نعيمة عبد الجواد
أستاذة جامعية، وكاتبة، وقاصة، وشاعرة، وروائية، وباحثة، ومكم دولي
(Naeema Abdelgawad)
الحوار المتمدن-العدد: 8500 - 2025 / 10 / 19 - 23:14
المحور:
الادب والفن
ذُرى التقدُّم لا تنتهي، وخاصة في عصرنا الحديث هذا الذي يذهلنًا تقريبًا في كل ساعة بطفرة جديدة من التقدُّم العلمي الذي يعد بحياة أفضل للبشرية وتوفير المزيد من الرخاء والرفاهية. وتزامنًا مع بدء حركات التقدُّم، حرص الإنسان على سنّ مجموعة من القوانين المنظمة لحياة البشر والتي تضمن تحقيق ما هو سائد من شعارات رنانة؛ كالمساواة والحرِّية والعدالة والإيخاء، وغيرها من الشعارات التي حاول البشر تنفيذ بعض لمحاتها، وإن ظلّ الجزء الأكبر منها رهينة للنفس البشرية وأهوائها، مما يجعل التطبيق الفعلي لها مستحيلًا.
ومن أكبر الدلائل على همجية النفس البشرية هو أنه كلَّما زادت وتيرة التقدُّم، كلَّما تزايدت وتيرة الجريمة، التي أصبحت لا تُقتراف على متسوى الأفراد فقط، بل على مستوى الدول، وخاصة تلك الدول المتقدِّمة والتي نشأت فيها الشعارات الرنَّانة وتحاول تطبيقها بشتَّى الطرق. وخير دليل على ذلك هو الحرب العالمية الأولى والثَّانية. فالحرب العالمية الأولى، والتي نشبت في أوروبا مهد الثورة الصناعية، استغلَّت التقدُّم العلمي المذهل – في ذاك الوقت – في محاربة بعضها البعض، بعد أن كانت في الحقب الأقل تقدُّمًا تستخدم أسلحتها في استعمار الدول التي لم تستطع مماراة تقدُّمها. ولو كانت الحرب العالمية الأولى بشعة، فالحرب العالمية الثَّانية كانت أكثر بشاعة وهمجية. ومن أكثر الوقائع فتكًا ودموية كانت إلقاء قنابل ذرِّية على مدينتي هيروشيما ونجازاكي، في اليابان، دون أدنى إحساس بالذنب.
وحاليًا، في عصر الذكاء الاصطناعي، نجد البشر يصيبهم أمراض نفسية عدة، لدرجة اعتبار مصابي الاكتئاب كما لو كانوا يشعرون بالصداع؛ فلقد صار أمر معتاد، حتى ولو كان المصابين من الأطفال. ناهيك عن إندلاع الحروب والمناوشات والنزاعات في بقاع كثيرة من الكرة الأرضية، والتي أصبحت بأكملها منطقة مشتعلة يسيطر عليها الأفكار الاستعمارية والنزاعات الدَّاخلية والخارجية. في حين أن الشعوب التي تقع في منطقة متوسِّطة من التقدُّم غالبًا لا تعاني إلَّا من مشكلات اقتصادية تؤرقها. ومن المحزن حقًّا، هو تسارع صعود التيَّارات اليمينية المتطرِّفة في أرقى ديمقراطيَّات العالم.
ولقد حاول الفيلسوف الإيطالي "جوليوس إيفولا" Julius Evola (1898-1974) سبر أغوار العلاقة الطردية لاقتران التقدُّم بالهمجية. وتجدُر الإشارة أن هذا الفيلسوف يعد من أكثر الفلاسفة التي اجتمع على كرهها تقريبًا الجميع. ولو كانت التيَّارات الأصولية في الماضي تحرق الكتب لاعتبارها العلم مفسدة ومخالفة للقوانين الإلهية، كما حدث إبَّان عصر ابن "رشد"، فلقد حصد "إيفولا" أكبر وأوسع الحركات لحرق كتبه؛ لاعتبارها تخالف المنطق السليم، بالرغم من أن فلسفة "نيتشه" التي كانت تدعو إلى مبدأ إعلاء الإرادة الحرَّة كانت مصدر الإلهام له.، إلَّا أن أفكاره الفلسفية كانت تومن بسلب كلًا من الإرادة والحرِّية من الإنسان، فيما خلا من وضعهم في خانة النخبة. بيد أنه بإعادة قراءة ما سطره من أفكار فلسفية، يلاحظ أنه قد استشرف المستقبل ووضع يده على الكثير من الأسباب لتفشِّي الهمجية بين البشر.
نشأ الفيلسوف الإيطالي غريب الأطوار "جوليوس إيفولا" في أحضان أوروبا الفاشية، وتميَّزت أفكاره اليمينية المتطرِّفة بالتمسُّك بكِّل الأعراف القديمة على نهج أصولي، أضف إلى ذلك محاباته للأرستقراطية، وتمجيده للقيم العسكرية – بالرغم من احتقاره لطبقة المحاربين – وكذلك مساندته للإمبريالية. وعلى نفس النهج، لم يجد غضاضة في مساندة ألمانيا النَّازية وارتباطه بعلاقات معها. ويضاف إلى نهجه الفريد المتطرُّف هذا عمله كمرشدًا أيدلوجيًا لليمين الفاشي الجديد المتشدد الذي ظهر فيما بعد في إيطاليا.
وقد يظن البعض أنّ "إيفولا" كان ينادي بأفكاره الغريبة والمتطرِّفة تلك لمحاباة طائفة سياسية ولخدمة أغراضها، لكنه على العكس كانت تلك هي قناعته الشخصية. فبعد تجاربه المريرة مع الإكتئاب والرغبة في الانتحار، وكذلك بعد اشتراكه في الحرب العالمية الأولى ورؤيته لما حدث فيها من أهوال وتدمير للشعوب، وجد أن أساس تلك الشرور هو السعي وراء الشهوات المادية المطلقة، وهذا ما أطلق عليه مصطلح "كالي يوجا" وذلك مصطلح باللغة السنسكريتية يعني "الحقبة الظلامية". وفي الهندوسية، يعد هذا العصر هو رابع مرحلة في دورات اليوجا الأربع والتي تبدأ ب"الكريتا يوجا" أي "الحقبة الروحانية" التي يكون فيها الإنسان على سجيّته كالصفحة البيضاء، وتزداد وتيرة الروحانية في الحقبة التي تليها، وبعدها تبدأ حقبة من الاعتدال، والتي سرعان ما تنحدر إلى "حقبة ظلامية" يسودها تفشِّي الخطيئة والصراعات. ومن ثمَّ، تولَّد لدى "إيفولا" إيمان راسخ بضرورة مجابهة "الحقبة الظلامية" بالرجوع إلى القوة الروحية العليا، ويكون ذلك بفرض التسلسل الهرمي للسلطة وتفعيل النظام والانضباط والطاعة.
يعتقد "إيفولا" أن الشكل الهرمي لتنظيم شكل الحياة البشرية يجب أن يقوم على الصفات الجوهرية الروحانية للأفراد، بعيدًا عن هيمنة الثروة أو السلطة، وبهذا يمكن الحفاظ على التسلسل الطبقي الذي يضمن حياة أفضل. فالمجتمع المثالي عند "إيفولا" هو ذاك الذي يسلِّم مقاليد السُّلطة والحكم وتوجيه الشعوب إلى أيدي النُّخب الفكرية والروحانية، ولا يعني هنا بالنخبة الروحانية طبقة رجال الدِّين؛ فلقد فسدت السُّلطة وساءت حالة الشعوب عندما هيمن رجال الدين على مقاليد الأمور، وبسببهم سادت عصور من الظلام والخطيئة في أوروبا. لكن في رأي "إيفولا" السلطة الروحية تعني الإيمان بقوَّة أعلى تكمن فيما وراء الطبيعة. وبتسليم زمام الأمور للنخبة الروحانية والفكرية، يمكن المحافظة على التقاليد والنظم المقدَّسة.
ولم يكتفِ "إيفولا" بالتوكيد على تلك الأفكار اليمينية المتشددة، بل كان عنصريًا ومتعصِّبًا لطبقة النبلاء، ويعتقد أن الجمهور رعاعًا يجب أن يلازموا أدنى طبقة، وليس لديهم أي حق في المُطالبة في اقتسام السُّلطة أو حتى المشاركة فيها بأي شكل، وكذلك يجب عدم وضعهم في أي موقع سلطوي. ويضيف أنه حتى ولو انطوت طبقة الرعاع على بعض الأذكياء، فلا خير فيهم إلَّا في خدمة الطبقات الأخرى. والسبب هو اعتقاده أن تلك الطبقات إن حظيت بالمال وبالقوَّة لسوف يُفسَدون ويَفسِدون. وكان دليله على هذا النظم الديمقراطية التي زجَّت العالم في "الحقبة الظلامية" وهذا لأن تلك النظم سلَّمت السلطة للطبقات الدُّنيا الذي خرج منهم أذكياء كوَّنوا ثروات تعسُّفية أخضعوا بها الجموع كافة وكوَّنوا طبقة الأوليجاركية والتجَّار التي استولت على حكم العديد من الدول.
وعلاوة على هذا، خرجت أيضًا من تلك الطبقة الدُّنيا طبقة المحاربين العسكريين الذين أيضًا تولُّوا السُّلطة وأصبحت لديهم قبضة غاشمة. فالمحاربين في رأيه مكانهم الطبقات الدنيا مع الجمهور؛ لأنهم مجرَّد أدوات في يد من يحرِّكونهم. ولا يعني هذا أن "إيفولا" ضد فكرة الحرب، هو ضد الحروب القائمة على أطماع وانتهاك لحقوق الغير، لكنُّه ظهيرًا ومناصرًا للحروب المقدَّسة، التي تسعى لنشر الخير والرجوع لأول نقطة في سلسلة حقب اليوجا الأربع، وهي نقطة ال"كريتا" التي تعلو فيها القيم الروحية.
وكما هو جلي، فإن "إيفولا" شديد التعصُّب والتطرُّف والعنصرية، لكنه أيضًا استشرف المستقبل عندما اعتقد أن السلطة لسوف تنتقل بأكملها لطبقات الأوليجاركية والتجار والعسكريين، وأنه لسوف تندثر طبقتي الروحانيين والمفكِّرين. وكما يسطر التاريخ، لم تكن الحرب العالمية الأولى هي نهاية "الحقبة الظلامية"، بل بدايتها؛ لكن انتهت تلك الحقبة مع الحرب العالمية الثانية، وبالفعل بدأت مرحلة جديدة، يمكن أن نطلق عليها "كريتا يوجا" أو "الحقبة الروحانية".
بيد أنه يجب الأخذ في الاعتبار أن كل حقبة في دورة اليوجا لا يعود فيها الزمان للخلف، بل تبدأ مرحلة جديدة تتماشى ومتغييرات العصر؛ أي تبدأ ب"كريتا" تتماهى مع الزمان والمكان. ولو كانت "الكريتا" بعد الحرب العالمية الثانية وافقت مستهل الثورة الصناعية الثالثة التي برز فيها دور الكهرباء والألكترونيات، فإن "الكريتا" المنتظرة بعد الحقبة الظلامية الحالية لسوف يكون اللاعب الرئيسي فيها الذكاء الاصطناعي. وهناك احتمالًا كبيرًا أن يتحوَّل الجمهور بالفعل لطائفة من الرعاع بعد أن يستولي الذكاء الاصطناعي على جميع الوظائف التي يمكن أن يمتهنها البشر وتزداد قدرته على فصل البشر أكثر عن العالم الواقعي واغراقهم في العالم الافتراضي بصورة أشمل مما عليه الوضع الآن. وعلى إثر ذلك، لسوف لا يجد البشر سبيلًا سوى الانحدار أكثر في حياة الرعاع ونبذ التفكير المنطقي.
الذكاء الاصطناعي مُصَمَّمًا لأن يصير حجّة فكرية وأدبية واعية، بالإضافة إلى تزويده باللباقة الاجتماعية؛ مما يعطيه الفرصة لأن يتحوَّل لطبقة النُّخبة الروحية والفكرية في أن واحد. ولقد بدأت بالفعل مرحلة تحويل الجماهير لجموع من الرعاع بعد إتاحة الكثير من الحرِّيات ذات الأثر السلبي عليهم وعلى المجتمع بوجه عام؛ ولعل أهمها الانفصال عن الواقع في ظل وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك استحداث ألوان كثيرة من المخدِّرات الكيمائية التركيب التي تدمر ما تبقى من ذكاء وفكر وعقل بين أفراد طبقة الجمهور.
استيلاء الذكاء الاصطناعي على قمَّة الهرم الاجتماعي الذي رسمه "جوليوس إيفولا" لسوف يفاقم تعقيد حياة البشر، مما يجعلنا نتساءل عن طبيعة الصراع والمشكلات التي قد تندلع بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، أو عالم الرقمنة بوجه عام. ولو كنا في بداية "الكريتا"، أي أفضل حقبة، فكيف ستؤول الأمور عندما يصل البشر إلى"الكالي يوجا" أي "الحقبة الظلامية"؟
#نعيمة_عبد_الجواد (هاشتاغ)
Naeema_Abdelgawad#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟