|
العاشقان
محمد أبو قمر
الحوار المتمدن-العدد: 8498 - 2025 / 10 / 17 - 10:09
المحور:
الادب والفن
فوجيء العم ناجي بمن تلف ذراعيها حول عنقه ، ترنح هو وكاد أن يسقط ، لكنها هي احتضنته بقوة ومنعته من السقوط ، في البداية حاول أن يعتذر ظنا منه أنه هو الذي اصطدم بها وهو يحاول أن يحرك قدمه المتصلبة التي تجعله يتخبط في المارة يمينا ويسارا وهو يسير. كان قد خرج من بيته في ذلك المساء ، لم يكن ذاهبا إلي أي مكان ، فقط خرج من بيته هربا من الوحدة ، وخلاصا من الأوجاع التي تكاد تأكل جسده كله ، وخوفا من أن يموت دون أن يري المدينة للمرة الأخيرة. احتضان المرأة له وحمايتها له من السقوط ولّد لديه إحساسا بالحرج الشديد ، تساقطت من عينيه دمعتان ندما علي مجازفته بالخروج من بيته فقد ضعف بصره ، ويعاني من آلام مبرحه في عموده الفقري ، فضلا عن أنه كان قد أجري جراحة لتغيير مفصل فخذه الأيمن الذي تآكل علي مر السنين مما جعله يبدو وهو يسير كأنه يعاني من شلل نصفي. قال للسيدة التي أنقذته من السقوط : أخشي ياسيدتي أن تظنيني متحرشا فكما ترين أنا رجل عجوز ومريض ومن شدة حمقي خرجت الليلة من بيتي لأستمتع برؤية المدينة للمرة الأخيرة وها أنا قد اصطدمت بك لأنني لا أري في الحقيقة لأبعد من كف يدي. لما فتحت المرأة فمها لكي ترد عليه شم نفسها ، حينئذ ارتعد وتعرق بشده وحاول التقاط أنفاسه بصعوبة ، لكنه مد يده المرتعشة وراح يتلمس وجهها لكي يتأكد من صدق إحساسه ، مرر أصابعه علي جبهتها ، أنفها ، شفتيها ، ثم لامس شعرها ليتأكد في أي اتجاه تقوم بتمشيطه ، وبكفيه الاثنتين قبض علي كتفيها كأنه يقيس محيط قوامها ، فجأة ضمها إلي صدره وهو يصرخ غير عابيء بالمارة حولهما ، ناديه!! ، أنت حبيبتي ناديه!! ، يا إلهي!! ، أمن بين هذا الزحام لا أصطدم إلا بك ياحبيبتي ، أين كنت طيلة هذه السنين ؟!! ، ولماذا اختفيت فجأة؟!! ، هل نسيت وعدك لي؟ ، ألم تقولي بأنك ستبيعين الدنيا كلها من أجلي ياحبيبتي؟. انفجر في البكاء وهو يقول لها : كأنك اختفيت منذ ألف عام ياحبيبتي ، ما الذي جعلك تخونين كل وعودك؟ ، بحثت عنك في كل مكان حدثتيني عنه ، لا تقولي أن رجلا آخر كان في حياتك. وضع كفه علي خدها وهو يقول لها : أنظري لحالي ياجميلة ، لقد صرت حطاما حزنا علي فراقك ياحبيبتي . وضعت هي كف يدها علي فمه وقالت له : لا تجهد نفسك بالكلام ياحبيبي ولا داعي لكل أسئلتك ولكل ظنوك هذه ، ثم إنك لم تصطدم بي ياحبيبي ، منذ افترقنا طيلة هذه السنوات وأنا أجيء إلي هنا في صباح كل يوم ولا أنصرف إلا في المساء ، كنت متأكدة أنني سألتقيك هنا يوما ما لأنني أعرف أنك تعشق السير وسط الزحام ، ألم تقل لي ذات مرة أنك تحب أن تسمع همهمات الناس وشكاياتهم وأن في استطاعتك أن تحولها إلي حكايات وأقاصيص ؟. أخذت ذراعه اليمني ووضعتها علي كتفها وأحاطت خصره بيدها اليسري وهي تقول له : ألم تخرج من بيتك لكي تسير وسط الزحام وتشاهد المدينة ؟ ، مال هو ووضع قبلة علي خدها ، فقالت له : إذن هيا بنا نستمتع معا بمشاهدة المدينة والإنصات إلي همهمات الناس ونحن نسير بينهم ، لكنه قال لها : أخشي أنني لن أتمكن من السير كما تتوقعين ، فقالت له ستسير بقدمي أنا ياحبيبي. سارت به عبر شوارع المدينة كأنها تحمله، وكلما سارا بضع خطوات كانت تصف له الأماكن التي يمران بها : نحن الآن أمام محل العاديات الذي تعارفنا فيه للمرة الأولي.... هل تتذكر ما الذي فاجأتني بقوله حينئذ؟! ، ابتسم هو ابتسامة خجلي وقال لها : كنت مبهورا يانادية وكان قلبي يكاد يقفز من حلقي حين رأيتك ولم أكن أعرف ماذا أقول ، لكزته هي بإصبعها في أنفه وهي تقول له : كنت وقحا وظننتك لحظتها شخصا معتوها وأنت بكل جرأة تقول لي : أشعر ياسيدتي أن نهديك يوشكان علي القفز في وجهي ... وحين هممت بالرد عليك فوجئت بك تقول لي : هل يمكنني استعارة أنفك الدقيقة المذهلة هذه ثم مددت يدك بكل وقاحة لتقبض علي أنفي ، قال لها : هل كلامي عن أنفك هو الذي أغضبك يومها وجعلك تقذفين بحقيبتك في وجهي ولم يغضبك كلامي عن نهديك؟، غرق الإثنان في الضحك ، ثم سارا. كانا يتحادثان ويتضاحكان بهذه الطريقه وهما يسيران بين الزحام ، فجأة توقفا وأشارت إليه قائلة : هذا هو الكافيه الذي شهد أول لقاء لنا بعد معركة محل العاديات ، شربنا فيه القهوة في موعد لقاءنا الأول. كانت هي من واعدته ، وهي من حددت ساعة ومكان اللقاء ، إذ بعد أن قذفته بالحقيبة في محل العاديات قبضت علي خناقه بيدها اليسري ، ثم بقبضة يدها اليمني لكمته في أنفه وقالت له : أنت شخص مجنون ولا تعرف معني الحياء ، لكنه هو ربت علي كتفها برفق وبصوت مخنوق قال لها : تزدادين جمالا وبهاء وأنت غاضبة هكذا ، ثم إن أنفاسك وأنت تزعقين في وجهي كأنها نسمة ربيعية تفوح بعطر إلهي ، اعذريني ياسيدتي فحين رأيتك وأنت تتجولين في أنحاء المحل بخفة ورشاقة كاد قلبي يقفز من حلقي . فكت قبضتها عن خناقه وابتعدت عنه خطوة إلي الوراء وركزت نظراتها في عينيه وهو مازال كالمسحور يقول لها : حين أشرت بإصبعك للبائع عن شيء تريدين معرفة سعره انتابني ذهول ، إصبع من العاج مخروط بعناية يشق فضاء المحل ، ثم إنه يضيء ، توهمت لحظتها أن عاديات المحل كلها انتبهت واشرئبت تود كل واحدة منها أن تشيري إليها ، قالت له : أنت تبالغ ، قال هو : أنت خطفت قلبي وزلزلت روحي ولا أعرف الآن في أي اتجاه أمشي إلي بيتي ، ثم استدار وهم بالإنصراف ، لكنها هي جذبته من قميصه ، وبكل ثبات قالت له : في الثامنة من مساء الغد سأشرب القهوة في الكافيه القريب من هنا ، قفز قفزتين في الهواء وانصرف. مازالت تسير به كأنها تحمله وكلما مرّا أمام مكان شهد لهما لقاء قبل أن يفترقا راحا يتبادلان ذكرياتهما مع هذا المكان ، فجأة توقفت وشهقت كأنها رأت شيئا مخيفا ، وقبل أن يسألها لماذا هي مرتاعة هكذا قالت له وهي توشك علي البكاء : المطعم الذي في آخر لقاء لنا وعدتني ونحن نتناول العشاء فيه أنك ذاهب في الغد لتطلبني من أبي! ، رد هو علي الفور : ولكنك تعرفين أنني ذهبت بالفعل إلي أبيك يا إبنة الأغنياء ، اشتد بكاءُها وهي تقول ، لقد تحولت حياتي إلي جحيم أسود بعد انصرافك من بيتنا ذلك اليوم ، ثم توقفت عن البكاء وسألته : هل كان أبوك لصا كما أخبرني أبي ذلك اليوم؟ ، المفاجأة التي أذهلتها هي أنه رد مباشرة قائلا كأنه يتفاخر : نعم كان أبي لصا ، وبكل سخرية أردف قائلا :هل قال لك أبوك ما الذي سرقه أبي؟ راحت تنتحب وهي تقول له : ليتك لم تنفذ وعدك بالمجيء لمقابلة أبي ، بعد انصرافك صرخ في وجهي قائلا إنه لن يزوجني لرجل أبوه لص ، ثم حين اعترضت علي كلامه صفعني وقيدني في غرفتي ولم يسمح لي بمغادرتها إلا بعد أشهر طويله.
عرف الآن سبب ضياعها منه ، وكان عليه أن يخبرها لماذا كان أبوه لصا ، إذ كان أبوه يعمل نساجا لدي أبيها في مصنعه الكبير لنسج القماش الصوف ، استلم راتبه الشهري وخرج في نهاية يوم العمل في طريقه إلي الدار ، في الطريق شاهد زحاما غفيرا أمام أحد المحال التجارية ، أراد أن يري ما الذي يبيع هذا المحل فلعله يفوز بشراء شيء رخيص. دس جسده وسط الزحام حتي وصل إلي فاترينة المحل ، فوجيء بأن هذا الزحام هو لمشاهدة قطعة قماش معروضة بطريقة جميلة ، دقق النظر في القطعة فأدرك أنها من نوع القماش الذي ينسجه وأن هذه القطعة بالذات هي من إنتاجه هو ، فهو الوحيد في المصنع الذي ابتكر عدد وألوان خطوط الطول وخطوط العرض بحيث يخرج القماش وكأنه يحتوي علي نجوم دقيقة متقلبة الألوان ، انتابته دهشة عميقة حين لاحظ سعر المتر المرفق مع القطعة ، فهو يدرك أن عشرات الأمتار التي ينتجها هو في اليوم الواحد لا تتكلف نصف هذا المبلغ المرفق مع القطعه ، خرج من بين الزحام سعيدا وهو يقول في نفسه : لابد أن أفكاري هي التي أعطت لسعر المتر هذه القيمة الكبيرة . في صباح اليوم التالي ذهب إلي العمل كالمعتاد ، وقبل أن يشغل الماكينه لصق علي صدرها صورته الشخصية ، ثم شغلها وراح يرقص أمامها ، في موعد الانصراف كما يفعل كل يوم قطع قطعة صغيرة من انتاجه يجفف بها جسده بعد أن يغتسل ، وبينما هو في الحمام يغير ملابسه لاحظ أن بنطاله مفتوق من الخلف وأن لباسه الداخلي ممزق ومهلهل ، فبدلا من أن يلقي بقطعة القماش في سلة الفضلات كما يفعل كل يوم لفها حول مؤخرته ليواريها من الظهور عبر فتق البنطلون وهو في طريقه إلي البيت ، عند باب الخروج يجري تفتيش العمال المنصرفين واحدا بعد الآخر ، عند تفتيشه هو اكتشف الحراس قطعة القماش الملفوفة حول وسطه ، لم يستمعوا إلي تبريره ، ولم يقتنعوا بحديثه عن أن القطعة لا تصلح حتي لصنع لباس داخلي أو أنها لا تكلف أكثر من قروش قليله ، تم إبلاغ صاحب المصنع الذي فصله من عمله وحرمه من مكافأة نهاية الخدمه . بعد أنهي حكاية لصوصية أبيه قال لها : ليس المهم الآن معرفة هل كان أبي لصا حقا أم أنه كان ضحية ، قطعة القماش ليست هي التي حطمت حياتنا نحن الاثنين ، وإنما العلاقة بين المرتب الشهري الذي كان أبي يقبض عليه في جيبه خوفا من أن يُسرق في الزحام وبين سعر المتر المعلق علي قطعة القماش في الفاترينة هي التي فرقت بيني وبينك ، وستظل هذه العلاقة تفسد حياة أجيال وأجيال قادمة ، قالت له : لا أفهمك ، بكل أسي رد عليها قائلا : أنا نفسي لا أفهم كيف لايستطيع العامل أن يلبس لباسا مما ينتجه . أرادت أن تخلصه من ومضة الأسي التي انتابته فقالت له : لكن حبي لك لم يتأثر بما حدث وظللت مخلصة لك وقد رهنت حياتي كلها طوال فترة فراقنا كل هذه السنوات بحثا عنك ، ثم دفست رأسها في صدره وقالت له : كم أنا سعيدة لأنني تمكنت أخيرا من العثور عليك فهل تحبني كما أحبك ؟ ، احتضنها بقوه وقال لها : ولكن لماذا كنت تبكين بكل حرقة ياحبيبتي عند المطعم ؟ ، قالت : ألم تلاحظ !! لقد أزالوا المطعم ياحبيبي وأقاموا مكانه برجا هائلا ، قال لها : وكيف ألاحظ وأنا لا أري ، ثم قبلها وقال لها : هيا ياحبيبتي نخرج من هذا المكان فقد سمعت ما يكفي من همهمات الناس فكما هو واضح لم يعد للعشاق مكانا يتواعدون فيه ثم إن القلاع التي يقيمونها هذه ستجعل كل عاشقة ترهن عمرها بحثا عن حبيبها في الشوارع مثلما فعلت أنت وتجعل كل عاشق يجازف بالخروج محطما خوفا من الموت وحيدا . استمرا في السير حتي صارا خارج المدينة حيث لا شيء سوي المقابر القديمة ، ويُقال إن ناجي ونادية لم يظهرا في المدينة منذ ذلك اليوم مطلقا .
#محمد_أبو_قمر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخرابه
-
جوهره
-
عشوائيات دينية
-
الهوس بالفصحي
-
مشاريع الوهم
-
الفصحي مش لغتنا
-
قاسم وراشيل
-
قراءه بالمقلوب
-
حارة الشيخ شعبان
-
أنشودة للحياة
-
الشيخ معروف
-
هرتلة شخصية
-
نظرة إلي التراث
-
المستنقع
-
الخطاب الديني
-
ثرثرات
-
المصرية
-
الصليب
-
السبهلله (29)
-
السبهلله (28)
المزيد.....
-
-بطلة الإنسانية-.. -الجونة السينمائي- يحتفي بالنجمة كيت بلان
...
-
اللورد فايزي: السعودية تُعلّم الغرب فنون الابتكار
-
يُعرض في صالات السينما منذ 30 عاما.. فيلم هندي يكسر رقما قيا
...
-
-لا تقدر بثمن-.. سرقة مجوهرات ملكية من متحف اللوفر في باريس
...
-
رئيس البرلمان العربي يطالب بحشد دولي لإعمار غزة وترجمة الاعت
...
-
عجائب القمر.. فيلم علمي مدهش وممتع من الجزيرة الوثائقية
-
كيف قلب جيل زد الإيطالي الطاولة على الاستشراق الجديد؟
-
نادر صدقة.. أسير سامري يفضح ازدواجية الرواية الإسرائيلية
-
صبحة الراشدي: سوربون الروح العربية
-
اللحظة التي تغير كل شيء
المزيد.....
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
-
الذين لا يحتفلون كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|