أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي مهذب - إضاءة نقدية














المزيد.....

إضاءة نقدية


فتحي مهذب

الحوار المتمدن-العدد: 8528 - 2025 / 11 / 16 - 23:59
المحور: الادب والفن
    


عذابات (فان غوغ)

القصيدة التي كتبها فتحي مهذب حول عذابات فان غوغ تفتح أمامنا بابًا واسعًا للتأمل الفلسفي والفكري، فهي تتعامل مع فكرة الفن كوجود ومعاناة، وتجسد رحلة الفنان كرحلة روحانية تتأرجح بين الألم والجمال، بين الرغبة في التحرر والانصياع للأقدار.

في مطلع القصيدة، يحاور الشاعر (ثيو)، شقيق فان غوغ وصديقه الروحي، والذي كان نافذته الوحيدة على العالم، ودعمه حينما عزّ الدعم. إن استحضار (ثيو) يشير إلى وحدة الفنان التي تتجلى حتى في أقرب الناس إليه؛ ورغم دعمه له، يبقى ثيو غير قادر على فهم عذابات فان غوغ بالكامل. إنه حوار مع الذات ومع العالم، كما لو كان الفنان يعيش في عزلة معنوية تفوق أي عزلة جسدية.

يمثل قطع الأذن إشارة رمزية قوية عن الاستسلام للألم كوسيلة للتعبير عن الذات وتحريرها من القيد، وكأن الفنان يرغب في قطع جزء من نفسه في محاولة يائسة للتواصل مع العالم أو لتهدئة ألمه الوجودي. هذه الفعل ذاته يمكن تأويله كرمز لتحطيم الجسد وتحدي المادة، ففان غوغ هنا يتجاوز الحدود التقليدية للفن ليجعل جسده هو لوحته الأبدية؛ إنه التضحية بالذات، بنية تقديم الحقيقة العارية دون تحريف، ليظهر الفن في شكله الأكثر نقاءً وعريًا.

ثم ننتقل إلى صورة "شيخ البحر" الذي "يحمل على كتفيه"، وكأنه عبء ثقيل يرمز إلى تعقيدات الحياة النفسية والأفكار المتشابكة التي تطارد الفنان. إن "شيخ البحر" هذا يبدو كظِل قديم، كرمز للزمن الذي يثقل كاهل المبدعين بفعل تراكم الأفكار والأحلام والخيالات، تمامًا كما يثقل البحر السفن التي تحملها. وهو يجسد ثقل الزمن والذاكرة، تلك الذاكرة الملعونة التي لا تترك الفنان ينعم بالراحة، فتظل ذكريات الألم والخوف والقلق تطارده أينما ذهب.

كما تتنوع الصور في القصيدة، فنرى "البوم"، وهو طائر الليل والحكمة من جهة، والنذير والشؤم من جهة أخرى، يحوم في "نبرته الكثيفة"، كأن البوم هنا يعكس الضباب الذي يسيطر على رؤية الفنان للحياة، يرمز للغموض والتداخل بين النور والظلام، بين الحقائق والمجازات.

ومن ناحية أخرى، نجد صورة "الحصان الضرير" الذي "تلسع ظهره كرابيج الحتميات"، فالحصان في هذه الصورة هو الفنان نفسه الذي ينطلق عميانًا في رحلة الفن والحياة، مدفوعًا بحتميات الحياة والموت، وكأن الحتميات هنا هي الواقع القاسي الذي لا مفر منه، فتضربه كالسياط، تدفعه للإبداع دون هوادة، وإن كانت هذه الرحلة قد تؤدي إلى فن راقٍ، إلا أنها أيضًا تترك في نفسه جراحًا لا تلتئم.

ثم نصل إلى "المعبد" الذي يرسمه الفنان ويدعو إليه "الملائكة"، وكأننا أمام صورة للعبث الوجودي، حيث يرسم فان غوغ معبده الخاص ويدعو فيه إلى قداس اللا معنى. إنه يعبر عن حال الفنان الذي يبني عالمًا من الأفكار والرموز، يقدس هذا العالم، ثم يهدمه بنفسه، في تكرار متواصل لحالة من البحث عن المعنى تتخذ شكل الطقوس العبثية. إنها رحلة الفنان المتكررة بين البناء والهدم، بين الرغبة في خلق شيء خالد والرغبة في تحطيم هذا الخلود لأنه عابر زائل.

أما دعوته "لأفعى المامبا" لاحتلال قلاعه الهشة، فهي تمثل الرغبة في تدمير الذات على يد قوة أخرى، كأنما يسلم جسده ونفسه للمصير، وللألم، ليجعل من جسده ساحة للمعاناة، ومن روحه هدفًا للهجوم. الأفعى، التي غالبًا ما تكون رمزًا للسم والظلام، هي هنا تجسيد لتلك الأفكار القاتمة التي تسري في عروق الفنان، تلك الأفكار التي تشوه "ينابيع دمه"، وتهيمن على حياته.

وأخيرًا، تأتي العبارة المتكررة "لا تبكِ يا (ثيو)" لتوحي بحالة من التمرد على الحزن التقليدي، كأنما الشاعر يدعو القارئ، والذات الشاعرة، ألا يتحسر على الفن والفنان، لأنه اختار معاناته بملء إرادته، ووجد خلاصه في تلك الرحلة، حتى لو كانت نهايتها مأساوية.

القصيدة تتجاوز كونها مجرد سرد لمعاناة شخصية لفان غوغ، لتتحول إلى تأمل فلسفي في طبيعة الفن والألم، وفي تلك الحالة الوجودية التي يعيشها كل فنان في محاولته لفهم العالم من حوله. هي دعوة للتأمل في الحتميات والتضحية والجمال، وفهم العالم ليس كما يراه الجميع، بل من خلال نظرة فنان يعاني ويرسم، وينطق بلسان مشبعٍ بالصمت.

محمد بسام العمري

لا تبك يا( ثيو)..
لولا دموع الغراب
على وجنتي( بول جوبان)..
ما قطعت شحمة أذني
ورميتها من شباك الطائرة)
عانيت كثيرا يا( ثيو)..
حملت شيخ البحر على كتفي..
ساقاه مسمرتان في عنقي..
بوم الدوق الكبير
يحوم في نبرته الكثيفة..
لم يسمع (لعازر) أجراس حدائي..
لم يصح من عتمة الكمون..
أركض مثل فيل هندي
يتعقبه تجار الذهب والعاج..
أجوب مواخير وحانات..
جزرا ومحيطات..
مثل حصان ضرير
تلسع ظهره كرابيج الحتميات ..
أرسم معبدا ..
أدعو جميع الملائكة إلى
قداس اللامعنى..
ثم أهدمه على رؤوس الأشهاد..
أهيب بأفعى المامبا
إلى احتلال قلاعي الهشة..
تلويث ينابيع دمي..
لا تبك يا( ثيو)
هشم شيخ البحر مصابيح الرؤيا..
بقدميه المتهدلتين..
إختلس خبزي ونبيذي..
قاد مظاهرة ضد رأسي المهوشة..
إعتقل سكان مخيلتي..
أطفأ مبنى الجسد الغائم..
أفردني الأهلون وخالصتي..
واستفردت بي ذؤبان المحو .



#فتحي_مهذب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة نقدية لنص إلهاء البومة في قاع المفاصل
- الحياة ملكة
- الذي يجأر بالشكوى في الأوتوبيس
- العيارون الجدد
- قراءة نقدية لنص يوم ميلادي
- لا أريد إفناءك يا هضابي
- بيضة مالك الحزين
- أيها النهار
- رقصة الهندي الأحمر
- يرمون التوابيت من شباك الطائرة
- هواجس الليلة الفائتة.
- أيتها الأشياء الجميلة لماذا مضيت مسرعة؟
- Le loup maudit
- وأنت تتساقط عضوا عضوا
- غربة
- قراءة في قصة المومياء
- ندفن موتانا في قلوبنا
- إضاءات
- إعتذار
- أخيرا


المزيد.....




- التمثيل الشعري للذاكرة الثقافية العربية في اتحاد الأدباء
- الكوتا المسيحية: خسارة ريان الكلداني وعودة الجدل حول “التمثي ...
- مؤرخ وعالم آثار أميركي يُحلل صور ملوك البطالمة في مصر
- -المعرفة- في خدمة الإمبريالية والفاشية والاستبداد
- روزي جدي: العربية هي الثانية في بلادنا لأننا بالهامش العربي ...
- إيران تكشف عن ملصق الدورة الـ43 لمهرجان فجر السينمائي
- هوس الاغتراب الداخلي
- عُشَّاقٌ بَيْنَ نَهْرٍ. . . وَبَحْر
- مظهر نزار: لوحات بألوان صنعاء تروي حكايات التراث والثقافة با ...
- في حضرةِ الألم


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي مهذب - إضاءة نقدية