نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري
(Nayf Saloom)
الحوار المتمدن-العدد: 8427 - 2025 / 8 / 7 - 16:12
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
يقول ماركس: إن سر البحث النقدي في "أسرار باريس" إنما هو سر "البناء النظري" The Mystery of Speculative Construction)؛ أو البناء الهيغلي. بعد أن وصف السيد شيليغا "الهمجية في قلب التمدن، وانعدام الحقوق في الدولة" بـ "السر" فإنه قد جعل أخيراً من "السر" بداية نشاطه النظري."
إن ديانات "الاسرار" هي بدايات لديانات كونية "تخيّلية" تأسيسية (كون نوراني)، هي التمهيد لديانات الأنبياء، بالتالي هي مذاهب اجتماعية تاريخية معنية بالتحولات الكبرى وتأسيس العالم الجديد. لا يجوز خلط هذا العلم الاجتماعي التاريخي بالعلم الطبيعي. من هنا فإن مقالة "الثمرة؛ الجوهر" غير موفقة في الوصول إلى المطلوب، لأنها تخلط شكلين للعلم، ولا تميز بين الطريق الصاعد (الديالكتيك الصاعد) وهو طريق البحث والاستدلال، ومجاله العلم الاستدلالي الطبيعي، وبين العلم الاجتماعي التاريخي بطريقيه الصاعد والنازل (الهابط)، أي (البحث والعرض) والنظرية والممارسة.
إن العيب الرئيس للبناء النظري كما يتجلى لدى شيليغا أنه يجعل "السر" بداية نشاطه النظري، مع أن المفروض في "السر" أن يكون بداية النشاط العملي والممارسة العملية؛ أي أن يكون السر برزخاً بين النظرية والممارسة: نهاية العلم وبداية العمل، منتهى النظرية وبداية الممارسة العملية السياسية التاريخية.
يلفت ماركس الانتباه إلى اختلاف عمل هيغل عن أعمال تلامذته المحرِّفين بالقول: يتقن هيغل بمهارة السوفسطائي (الصوفي) عرض سياق انتقال الفيلسوف من موضوع إلى آخر بواسطة الحدس الحسي والتصور (التخيلي والشخصي) وكأنه السياق ذاته للكائن التصوري المتخيل، للذات المطلقة. فهو انطلاقاً من الكائن التصوري التخيلي، من الشخص "السر" الذي هو في أصل الكون التخيلي التأسيسي (النوراني) قد ولد كائنات طبيعية حقيقية، هم أشخاص الرحمن ورجال الدعوة الجديدة (كوادر الحزب البلشفي، أو الأمير الحديث). إنه حقق معجزة. وكون هيغل الفيلسوف التأملي النظري لا يعرف الممارسة العملية إلا في التصور فقد أقحم في داخل الطريق الهابط؛ طريق الممارسة التاريخية العملية، طريقاً صاعداً، ليقنع أصحاب الاستدلال العقلي الطبيعي بأنه بعيد عن الخرافة في الفكر.
يقول ماركس: لكنه يحصل لهيغل فيما بعد، في كثير من الأحيان أن يعطي ضمن بحثه النظري، عرضاً واقعياً (استدلالاً عقلياً طبيعياً) يدرك الشيء ذاته"
واضح أن هيغل هنا يعرض للقارئ الطريق العقلي الاستدلالي لمعرفة الشيء في ذاته ضمن عرضه للطريق الهابط؛ طريق الخلق التاريخي المُعْجِز. ليؤكد للقارئ أن هذا الطريق في ذهنه غير منسي أو مجهولاً لديه.
يقول ماركس: إن هذا البسط الواقعي في داخل البسط النظري يدفع بالقارئ إلى اعتبار البسط النظري وكأنه بسط واقعي، والبسط الواقعي وكأنه بسط نظري". يعلق لينين في "الدفاتر الفلسفية" بالقول: هذه ملاحظة من أهم الملاحظات: يحدث في أحيان كثيرة لهيغل أن يعطي داخل عرضه النظري عرضاً واقعياً يدرك الشيء في ذاته" (دفاتر فلسفية)
والحق يقال أن هيغل ونظراً لغياب الممارسة التاريخية السياسية الفعلية يلجأ إلى هذا العرض ليبين كلا الطريقين الصاعد والهابط بطريقة صوفية. يشفع له غياب شروط الممارسة العملية التاريخية. ففي زمنه لم تكن البروليتاريا قد ظهرت بعد كقوة سياسية في أوروبا الغربية. فهيغل توفي سنة 1831، أي قبل ما يقارب العقدين من قيام وفشل ثورات 1848 الديمقراطية في فرنسا وألمانيا.
ننقل قول ماركس حرفياً: إن أسرار البناء النظري ستتكشف أكثر في عرض السيد شيليغا، خصوصاً وأن له على هيغل، بلا جدال، ميزة مزدوجة. من جهة أولى، أن هيغل قادر بمهارة المعلم السوفسطائي على عرض سيرورة (سياق داخلي) الخلق التصوري للذهن نفسه، للذات المطلقة، كأنها السيرورة التي ينتقل بواسطتها تفكير الفيلسوف خلال الحدس الحسي والتصور من موضوع إلى آخر. من جهة أخرى، يقدم هيغل في غالب الأحيان، عرضاً للحقيقة الواقعية يدرك الشيء بذاته (في ذاته) ضمن عرضه النظري، إن هذا البسط الواقعي ضمن البسط النظري يدفع القارئ إلى اعتبار البسط النظري كبسط واقعي والبسط الواقعي كبسط نظري."
إن إدراك "الجوهر" بوصفه ذاتاً، بوصفه سيرورة باطنية؛ بوصفه سراً، بوصفه شخصاً مطلقاً (محمد كتشخيص لكمال العلم). يشكل بهذه الطريقة الصفة الجوهرية للمنهج الهيغلي."
قلنا في "فنومينولوجيا الروح؛ أحاديث وأقوال":
إن (تذوّت الجوهر)
أو تشخُّصه
يَعْرض على الحقيقة
رأس المقولات الهيغلية
ومقولة مقالات القرآن
إيّاك نعبد على الحقيقة
وإيّاك نستعين على الشخص
إنها عبارة الهيغلية الشاملة
والبداية والنهاية في القرآن
فالجوهر إذ يكون حياً
لا يكون إلا كذات (كأشخاص)
هم رجال الرحمن وعباده
(وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63]
قال ابن عربي في خطبة كتابه العظيم "الفتوحات المكيّة" وتحت عنوان "تأملات في الحقيقة المحمدية": "والصلاة على (محمد) سرّ العالم ونكتته، ومطلب العالِم وبغيته" (الفتوحات المكية، السفر الأول ص 43)
يقول ديريدا: إذا كانت "السمة الصوفية" للبضاعة، وإذا كانت "السمة اللغزية" لإنتاج العمل
بوصفه بضاعة تولد من "الشكل الاجتماعي" للعمل، فيجب أيضا ً تحليل ما لهذه
الصيرورة من لغز خفي أو سر، هو سر الشكل البضاعيّ. ذلك لأن السر يقوم
على "الالتباس. وهذه الكلمة لماركس. “فهؤلاء الذين يبحثون عن أنفسهم في
البضاعة قد ضلّوا السبيل فلا يوجدون، فالبشر لم يعودوا يتعرفون فيها (في
البضاعة) السمة "الاجتماعية" لـ "عملهم الخاص" (أطياف ماركس ص 288)
وفي العربية: سر: إخفاء الشيء، والسر ً: خالص الشيء؛ محض الشيء وخالصه ومستقرّه. ومنه السرور؛ لأنه أمر خال من الحزن، والسُرة: سرة الإنسان: وهو خالص جسمه وليّنه.
والسر هو الإنسان ذاته. عن أبي عبيدة قال: أسررت الشيء: أخفيته، وأسررته أعلنته (وأظهرته) (معجم مقاييس ج3 ص 67-68) واللفظة من أضداد اللغة.
إن مختلف البضائع هي تجليات لقوة عمل العامل في زمن اجتماعي ضروري محدد تاريخياً، إن خصائص جسد البضاعة هي التي تجعلها نافعة ومفيدة للاستعمال، لكن قوة العمل العامل التي لا شكل لها (مُنزّهة عن الصفات) هي التي تخلقها وتحوّلها إلى هذا الشكل النافع بالتحديد. إن فكرة الجوهر المتحول إلى ذات خالقة تنطبق على الانسان وعلى العلم التاريخي الاجتماعي، لكنها تظهر خرافية في علم الطبيعة والعقلانية الطبيعية والاستدلال الطبيعي على الشيء في ذاته.
يرصد هيغل "الجوهر" الذي حصل عليه بالبحث عبر الاستدلال العقلي والطريق الصاعد، وقد انقلب وتحول إلى شخص أو اشخاص يدعون لتأسيس مجتمع تخيّلي جديد. وكون هيغل ليس لديه أشخاص تاريخيين فعليين يدعون لدولة من نمط جديد ومجتمع جديد (كما حصل في الدعوة المحمدية، وكما حصل في البلشفية) فهو يخلط الطريقين في حركة صوفية غامضة.
أما زليخا (شيليغا) كما يقول ماركس: فإن الصعوبتين تسقطان. إن جدليته تتجنب كل خداع وكل تصنّع" لأنه على ما يبدو غير منتبه لخطورة شأن العرض المزدوج لدى هيغل. إنه الان يسمو إلى مستوى نظري حقاً، إلى مستوى هيغل، ويحوّل السر إلى ذات مستقلة تتجسد في المواقف والأشخاص الحقيقيين"
إن ملاحظات لينين على الهامش تؤكد على اعتراض ماركس على صوفية ديالكتيك هيغل، وفي نفس الوقت إشادة واضحة بهذا الديالكتيك. وهنا يقتبس لينين استشهاداً مطولاً من تذييل الطبعة الألمانية الثانية من رأس المال، حيث نقتطف منه قول ماركس: ولكن هيغل على الرغم من أنّه يشوه الديالكتيك بالصوفية، بسبب خطأ الاستبدال عنده، فهو مع ذلك أول من عرض حركته الاجمالية. فهو (الديالكتيك) يسير لديه ورأسه إلى الأسفل، ويكفي إعادة إيقافه على أرجله لكي يستعيد صورته المتزنة تماما". (ماركس: رأس المال، المجلد الاول)
إن إعادة الإيقاف على الرجلين وإعادة الاتزان للديالكتيك لا تكون إلا بإعادة توجيه مقولاته تحت هيمنة ممارسة عملية سياسية تاريخية فعلية. إن فكراً موجهاً لخدمة العمل والممارسة العملية، كما هو فكر ماركس، هو الكفيل بإعادة توجيه مجمل مقولات الديالكتيك توجيهاً تاريخياً مادياً، وهو الكفيل بإيقاف الديالكتيك من جديد على قدميه.
#نايف_سلوم (هاشتاغ)
Nayf_Saloom#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟