راندا شوقى الحمامصى
الحوار المتمدن-العدد: 8495 - 2025 / 10 / 14 - 21:50
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
في لحظةٍ تختصر آلام السنين وتطلعات الشعوب، في لحظة لا تشبه سواها، توقّف صخب المدافع ليتحدّث الصمت بلغة جديدة، هي لغة السلام. اتفاق السلام الذي وُقّع منذ ساعات لم يكن حدثًا سياسيًا بقدر ما كان تحوّلًا إنسانيًا عميقًا، يذكّر العالم بأن أرواح الشعوب لا تُقاس بخطوط الحدود، بل بقدرتها على الحلم من جديد.
أشرقت أنباء اتفاق السلام الذي تمّ الإعلان عنه منذ ساعات بين الأطراف المتنازعة، ليكون بمثابة نقطة تحوّل تاريخية في مسار المنطقة والعالم أجمع. هذا الاتفاق ليس مجرد توقيع سياسي عابر، بل هو ميلاد جديد لروح الإنسانية التي أنهكتها الحروب وامتحنتها المآسي.
تجسّد السلام الذي تمّ التوصل إليه مؤخّراً كنبراس أمل ينير دروب الأوطان والمجتمعات، فهذه الاتفاقية لم تكن مجرّد توقيع على ورق، بل انطلاقة لمرحلة جديدة من العيش المشترك والتعاون بين الدول. إن وقع السلام يتجاوز حدود المنطقة التي شملتها؛ فهو يخفف من معاناة الشعوب التي عانت الكوارث والنزاعات، ويحرّر موارد ضخمة يمكن توجيهها للبناء والتنمية بدلاً من الدماء والأسلحة.
في لحظة تختزل قرونًا من الصراع وتُعيد تعريف معنى “البداية”، وُقّع اتفاق السلام الذي طال انتظاره بين الأطراف المتنازعة، لتتبدّل ملامح الشرق من وجعٍ مزمن إلى أملٍ حيٍّ ينبض بالحياة.
اليوم، بينما تراقب العيون حول العالم هذه اللحظة، تهمس الأرض:
“كفى... آن لنا أن نحيا.”
فما من وطنٍ يشفى إلا حين تختار أرواحه الصفح، وما من حضارةٍ تُبنى إلا حين تعود لتؤمن بأن السلام هو شرط الوجود لا ترفه.
وهكذا، في هذه اللحظة المضيئة من التاريخ، يتنفس الشرق من جديد.
من تحت الركام، يخرج صوت الإنسان ليقول:
“لقد تعبنا من الفقد، فاخترنا الحياة.”
وهذا هو الانتصار الحقيقي — الانتصار على الذاكرة الموجعة، وعلى فكرة أن الحرب قدر.
فالسلام ليس توقيعًا... إنه وعي.
وعيٌ يُعيد تعريف معنى الإنسان، ويذكّرنا أننا جئنا إلى هذه الأرض لا لنقتل بعضنا، بل لنكمل بعضنا.
ولعل أعظم ما في هذا السلام أنه أعاد للإنسان مكانته كغايةٍ لا كوسيلة، وككائنٍ خُلق ليكون رسولًا للرحمة لا للانتقام.
لقد تعب الشرق الأوسط من حُمّى النزاعات، من الدماء التي صارت لغة التخاطب بين الأشقاء، ومن الخوف الذي صار جزءًا من هوية الإنسان. واليوم، يتنفس الشرق للمرة الأولى منذ عقود، بعد أن كانت رئتاه مملوءتين بالدخان والدمار.
إنها لحظة استثنائية، ليس لأنها تنهي حربًا بقدر ما تعلن بداية وعي جديد، ومرحلة جديدة من الإدراك الجمعي بأن السلاح لا يبني وطنًا، وأن القوة لا تقاس بكمية الدمار، بل بقدرتنا على العفو، على الإصغاء، وعلى البناء.
السلام الذي تمّ التوصل إليه اليوم لا يُقرأ فقط في بيانات السياسة، بل يُقرأ في وجوه الناس.
في دمعة أُمّ لم تفقد ابنها هذه المرة.
في ابتسامة طفلٍ ينام دون خوفٍ من أصوات الصواريخ.
في رجلٍ عاد من المنفى ليجد وطنه ما زال ينتظره.
هذه الصور الصغيرة — التي لا تلتقطها عدسات الإعلام — هي المعنى الحقيقي للسلام.
إن جوهر هذا الاتفاق يتجاوز الجغرافيا والسياسة، ليصل إلى جوهر الإنسان ذاته.
فالسلام هو شفاء الأرض من ذاكرتها الجريحة، وتطهير الوعي الجمعي من فكرة “العدو الأبدي”.
هو المصالحة الكبرى بين الروح والتاريخ، بين الماضي الذي أنهكنا والحاضر الذي ينادينا لنصنع غدًا مختلفًا.
حين يختار الإنسان السلام، فهو لا يختار التنازل بل الترقّي.
فالحروب لا تنتهي حين تتوقف المدافع، بل حين يتصالح الوعي مع ذاته.
وهذا ما يفعله هذا الاتفاق: إنه يفتح الباب أمام وعيٍ جديد، تُبنى فيه العلاقات على المشاركة لا الغلبة، على الإنسانية لا المصلحة، وعلى التعاون لا السيطرة.
على المستوى الإقليمي، سيعيد هذا الاتفاق التوازن المفقود ويمنح الدول فرصة نادرة لتكريس طاقاتها نحو النهضة الاقتصادية والتكامل الإنساني بدل النزاع والخصام. أما على الصعيد العالمي، فقد بعث هذا الحدث رسالة أمل مفادها أن الإنسانية ما زالت قادرة على إنقاذ نفسها، وأن صوت الدبلوماسية يمكن أن يسمو فوق أصوات البنادق، حين تتوحّد النوايا الصادقة.
وسيعيد السلام الاستقرار إلى أراضٍ هجرتها الحروب، ويمنح الأمن السياسي واجتماعياً الفرصة ليتقدّم بدلاً من أن يكون رهينة الصراعات. كما سيُعزّز الثقة بين الدول المجاورة، ويفتح أبواب التعاون في مجالات الاقتصاد، والطاقة، والتكنولوجيا، وحتى الثقافة والتعليم. وعالمياً، تكتسب هذه الاتفاقيات قيمة رمزية — فهي بمثابة شهادة على قدرة الدبلوماسية على تحطيم جدران العداوة، وتذكير بأن المستقبل الأفضل لا يُصنع بالسلاح بل بالحوار، والالتزام المشترك بالقوانين الدولية والعدالة.
السلام اليوم لا يعني فقط وقف إطلاق النار، بل إعادة الحياة إلى ما توقّف، وإحياء الأمل في قلوب الملايين الذين أنهكتهم رياح الفقد والدمار. إنه بداية صفحة جديدة تُكتب بحبر الحكمة، لا بدماء الأبرياء؛ صفحة تُعيد تعريف مفهوم القوة، لتصبح القوة في القدرة على البناء لا الهدم، في الاحتواء لا الإقصاء، وفي العدل لا الانتقام.
ولعلّ الأثر الأخطر — أو الأعظم — هو ذلك الشعور المتجسّد في نفوس الأجيال القادمة: أنهم لا يولدون في ظلال الخوف والصراع، بل في أفق من الأمل والفرص؛ فحينما يُترجَم السلام إلى واقع ملموس، يتحول العالم من رقعة نزعات متصارعة إلى فسحة تتعايش فيها الإنسانية بأقل الخسائر وأكثر الإسهامات البنّاءة.
إن هذا السلام، وإن كان وليد لحظة، إلا أنه بذرة تُزرع في ضمير العالم، لتثمر مستقبلاً أكثر استقرارًا وعدلاً. ولعل أجمل ما في هذه اللحظة، هو أن الأطفال الذين وُلدوا اليوم، سيكبرون وهم يعرفون أن هناك من اختار الحياة بدل الحرب... وأن الأمل، مهما خبا، يعود ليضيء العالم من جديد.
فالسلام، في جوهره، ليس مجرد وثيقة تُوقّع، بل طاقة روحية تهزّ الوعي الجمعي للبشرية، تذكّرنا أننا خُلقنا لنعمر الأرض لا لندفنها تحت الركام. إنه لحظة تنوير، يُدرك فيها الإنسان أن الحرب ليست قدرًا، وأن الدبلوماسية ليست ضعفًا، بل أسمى مظاهر القوة الواعية.
إن السلام لا يُغيّر خرائط الجغرافيا فحسب، بل يُعيد رسم خرائط الأرواح. هو البداية التي طال انتظارها، والبذرة التي ستنمو لتصير شجرة ظلّها يسع الجميع. وفي كل طفل ينام الليلة دون خوف، في كل أمّ لم تسمع صفّارات الإنذار، في كل سماء تستعيد زرقتها... يُولد السلام من جديد.
لقد آن للمنطقة التي أنهكتها النيران أن تلتقط أنفاسها. فبعد عقود من الاضطراب، تتّجه البوصلة نحو النور، وكأن الأرض نفسها أرادت أن تستعيد عافيتها بعد طول نزيف. السلام اليوم ليس فقط هدنة بين خصمين، بل هو مصالحة كبرى بين الإنسان وظله، بين التاريخ وجراحه، بين الروح الممزقة والسماء التي لم تفقد الأمل بعد.
سيُقال الكثير عن أبعاد هذا الاتفاق السياسية والاقتصادية، عن فرص التنمية والاستثمار، وعن فتح المعابر وتبادل المصالح. لكن البعد الأعمق، الأصدق، هو ما يحدث في الصمت الداخلي للأمم — حين يبدأ القلب الجمعي لشعوب بأكملها في الإيمان مجددًا بأن الخير ممكن، وأن العدل يمكن أن يُستعاد من تحت رماد الألم.
وعلى الصعيد العالمي، يتردّد صدى هذا الحدث كنبض أملٍ في صدر الإنسانية بأسرها. فقد أثبت هذا السلام أن الدبلوماسية ما زالت قادرة على الانتصار، وأن الحوار – مهما بدا بطيئًا أو هشًا – يملك في جوهره طاقة الخلق التي لا تملكها الحروب.
فالعالم، المرهق من الانقسامات، ينصت اليوم بإجلال إلى الشرق وهو يقول: “لقد تعبنا من الفقد... فاخترنا الحياة.” هذه الكلمات وحدها كفيلة بأن تفتح حقبة جديدة تُكتب فيها السياسات بلغة القلب، وتُدار فيها الحروب بالعقل، وتُبنى فيها الأمم بالحبّ لا بالهيمنة.
وفي العمق، يتجاوز هذا الاتفاق السياسة إلى ما هو أسمى:
إنه تجلٍّ لإرادة الإنسان في أن ينجو من ذاته.
فالبشرية، مهما تفرّقت مذاهبها وأيديولوجياتها، تعود دائمًا إلى تلك النقطة الجوهرية:
الرغبة في أن تُحب وتُحَب، أن تبني لا أن تُهدم، أن تترك أثرًا من نور لا من رماد.
السلام هو لحظة عودة الوعي إلى مكانه الأصلي في فطرة الإنسان، حين كان القلب يعرف أن العدالة والرحمة وجهان لحقيقة واحدة.
وكل سلام حقيقي يبدأ من الداخل — من قرارٍ صامتٍ في قلب كل إنسان أن يتوقف عن حمل الكراهية، وأن يفتح في داخله نوافذ للضوء.
#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟