|
|
-الاسرة المقدسة- تحقيقات وتعليقات: النقد النقدي المطلق
نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري
(Nayf Saloom)
الحوار المتمدن-العدد: 8510 - 2025 / 10 / 29 - 16:32
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
عناوين فرعية للفصل السادس من "الاسرة المقدسة" النقد النقدي بشخص السيد برونو 1-الحملة الأولى للنقد المطلق بقلم كارل ماركس: (آ) "الروح" و "الجمهور". يقول ماركس: حتى الان كان النقد النقدي يبدو منشغلاً إلى حد ما كثيراً أو قليلاً بمعالجة نقدية لموضوعات متنوعة من "نمط-الجمهور". وإنه يهتم الآن بالموضوع النقدي المطلق، أي "الجمهور" بذاته. إنه حتى الآن كان يستمد مجده من التدني والذل والتحولات النقدية لموضوعات معينة من "نمط-الجمهور" وأشخاصه. وها هو الآن وقد أصبح يستمد مجده المطلق من التدني والذل والتحول النقدي الذي أصاب الجمهور بعامة. النقد النسبي كان يواجه بحدود نسبية، النقد المطلق يواجه بحد مطلق، حد "كتلة الجمهور"، كتلة الجمهور بوصفه حداً. إن النقد النسبي في مواجهته لحدود معينة، كان هو نفسه بالضرورة فرداً محدوداً. أما النقد المطلق فإنه في مواجهة الحد العام، مواجهة مع الحد بالذات، هو بالضرورة فرد مطلق. و "النقد"، حتى هذا الوقت، كان عليه أن يظهر قليلاً أو كثيراً إلى حد ما، كصفة للأفراد النقديين، ريتشارد، وإدغار، وفوشيه، الخ. الآن إنه يظهر بالذات (ظهور ذاتي)، والهر برونو هو تشخيصه." بالطبع ماركس يلمح هنا إلى عملية انتقال "النقد النقدي" من موقع الصفات، أو الظهور المثلي والعرضي (المخلوقات)، إلى موقع الظهور بالذات؛ الذات المطلق، موقع الذات الخالق لتلك الصفات والمخلوقات. ومعروف في الفكر الصوفي أن الذات المطلق المنزّه عن الصفات هو الخالق للصفات والمخلوقات. كما تخلق قوة العمل الثروة الاجتماعية ممثلة بجميع أنواع البضائع النافعة وصفاتها المتنوعة. يقول ماركس: كانت السمة الجماهيرية حتى الان إلى حد ما، الخاصة المميزة للموضوعات والأشخاص الخاضعين "للنقد"، وها أن الموضوعات والأشخاص تصبح "جمهوراً"، و "الجمهور" يصبح موضوعاً وشخصاً. إن كل العلاقات النقدية السابقة، قد انحلت في علاقة الحكمة النقدية المطلقة والحماقة المطلقة لـ "نمط -الجمهور". هنا يتواجه النقد الخالص مع الصهارة غير النقية للجمهور، وهذه المواجهة تستدعي من النقد المطلق، حركة ديالكتيكية صاعدة حتى السماء، حتى يستطيع أن يسند إليها "نعليه" في بدء حركة الهبوط، لكي يواجه الجمهور "الملطخ"، العكر، الضال، براسه النقدي الخالص الصفاء. عقل النبي المبشر. يقول ماركس: إن النقد "الخالص"، انسجاماً مع سمته المطلقة، يعلن حال ظهوره على المسرح، عن "الرد" المختلف (المتميز)؛ مهما يكن عن كونه روحاً مطلقاً. وكونه روحاً مطلقاً فعلى النقد أن يجتاز سيرورة ديالكتيكية. وفقط في نهاية حركته السماوية، سوف يتحقق مفهومه الأصل." (أنظر هيغل: موسوعة العلوم الفلسفية) بكلام آخر على النقد كروح مطلق أن يصعد إلى السماء السابعة ويحقق كمال علمه، ثم يهبط من السماء كروح قدس؛ أي كوحي خالق ثم مصوّر للكون الجديد. بعد أن أصبح بوير حامل الوحي، الهابط على الجمهور، ها هو يعلن أن البراهين لم تكتمل، والجمهور خذل باعتقاده انه حائز حقائق تؤهله لسيادة عالمية. يعلن النقد المطلق: لبضعة أشهر خلت، كانت الجماهير، تعتقد أنها مزودة بقوة هائلة، ومؤهلة لسيادة عالمية، كانت تعتقد أن فترة تحققها تعد على أصابع اليد الواحدة". لكن الجمهور لم ينتظر الجزء الأول من الكتابات الأخيرة عن المسألة اليهودية لبوير. يقول ماركس: إن السيد بوير بالضبط هو نفسه الذي عد على الأصابع في كتابه "القضية الطيبة قضية الحرية" والمقصود طبعاً قضيته "الخاصة “، وفي "المسألة اليهودية" عدد مدد اقتراب هذه الهيمنة العالمية في مسيرتها، مع اعترافه بعدم إمكانه تعيين تاريخ تحقيقها على وجه الدقة. إنه يسجل في حساب خطايا "الجمهور" كتلة خطاياه الذاتية. يقول بوير: إن الجماهير كانت تخال نفسها حائزة على حقائق كثيرة، هي بالنسبة لها مفهومة تلقائياً. إلا أن المرء لا يمتلك تماماً حقيقة ما .. إلا بمتابعتها عبر براهينها" والحق يقال، أنه هنا، في هذا السياق تحضر مسألة "العفوية" و "الوعي" في حركة الطبقة العاملة، ومسألة "الوعي من الخارج" أو "الوحي" و "التلقين" التي طرحها لينين في كتابه الشهير "ما العمل؟ المسائل الملحة لحركتنا" والتي تلقنها عن الألماني كارل كاوتسكي. لكن لنرى كيف يعالج ماركس مسألة "الحقيقة" عند بوير وهيغل. "إن الحقيقة بالنسبة للسيد بوير، كما هي بالنسبة لهيغل، شيء آلي automaton يبرهن على نفسه بنفسه، يتوجب على الانسان أن يتبعها. وكما لدى هيغل، فإن نتيجة التطور الحقيقي ليست سوى الحقيقة المثبتة؛ أي أنها ارتقت إلى مستوى الوعي." وكما أن النبات في عرف الغائيين الأوائل teleologists earlier ، ليست موجودة إلا من أجل ان تأكلها الحيوانات ، كما أن الحيوانات موجودة لكي يأكلها الناس، فإن التاريخ ليس موجوداً ، إلا من أجل استخدامه لفعل استهلاك الغذاء النظري ذاك- أي البرهنة. إن الانسان موجود من أجل أن يوجد التاريخ، والتاريخ موجود من أجل أن توجد البرهنة على أن الحقائق موجودة. إن ما نجده تحت هذا الشكل المبتذل بصورة نقدية، إنما هو تكرار للحكمة النظرية، التي تقول بأن الانسان والتاريخ موجودان، بحيث تتمكن الحقيقة من أن تصل إلى وعي-الذات. إن التاريخ يصبح إذن، شأنه شأن الحقيقة، شخصاً منفصلاً، وذاتاً ميتافيزيقية (ما ورائية)، يستخدم من أجلها أفراد البشر الفعليين كمجرد ركائز. لذلك فإن "النقد النقدي" يلجأ لصيغ جوفاء: إن التاريخ لا يسمح بأن يستهزأ به. إن التاريخ قد بذل أعظم جهوده من أجل، الخ ويضيف ماركس: إذا كان هناك، استناداً لتأكيد النقد المطلق، اثنتان أو ثلاث من الحقائق الأكثر بساطة، والتي تثبت بديهياً بنهاية المطاف، قد احتلت التاريخ حتى يومنا هذا، فإن هذا الافقار المؤلم لمحتوى التجارب الإنسانية السابقة من قبل "النقد" يثبت فقط وقبل كل شيء فقره الخاص. أما من وجهة النظر غير النقدية فينتهي التاريخ بالعكس إلى هذه النتيجة وهي أن أعقد الحقائق الموجودة، وماهية كل حقيقة، أن البشر يفهمون أنفسهم في نهاية الامر بشكل تلقائي. إن "نهاية الامر" هذه عند ماركس؛ تهكمية، وهي تحاكي كلمات برونو محاكاة ساخرة، لهذا لا تؤخذ على أنها كلام إيجابي لماركس. لأن عبارة "نهاية الامر" غامضة ولا معنى محدد لها، تماما ككلمة "جمهور" التي يمكن أن تعني جمهور من القرن السادس عشر وجمهور آخر مختلف من القرن الثامن عشر. إن مسألة تلقين الوعي من الخارج للبروليتاريا كوحي من قبل مثقفيها العضويين، أكثر جدارة على مستوى خبرة البشر، خاصة مع أنبياء الأديان التاريخية، وكفاح الرسل لنشر عقائدهم وأفكارهم التي كانوا ينادون بها حقائق في زمنهم، أكثر جدارة من "فهم الجمهور التلقائي للحقائق المعقدة في نهاية الامر". لقد أشار غرامشي إلى أنه لا يمكن لجماعة بشرية، سواء قبيلة كانت أم طبقة أن تهيمن إذا كانت مفتقرة لمثقفين عضويين، هذه حالة المدن الإيطالية في العصور الوسطى. ليست الحقيقة هي التي تفهم نفسها بنفسها بشكل تلقائي، كما يعبر هيغل، بل هم البشر الفعليون الذين يفهمون واقعهم وأنفسهم بعد معاناة طويلة-حسب ماركس. يقول ماركس: يبدو أن الفهم الذي يكفي لفكرة ما، والذي يتلاءم (مفهومياً) مع فكرة ما، يكفّ عن كونه ادراكاً سطحياً، لأن السيد بوير يستبعد العلاقة بين الفكرة وبين فهمها فقط ظاهرياً، وطالما أنه يستبعد العلاقة بين العمل التاريخي الفاشل وبين "الجمهور" بشكل ظاهري أيضاً. إذا أدان "النقد المطلق" شيئاً ما، إذن، ناعتاً إياه "بالسطحي"، فإنه ولا شك يكون التاريخ الماضي لا غير، التاريخ الذي كانت أعماله وأفكاره (أعمال وأفكار النقد المطلق) أعمالاً وأفكاراً "للجماهير". إنه يرفض التاريخ بحسب "نمط-الجمهور"، ويريد استبداله بالتاريخ النقدي. باور يقوم بنقد أعماله السابقة كونها أعمال تخص "نمط الجمهور"، أي يسارية. وحسب التاريخ غير النقدي، التاريخ غير المرسوم بحسب النقد المطلق، علينا أن نميز بدقة إلى أي حد "اهتم" الجمهور بأهداف، وإلى أي حد "تحمّس" لهذه الأهداف. إذ أن "الفكرة" قد فشلت دائماً فشلاً ذريعاً بالقدر الذي اختلفت فيه عن "المصلحة". ومن جهة ثانية ندرك بسهولة أن كل "مصلحة" لـ "نمط-الجمهور " عندما تفرض نفسها في التاريخ، لا بد وأن تتجاوز إلى مدى بعيد، منذ بداية ظهورها على المسرح العالمي، لا بد وأن تتجاوز في "الفكرة" أو "التصور" حدودها الفعلية، وأن تختلط مع الصالح الانساني عموماً. ملاحظة: هذه الفكرة بحثت مطولاً في "الإيديولوجية الألمانية" عندما يجري الحديث حول البورجوازية. يشكل هذا الوهم ما يدعوه فورييه نغمة tone كل عصر تاريخي. إن مصلحة البورجوازية، في ثورة 1789، بعيد جداً عن أن تكون "فاشلة"، قد "ربحت" كل شيء، ونالت "معظم النجاح الفعّال "، بالرغم من أن الكثير من "الانفعال" pathos” قد تبدد، وذبلت الورود "الحماسية" التي توجت بها هذه المصلحة سريرها. لقد فشلت الثورة بالنسبة لذاك "الجمهور" الذي لم يكن يملك من حيث "الفكرة السياسية" فكرة مصلحته الحقيقية؛ أي الجمهور الذي لم يكن مبدأ -حياته الحقيقي يتزامن مع مبدأ –حياة الثورة، والذي كانت تختلف شروط تحرره الحقيقية، بصورة جوهرية، عن الشروط التي كان يمكن للبورجوازية نفسها أن تتحرر بها، بتحريرها المجتمع. وعليه إذا كانت "الثورة" التي يمكن أن تمثل جميع "أعمال " التاريخ العظيمة قد فشلت، فذلك لأن الجمهور الذي غيرت شروط حياته، دون أن تتجاوز في الجوهر، حدود هذا "الجمهور"، فقد كان جمهوراً حصرياً محدداً، كان صهارة. ليس كجمهور له حاضنة. وإذا كانت الثورة قد فشلت، فلم يكن ذلك لأن الجمهور كان "يتحمس" لها أو "يهتم" بها، بل لأن القسم الأكثر عدداً من الجمهور، القسم الذي كان متميزاً عن البورجوازية، لم يكن يجد مصلحته الحقيقية في مبدأ الثورة، ولم يكن يمتلك مبدأ ثورياً خاص به، بل فقط يملك "فكرة"، وبالتالي فقط موضوع حماس مؤقت ويبدو فقط أنه ينهض ظاهرياً. ومع تعميق العمل التاريخي، سيزداد إذن حجم الجمهور الذي يشكل هذا العمل عمله. أما في التاريخ النقدي، الذي بموجبه لا "دخل" أبداً للجماهير العاملة وللعمل التجريبي في أعمال التاريخ، ولا دخل للمصلحة التجريبية لهذا العمل، بل على الاصح "للفكرة" التي "تكلّم فيها" فإن الأمور يجب أن تسير بداهة خلاف ذلك " يقول النقد: "إنه في "الجمهور" يجب أن نبحث عن عدو "الفكر الحقيقي" " إن مجلة (لوستالو) لعام 1789 تحمل في مقدمتها ما يلي: العظماء لا يبدون لنا عظماء إلا لأننا راكعون لننهض! ويعلّق ماركس: ولكن لكي ننهض لا يكفي أن ننهض بالفكر، تاركين حائماً فوق رؤوسنا، العالم الملموس بشكل حسي، والنير الملموس بشكل حسي، الذي لا يمكن تحطيمه بمجرد اجترارات فكرية. إن النقد المطلق، على الأقل، قد تعلم من علم ظاهرات الروح (فنومينولوجيا الروح) لهيغل فن تحويل السلاسل (القيود) الحقيقية الموضوعية الواقعية، الموجودة خارج الانا، إلى سلاسل فكرية صرف، وذاتية صرف، موجودة في الانا فقط، بالتالي تحويل سائر نضالاتي الخارجية والواقعية إلى مجرد صراعات أفكار. يقول ماركس: إن هذا التحويل النقدي هو أساس الانسجام المسبق فيما بين النقد النقدي والرقابة. إن صراع الكاتب ضد الرقيب، ليس من وجهة النظر النقدية، صراع "رجل ضد رجل"، إن الرقيب (بالنسبة للنقد النقدي)، على عكس ذلك ليس سوى لباقتي الذاتية، المجسّدة من قبل الشرطة لأجل خدمتي، لباقتي الذاتية المناضلة ضد ضعفي في اللباقة والنقد. إن صراع الكاتب ضد الرقيب (حسب النقد) لا يختلف عن صراع الكاتب الداخلي ضد نفسه، إلا في الظاهر وفيما يخص عالم الحواس الدنيء. إن الرقيب بوصفه جِلْواز الشرطة المتميز عن ذاتي في فرديته الحقيقية، والذي يسيء معاملة نتاجي الفكري بموجب قاعدة خارجية، غريبة، هو مجرد خيال "لنمط-الجمهور"، تلفيق للذهن غير نقدي. وإذا كانت أطروحات (Theses) عن إصلاح الفلسفة لفيورباخ قد مُنعت من قبل الرقابة، فإن الخطيئة لا تقع على عاتق بربرية الرقابة الرسمية، بل على الفراغ الثقافي لأطروحات فيورباخ. إن النقد الخالص الذي لا تدنسه أية ذرّة من الجمهور أو من المادة أيضاً، يملك في شخص الرقيب، شكلاً "أثيرياً" منفصلاً عن كل حقيقة "نمط-الجمهور". نشير هنا إلى أن "أطروحات مؤقتة عن إصلاح الفلسفة" لـ "لودفيغ فيورباخ" كتبت في كانون الثاني 1842، ولكنها منعت من قبل الرقابة الألمانية. ولم تنشر إلا في عام 1843 في سويسرا. لقد أعلن النقد المطلق بأن "الجمهور" هو العدو الحقيقي للروح. وإليكم كيف يشرح هذا التأكيد: "إن الروح يعرف الآن أين يجب البحث عن خصمه الوحيد؛ في خداع-النفس وخمول الجمهور" ينطلق النقد المطلق من دوغما الاعتقاد بالكفاءة المطلقة للروح، ويضيف إليه دوغما الاعتقاد الآخر بوجود الروح فعلياً خارج العالم؛ هذا يعني وجود الروح خارج كتلة الإنسانية. وأخيراً يحول "الروح"، "التقدم" من جهة، و "الجمهور" من جهة أخرى، إلى كيانات ثابتة، إلى مفاهيم، من ثم رد أحدهما إلى الآخر كأطراف (ميتافيزيقية) جامدة. لا يحصل للنقد المطلق أن يسبر غور "الروح" في ذاته، وأن يرى فيما إذا كانت "عبارة" "خداع-النفس" و "الخمول" متجذرة في الطبيعة الروحية، والادعاءات الفارغة للروح ذاته. كلا، إن الروح مطلق، ولكنه ينقلب في نفس الوقت لسوء الحظ، باستمرار إلى "انعدام الروح"؛ إنه يعتقد باستمرار من دون وجود شبحه (جسده). هو إذن بالضرورة بحاجة إلى خصم يتآمر ضده. ذلك الخصم هو "كتلة الجمهور". الامر نفسه بالنسبة للـ "التقدم"؛ "مقولة التقدم"، إنها فارغة تماماً ومجردة. إن النقد المطلق بتمييزه البليغ لمقولة "التقدم" بكونها مطلقة، هكذا فإن عليه أن يشرح التراجع بافتراض وجود "خصومة شخصية" للتقدم، هو "الجمهور"(عبارة كررها لينين في الدفاتر). ولأن "الجمهور" ليس سوى "نقيض الروح"، والتقدّم، و"النقد"، يمكن تحديدهما وفقاً لذلك، فقط عبر هذا التناقض الخيالي. "الجمهور" بذلك المعنى، يوجد حيث "اللفظة" يتبناها ما يدعى بالوسط المثقف. هكذا يكون "الجمهور" متميزاً عن الجماهير الحقيقية. وهو موجود بالفعل، فقط بالنسبة "للنقد". إن جميع المؤلفين الشيوعيين والاشتراكيين انطلقوا من هذه الملاحظة المزدوجة: من جهة أولى تبدو حتى أنسب الأفعال الرائعة غير منتجة نتائج رائعة، وتضيع في مبتذلات التاريخ؛ ومن جهة ثانية، إن كل "تقدم الروح" كان إلى حد بعيد تقدماً ضد كتلة الجنس البشري، دافعاً إياه، أكثر من ذلك، إلى وضع غير إنساني. وعليه فقد أعلنوا "التقدم" (أنظر فورييه) أنه طور ناقص ومجرد. وافترضوا (انظر أوين من بين آخرين) وجود عيب أساسي في العالم المتمدّن؛ ذلك هو السبب في أنهم أخضعوا الأسس "الحقيقية" للمجتمع المعاصر لنقد قاطع. قابل هذا النقد الشيوعي في الحال من الناحية العملية حركة الجمهور العظيمة، في تضاد مع السياق التاريخي الذي تطور حتى ذلك الوقت. كان يجب معرفة الاجتهاد، والتعطش للمعرفة، والطاقة الأخلاقية، والاندفاع الذي لا يكل للتطور لدى العمال الفرنسيين والانكليز لكي نستطيع أن نكوّن فكرة عن النبل الإنساني لهذه الحركة" لقد أعاد لينين كتابة هذه الفقرة في "الدفاتر الفلسفية"-خلاصة الأسرة المقدسة"، حيث يجب ملاحظة الاحترام والتقدير الذين يبديهما ماركس نحو الطبقة العاملة الفرنسية والإنكليزية في ذلك الوقت. إلا أن العلاقة بين "الروح" و"الجمهور" تحوي أيضاً معنىً خفياً، سوف يتكشف تماماً في سياق حركة المنطق، لذلك نكتفي هنا بالإشارة إليه. إن تلك العلاقة المكتشفة من قبل السيد برونو ليست أي شيء في الواقع، سوى الاكمال النقدي والكاريكاتوري للمفهوم الهيغلي للتاريخ، والذي هو بدوره، ليس سوى التعبير النظري عن العقيدة الجرمانية-المسيحية للتناقض بين الروح والمادة، بين الله والعالم. يجد هذا التناقض تعبيره في التاريخ، في عالم الانسان نفسه بطريقة، أن قلة مختارة من الافراد كروح فعّالة، تجد نفسها في تعارض مع بقية الجنس البشري، كـ “جمهور بلا روح"، كمادة" إن لينين يسجل هذه العبارة في دفاتره الفلسفية. ولسوف تشغله مسألة النخبة أو الطليعة المنضبطة المثقفة؛ أو هيئة أركان التنظيم البلشفي السري لاحقاً في مسألة التنظيم، في بحر من الفلاحين الاميين المقهورين المهمشين. قلنا في كتابنا الجديد "رسالة في الغنوصية؛ مقالة: دور الفرد في التاريخ": " حقّاً إنّ كل الهناء أو السعادة المادية التي يضعها اليهود، مثلهم في هذا مثل مؤلفي" la sibylle " ويرونها نهاية التقدّم، ليست شيئاً في رأي فيلون، إذا قورنت بالتقوى والمعرفة الحقّة لله. هذه السعادة لا تتعلق إلا بالجسم والأشياء الظاهرية أو الخارجية، بينما خيرات النفس أو الروح هي الخيرات الحقيقية. ولكنْ حينئذٍ على ما يرى فيلون، يكون على التقدم الخارجي والتاريخي للشعب أن يترك مكانه للتقدم الداخلي والمعنوي أو الأدبي. وهذا النوع من التقدّم لا يمكن أن يتمّ تصوّره، كتقدم لشعب بأسره ولكن فقط، كتقدم لشخص أو أشخاص." "(رسالة في الغنوصية ص 12) يفترض المفهوم الهيغلي للتاريخ روحاً مطلقاً، أو مجرداً، والذي يتطور بطريقة يكون فيها الجنس البشري كتلة محضة تحمل الروح بدرجات مختلفة من الوعي أو عدم الوعي. هكذا في إطار التاريخ الظاهري، التجريبي، يفسح هيغل المجال لتطور تاريخ نظري، باطني. (يمكننا هنا مقارنة هذه الفهم الهيغلي، بفهم فيلون للتقدم المعروض أعلاه.) هكذا يصبح تاريخ الجنس البشري هو تاريخ الروح المجرد للجنس البشري، لذلك فإن الروح العلمي يفارق ويتعالى على الانسان الفعلي، ويسمى بالعقل الفعّال. وبالتوازي مع هذا المذهب الهيغلي، كانت تنمو في فرنسا نظرية (تعاليم) "المذهبيين"، الذين كانوا يعلنون عن سيادة العقل، بالتضاد مع سيادة الشعب، وذلك من أجل إقصاء الجماهير، والتفرد بالحكم. إنه موقف متسق تماماً. فإذا كانت نشاطات الجنس البشري الفعلية لا شيء سوى نشاط كتلة من الافراد، عندئذٍ بالمقابل، على التجريد الشمولي، العقل، الروح، أن يمتلك تعبيراً مجرداً محصوراً بقلة من الافراد. في هذه الحالة يعتمد كل فرد على موقعه وقوته التخيلية في ان يطالب لنفسه هذا التمثيل لـ "الروح". والمذهبيون جماعة من المفكرين الفرنسيين في عهد "إعادة المَلَكية" (1815-1830) من أنصار الملكية الدستورية. كانوا أعداء ألدّاء للحركة الديمقراطية والثورية، وكانوا يرغبون في تأسيس كتلة من البورجوازية والطبقات الراقية في فرنسا على الموضة الإنكليزية. كانت هذه الجماعة تعبر عن مصالح البورجوازية وقسم من الارستقراطية العقارية. وقد أطلق عليهم اسم "المذهبيون" بسبب الطابع العقائدي الذي كانت تتسم به آراؤهم. ومن أكثرهم شهرة المؤرخ ف. غيزو والفيلسوف بول روير-كولار. بالفعل، يجد الروح المطلق للتاريخ لدى هيغل مادته في الجمهور ويجد تعبيره الملائم فقط في الفلسفة. لكن، الفيلسوف العضو الوحيد، الذي يصل من خلاله، الروح المطلق صانع التاريخ إلى وعي-الذات، يصل بعد انتهاء العرس، أي بعد فوات الأوان، بعد أن تكون الحركة قد انتهت. تقتصر مساهمة الفيلسوف في التاريخ على هذا الوعي بأثر رجعي (الوعي اللاحق المتأخر)، وتكون الحركة الفعلية قد تحققت بشكل لا واع من قبل الروح المطلق. لهذا السبب يظهر الفيلسوف في المشهد (على المسرح) (بعد انتهاء العرس؛ بعد الدخلة) بعد الحدثpost festum [after the event]. هيغل مذنب لكونه يقترف نقيصتين: الأولى، بينما يعلن أن الفلسفة هي الصيغة الفعلية لوجود الروح المطلق، يرفض أن يعترف بالفرد الفلسفي الفعلي (الفيلسوف) على أنه الروح المطلق؛ الثانية، هو يدع الروح المطلق كروح مطلق يصنع التاريخ فقط في "الظاهر". ولكون الروح المطلق يصبح واعياً بذاته مبدعاً (خالقاً) عالم الروح في الفيلسوف، فقط بعد فوات الأوان (بعد انتهاء الحدث)، لهذا فإن صنعه لوقائع التاريخ الفعلية تكون في الوعي فقط، في رأي الفيلسوف وتصوره؛ بمعنى أنها تكون فقط في تخيله النظري. إن السيد برونو يغطي نقائص هيغل. يمحو النقد النقدي نقيصة هيغل الثانية بتخليه عن صنع التاريخ وتحوله إلى روح العالم، مقابل الجمهور الذي هو مادته. هكذا يختزل عمل تغيير المجتمع إلى النشاط الذهني للنقد النقدي المُشخَّص ببرونو بوير وجماعته. إن سائر التناقضات قد حُلت في هذا التناقض النقدي (الروح-الجمهور). يقول ماركس: إن النقد النقدي الذي لا يصبح موضوعاً لذاته إلا في العلاقة مع نقيضه (الجمهور)؛ الحماقة، هو مضطر أن ينتج هذه النقيضة لنفسه باستمرار. هوامش: 1- جِلْواز: تعني رجل الشرطة بالآرامية 2 - يذهب Scuter إلى أن Sybilles سابق لعهد فيلون. وهي قصائد (أقوال) سيبيلية نسبة لسيبيل ربة القمح. وكانت إيزيس وسيبيل إلهتين ثاكلتين 3- الأراء الدينية والفلسفية لفيلون الإسكندري، تأليف الاستاذ إميل بريهيه ترجمه وراجعه الدكتور محمد يوسف موسى-الدكتور عبد الحليم النجار. إدارة الترجمة بوزارة المعارف-القاهرة 1954 ص 20
#نايف_سلوم (هاشتاغ)
Nayf_Saloom#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-الأسرة المقدسة- تحقيقات وتعليقات: نسق عالم -أسرار باريس-
-
-الاسرة المقدسة- تحقيقات وتعليقات: السرّ كـ -سُخرية-
-
-الاسرة المقدسة- تحقيقات وتعليقات-سر الاستقامة والتقى
-
-الاسرة المقدسة- ؛ تحقيقات وتعليقات - سر المجتمع المثقف
-
الاسرة المقدسة؛ تحقيقات وتعليقات - سر البناء النظري
-
الاسرة المقدسة؛ تحقيقات وتعليقات: النقد النقدي -بسِمات تاجر
...
-
الدولة الديمقراطية العلمانية والدولة المدنية
-
-الاسرة المقدسة- تحقيقات وتعليقات-حاشية نقدية رقم 5
-
-الأسرة المقدسة- تحقيقات وتعليقات حاشية نقدية رقم 4
-
محنة الديمقراطية والوطنية في مشروع بناء الدولة العربية
-
نقد فلسفة التوسير
-
في مفهوم الحضارة وتطوره
-
مثلث هنري كيسنجر
-
العلمانية، الديمقراطية، المواطنة
-
مشروع الممر الاقتصادي الهندي-الأميركي
-
الدولة السورية الحديثة: تواريخ ومحطات-2
-
سوريا الحديثة: ثلاثة عهود
-
الدولة السورية الحديثة تواريخ ومحطات-1
-
-الأسرة المقدسة- تحقيقات وتعليقات- ترجمة مميزة رقم 3
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-1
المزيد.....
-
محللون: أميركا تساعد إسرائيل على قتل الفلسطينيين تحت مظلة وق
...
-
-بيقولي الولد مات.. مش في هدنة!- غزي يصرخ مفجوعا بوفاة طفله
...
-
حظر تجول في عاصمة تنزانيا عقب انتخابات شهدت أعمال عنف
-
-حميدتي- يتأسف لأهل الفاشر ويتعهّد بتوحيد السودان
-
غزة:هل انهار اتفاق وقف إطلاق النار؟
-
المغرب: محاكمة 2480 شخصا على خلفية مظاهرات -جيل زد 212-؟
-
ليبيا: السلطات تمهل أطباء بلا حدود حتى التاسع من نوفمبر لمغا
...
-
النيابة العامة المغربية: الأحكام الصادرة بحق محتجين شباب لم
...
-
مشهد لا يُصدق... قرشان في شوارع غارقة بعد إعصار ميليسا؟
-
أكثر من 100 قتيل في -أعنف حملة للشرطة- بالبرازيل
المزيد.....
-
قراءة تفكيكية في رواية - ورقات من دفاتر ناظم العربي - لبشير
...
/ رياض الشرايطي
-
نظرية التطور الاجتماعي نحو الفعل والحرية بين الوعي الحضاري و
...
/ زهير الخويلدي
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|