimes.com/world/europe/article/emanuela-orlandi-pregnant-vatican-girl-netflix-hrglsc8ck هذا، وقد صرح "كاهن كاثوليكي أن تلميذة مفقودة تم اختطافها لحضور حفلات جنسية في الفاتيكان، واتهم موظفين دبلوماسيين وأعضاء من الكرسي الرسولي بالضلوع في الجريمة. قال الكاهن الإيطالي غابرييل أمورث (85 عاما) إن الفتيات يتم تجنيدهن لحفلات في الفاتيكان، وأضاف أن وفاة إيمانويلا أورلاندى البالغة من العمر 15 عاما، والتي شوهدت آخر مرة على قيد الحياة في عام 1983، "كانت جريمة بدافع جنسي". وتحدث الكاهن الأسبوع الماضي عندما اقتحم المحققون قبر زعيم عصابة معروف في روما بعد بلاغ مجهول يفيد بأن مفتاح اختفاء إيمانوالا "سيتم العثور عليه هناك". ولكن حتى الآن لم يتم التعرف بشكل قاطع على العظام التي لا تنتمي إلى رجل العصابات إنريكو دي بيديس، على أنها تعود للفتاة. وفي مقابلة مع صحيفة "لا ستامبا"، قال الأب أمورث: "لقد سبق وأن صرح بذلك (المتوفى) المونسنيور سيموني دوكا، وهو أمين أرشيف في الفاتيكان، والذي طُلب منه تجنيد الفتيات للحفلات بمساعدة درك الفاتيكان." شملت الشبكة موظفين دبلوماسيين من سفارة أجنبية لدى الكرسي الرسولي. أعتقد أن إيمانويلا وقعت ضحية لهذه الدائرة."" المصدر: https://www.belfasttelegraph.co.uk/news/world-news/priest-claims-schoolgirl-emanuela-orlandi-was-kidnapped-for-vatican-sex-parties/28752725.html مثل هذا وأمثاله هو التاريخ الديني السري الحقيقي الذي يجب على المؤرخ السعي للكشف عن اسراره وخفاياه المسكوت عنها لكون مصادره معاصرة للمؤرخ، فكيف سيتسنى لخادم الفاتيكان أودون لافونتين الأمي بالتاريخ وباللغة العربية الكشف للبشرية عن "التاريخ الخفي للإسلام"؟ هل سيقوم بنبش القبور ومحاكمة الجثث بإنطاقها بالنيابة بما يريده الفاتيكان، مثلما فعل البابا أسطفان السادس عندما استخرج في كانون الثاني من عام 897 الجثة المتعفنة لسلفة البابا فورموسس (الذي يعود إليه الفضل لإحراز اسطفان كأسقف لمدينة أناكني ) للمحاكمة في ما سمى بـ "محكمة الجثث" (Synodus Horrenda)، فألبس الجثة اللباس المقدس للبابا، وأسندها على عرش البابوية، وعيَّن شمّاساً للإجابة عن البابا الراحل. وبعد إدانة الجثة بكل التهم الموجهة إليها، فقد جُرِّدت من أثواب القداسة، وقُطعت ثلاثة أصابع من يدها اليمنى (أصابع البَرَكة)، وقاموا بالباسها زي شخص عادي، ودُفنت الجثة. ثم أعيد نبشها، والقيت في نهر التيبر، كما ألغيت كل الرِسام التي أصدرها البابا فورموسس. المصدر: https://en.wikipedia.org/wiki/Pope_Stephen_VI "المهمة صعبة" يعترف لنا هذا الأفّاك! إنه يعترف بعظمة لسانه بكونه مكلفاً بتنفيذ "مهمة" محددة مسبقاً. طيب، هذه المهمة الفاتيكانية الصهيوإمبريالية مكشوفة؛ ولكن لماذا هي صعبة؟ يجيب خادم الفاتيكان عن هذا بالقول: "إذ رسّخ التراث الإسلامي بعض التصنيفات والصور المتعلقة به في العقل الواعي واللاواعي، مما يصعب التخلص منها عند محاولة فهم التاريخ من جديد." طيب، كيف تسنى لخادم الفاتيكان أودون لافونتين هذا الذي لا يتقن العربية الدخول إلى "العقل الواعي واللاواعي" عند من "تَرسَّخ التراث الإسلامي" لديهم ليتأكد من صحة خزعبلاته هذه؟ لنأخذ العقل الواعي للمسلمين أولاً: عدد المسلمين اليوم يقدر بحوالي ملياري انسان، فهل قام خادم الفاتيكان هذا باجراء استبيان لعينة عشوائية تمثيلية للمسلمين قاطبة وقام بالتحليل الاحصائي لمخرجات هذا الاستبيان والتي أكدت مصداقية قوله أعلاه؛ ثم قام بعمل استبيان ثان بذات الشروط لكل سكان العالم، وقارن البيانات الاحصائية لنتائج مجتمَعَي البحث فوجد أن المسلمين يتفردون بهامشية علمية اعتمادية موثقة احصائياً بلغة الأرقام عن غيرهم بهذا الصدد؟ الجواب: لا، طبعاً. نأتي الآن إلى "العقل اللاواعي"، وهو الطامة الكبرى التي تنسف كل فقرته تلك. ما دام العقل اللاواعي لاواعياً إلا عند التحفيز لدى كل فرد، ولا يمكن الكشف عن عشر معشار مكوناته إلا بالتحليل النفسي الذي يستغرق سنين، فكيف تسنى لخادم الفاتيكان الولوج داخل العقل اللاواعي للأفراد المسلمين كافة ومعرفة مكوناته؟ ها؟ هل قام هذا الأفّاك بافتتاح عيادات تحليل نفسي لثمانية مليارات من البشر سكان عالم اليوم قاطبة، فولج من خلالها إلى عقولهم اللاواعية، وهو الأمر الذي مكَّنه من التشخيص الصحيح لما هو مخزون وما هو غير مخزون فيها لدى المسلمين وغير المسلمين، ثم احتسب كثافاتها الترددية ووجد تفاضلاتها مهمة إحصائيا (statistically significant differentials) بين العقل اللاواعي للمسلمين وغير المسلمين، فسمحت له تلك المخرجات الإحصائية توكيد صحة جملته القائلة: ""إذ رسّخ التراث الإسلامي بعض التصنيفات والصور المتعلقة به في العقل الواعي واللاواعي، مما يصعب التخلص منها عند محاولة فهم التاريخ من جديد" ، والمصاغة بهيئة قانون فاعل عند مليارين من البشر؟ يعلم كل عاقل من البشر أن انجاز مثل هذا البحث مستحيل تماماً؛ وبالتالي، فإن جملته تلك هي كلام زائف بنصه وفصه يراد به الخداع والتعمية على تمرير الأكاذيب اللاحقة. ولكن ماهو موضوع "بعض التصنيفات والصور" الواردة في قوله: ""إذ رسّخ التراث الإسلامي بعض التصنيفات والصور المتعلقة به في العقل الواعي واللاواعي، مما يصعب التخلص منها عند محاولة فهم التاريخ من جديد"؟ الجواب: النص المقتبس أعلاه لا يحدد لنا ماهية "بعض التصنيفات والصور" التي هي عند المسلمين حسبما يذكر الكاتب، والتي "يصعب التخلص منها عند فهم التاريخ من جديد". ولكن من المعروف أن اتباع كل دين – وحتى الأشخاص اللادينيين - لديهم "بعض التصنيفات والصور" بصدد ما يؤمنون به ويتمسكون؛ والدليل على ذلك هو أن كل أتباع دين وفكر ما، أياً كان، هم سعداء ومتمسكون بإيمانهم الديني والفكري، حتى وإن كان من النوع الذي يبدو غريباً مثل تأليه الحيوانات والنار. وما دام هذا الأمر ينطبق على "طبيعة الإيمان" عند البشر قاطبة، فلماذا يتم عزل المسلمين عن غيرهم بهذا الصدد، ومن ثم التعكز على هذا العزل التحكمي المبيَّت مسبقاً لتبرير سعي المؤلف كتابة "تاريخ جديد" للمسلمين حصراً حسب أوامر كهنوت الفاتيكان؟ هل أن من واجب المؤرخ بناء سردية جديدة في القرن الواحد والعشرين لتاريخ المسلمين على غرار تلك التي بنى فيها رواة العهد القديم بعناية قصة تتميز فيها إسرائيل عن جميع شعوب العالم الأخرى، وبما يعزز التمييز الصارم بين أولئك الذين هم داخل العهد الإلهي وأولئك الذين هم خارجه، ولا يُذكر في تلك السردية تاريخ كل أمم العالم الأخرى إلا عندما يتقاطع بشكل مباشر مع مصير إسرائيل؛ وإلا فهو غير ذي صلة، بتاتاً؟ "المهمة صعبة"، يقول أودون لافونتين، ولكنه لا يمتلك الشجاعة الأكاديمية كي يصارح متلقيه عن مكمن الصعوبة فيها، ألا وهو أن سجلات تاريخ فترة النبوة المحمدية قد حفظت لنا كماً هائلاً من أدق التفاصيل عن سيرة محمد بن عبد الله وعن أقواله كمصدر للسنة واجب الإتباع للمؤمنين به، والتي تستحيل إزاحتها، ويصعب التشكيك بما هو معقول ومتسق منها لتواتر مصادرها التاريخية المباشرة وغير المباشرة. ثم يوجد هناك أهم مصدر تاريخي مباشر: القرآن المجيد الذي تحفظ سجلات التاريخ أسماء كتبته من أصحابه عن لسان محمد نفسه، وليس بعد عقود وقرون على وفاته مثل أنبياء التوراة والانجيل. ولكن، كيف يمكن لخادم الفاتيكان أودون لافونتين هذا تنفيذ "المهمة المكلف بتنفيذها" حسب نصه أعلاه؟ الجواب هو قوله: " جوهريًا، يجب أن نبدأ من الصفر..." ! هذه هي المصداقية البحثية لهذا الأفاك الفاتيكاني: يجب أن يبيد الناس كل الأدلة التاريخية القائمة لحد الآن والمستخدمة في بناء السرديات التاريخية المتماسكة للإسلام، ومن ثم البدء "جوهرياً من الصفر" حسب مقتضى أوامره. "علماء"، يدجّلون على أسماعنا! "تاريخ أكاديمي وعلمي ناقد جديد"، يفبركون! والنتيجة هي رواية خيالية لا تاريخية ولا علمية ولا جديدة، مثلما سأبين بالتفصيل. كل ثرثرة هذا الرجل مستقة من كتابات وزير الخلفاء الأمويين المسلمين أباً عن جد: يوحنا الدمشقي (700- 754م)- الذي كرمته الكنيسة اليونانية على خزعبلاته غير العلمية والمغرضة بتطويبة قديساً – مع إضافة بعض بهارات التلفيق والتشكيك الكيفي الفاسدة علمياً. ومن الثابت تاريخياً أن المفكرين المسلمين قد ردوا بالأدلة المنطقية على كتابات يوحنا الدمشقي، ومنهم الجاحظ (المتوفى سنة 869م) وأبوبكر الباقلاني (المتوفى سنة1012م) والغزالي (المتوفى سنة1111م)، والرازي (المتوفى سنة 1210م)، وابن تيمية (المتوفى سنة 1328م) وغيرهم كثير. يتبع، لطفاً.
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عبد الحسين سلمان عاتي والإبادة الجماعية لمصادر التاريخ (3)
-
عبد الحسين سلمان عاتي والإبادة الجماعية لمصادر التاريخ (2)
-
عبد الحسين سلمان عاتي والإبادة الجماعية لمصادر التاريخ (1)
-
الحلم بالجمال السامي لدى الشاعرة ديلان تمّي: تعليق وترجمة
-
-ألصابئون في القرآن الكريم- للأستاذ المتمرس الدكتور عبد اللط
...
-
عربة حكومة ولاية بَتّيخ
-
ما قُربَ الهجوم القادم لجيش الكيان الصهيوني على غزة؟ (2-2)
-
ما قرب الهجوم القادم لجيش الكيان الصهيوني على غزة؟ (1-2)
-
إعلان وفاة
-
الدرس الأول للعام الدراسي الجديد
-
ملاحظات عن اشتراكية الصين (7-7)
-
ملاحظات عن اشتراكية الصين (6)
-
ملاحظات عن اشتراكية الصين (5)
-
ملاحظات عن اشتراكية الصين (4)
-
ملاحظات عن اشتراكية الصين (3)
-
ملاحظات عن اشتراكية الصين (2)
-
ملاحظات عن اشتراكية الصين (1)
-
الموساد صوَّر أشرطة لترامب وهو يغتصب القاصرات
-
استخدام الرياضيات في البحث الماركسي
-
تاريخ الكومونات الاشتراكية (3)
المزيد.....
-
عدسة الأناضول ترصد محاولة مستوطنين اقتحام المسجد الأقصى
-
ذهبيتان لإيران في المصارعة الرومانية في دورة الألعاب الإسلام
...
-
-الإسلامية المسيحية- تدين تصريحات بن غفير بحق الرئيس محمود ع
...
-
فرنسا: زيادة التشدد الديني لدى الشباب المسلمين والنواب يستهل
...
-
168 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية من شرطة الاحتلال
-
خطيب المسجد الأقصى في يوم محاكمته: لن أتراجع عن مواقفي
-
حركة -الجهاد الاسلامي- ترفض القرار الاميركي الذي تبناه مجلس
...
-
الأوقاف الإسلامية بالقدس: عشرات المستوطنين يقتحمون الأقصى وس
...
-
شاهد: جماليات العمارة الإسلامية تتجلى في مسجد ’القيروان’ بتو
...
المزيد.....
-
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي
...
/ سامي الذيب
-
الفقه الوعظى : الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
المزيد.....
|