محمد غفير
الحوار المتمدن-العدد: 8494 - 2025 / 10 / 13 - 10:03
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في لحظة فارقة من التاريخ السياسي الحديث، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 9 أكتوبر 2025 عن صفقة وقف إطلاق النار في غزة، التي أنهت واحدة من أكثر الحروب دموية وتعقيداً في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن خلف هذا الإعلان "التاريخي"، تقف معركة أكثر عمقاً: معركة بقاء بنيامين نتنياهو، الرجل الذي هيمن على السياسة الإسرائيلية لأكثر من عقدين، والآن يواجه أخطر اختبار في مسيرته.
فهل تشكل صفقة ترامب طوق نجاة لنتنياهو من السقوط السياسي؟ أم أنها بداية النهاية لحكم اليمين المتطرف في إسرائيل في ظل عزلة دولية خانقة تهدد وجود الدولة سياسياً واقتصادياً؟
---
أولاً: صفقة ترامب... إنقاذ سياسي أم ضغط قاتل على نتنياهو؟
في 30 سبتمبر 2025، كشف ترامب عن خطة أطلق عليها "يوم السلام العظيم"، تضمنت وقف إطلاق النار الفوري في غزة، وبدء انسحاب جزئي للجيش الإسرائيلي، مقابل إطلاق سراح 30 رهينة إسرائيلية و8 جثث تحتجزهم حركة حماس، وضمانات دولية لنزع سلاح الحركة تدريجياً بإشراف أمريكي ومصري وقطري.
وصف ترامب الاتفاق بأنه "بداية جديدة للشرق الأوسط" (تصريح من البيت الأبيض – 30/9/2025)، بينما اعتبره نتنياهو "صفقة صعبة لكنها ضرورية". إلا أن هذا الموقف أثار غضب اليمين المتطرف في حكومته، خصوصاً إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، اللذين اتهماه "بالخيانة السياسية" والتخلي عن هدف "القضاء الكامل على حماس".
تحليل سياسي نشرته رويترز في 5 أكتوبر 2025 أكد أن الصفقة جاءت بعد ضغط أمريكي غير مسبوق، وأن ترامب لوّح بوقف المساعدات العسكرية مؤقتاً إذا استمر التصعيد. وهنا، يبدو أن نتنياهو، الذي طالما بنى صورته على القوة، اضطر للرضوخ حفاظاً على موقعه السياسي.
من وجهة نظري، هذه الصفقة ليست فقط تنازلاً عسكرياً بل تحول استراتيجي في فكر نتنياهو. الرجل الذي طالما رفع شعار "الأمن أولاً"، وجد نفسه أمام واقع جديد: البقاء في الحكم مقابل الانحناء للعاصفة الأمريكية. وكأن التاريخ يعيد نفسه، فكما أنقذته "اتفاقات أبراهام" في 2020 من أزماته الداخلية، تأتي "صفقة ترامب" اليوم لتمنحه مهلة سياسية مؤقتة وسط سخط شعبي غير مسبوق.
---
ثانياً: اليمين المتطرف... شرارة داخلية تهدد بانهيار الحكومة
بعد ساعات من توقيع الصفقة في 9 أكتوبر 2025، خرج بن غفير بتصريح ناري قائلاً:
"نتنياهو استسلم للضغوط الأمريكية... هذه ليست صفقة سلام بل صفعة للإسرائيليين" (القناة 13 العبرية – 10/10/2025).
هذا التصريح كشف حجم الانقسام داخل الائتلاف الحاكم. فبينما يرى اليمين المتطرف أن التراجع في غزة "خيانة وطنية"، يحاول نتنياهو تصوير الاتفاق كـ"نصر دبلوماسي" يجنب إسرائيل عزلة قاتلة.
استطلاع رأي أجرته القناة 12 الإسرائيلية في أكتوبر 2025 أظهر أن 58% من الإسرائيليين يرون أن الصفقة "إيجابية"، في حين اعتبر 37% فقط أنها "تنازل خطير". المفارقة أن نسبة الثقة في بن غفير وسموتريتش تراجعت إلى 22% فقط مقارنة بـ40% قبل عام واحد.
هذه الأرقام تعكس تحولاً في المزاج الشعبي الإسرائيلي بعد عامين من الحرب. فالإسرائيليون باتوا يفضلون الاستقرار على الأيديولوجيا، والسلام على الحروب اللامتناهية. وهذا يعني أن اليمين المتطرف بدأ يفقد زخمه الشعبي، رغم حضوره الإعلامي القوي.
لكن من ناحية أخرى، لا يمكن تجاهل أن هذا التيار لا يزال يملك أوراق ضغط برلمانية كافية لابتزاز نتنياهو، وإسقاط حكومته في أي لحظة إذا قرر الانسحاب الكامل من غزة أو تجميد الاستيطان في الضفة الغربية.
من وجهة نظري، يمكن القول إن الصفقة لم تضعف اليمين المتطرف نهائياً لكنها كشفت عجزه عن التكيّف مع المتغيرات الدولية. فالمجتمع الإسرائيلي، رغم يمينيته المتصاعدة، بدأ يدرك أن التطرف يهدد استقراره الاقتصادي والأمني.
---
ثالثاً: إسرائيل في مواجهة العالم... عزلة غير مسبوقة خلال عامين
منذ هجوم 7 أكتوبر 2023 وحتى أكتوبر 2025، تعرضت إسرائيل إلى أعمق عزلة دبلوماسية منذ تأسيسها.
فقد ذكر تقرير واشنطن بوست بتاريخ 29 سبتمبر 2025 أن "عدد الدول التي دعمت إسرائيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة انخفض بنسبة 20% مقارنة بعام 2017".
الأمر لم يقف عند السياسة، بل امتد إلى الاقتصاد:
ألمانيا أوقفت بيع الأسلحة إلى إسرائيل في أغسطس 2025.
النرويج وإسبانيا وبلجيكا أعلنت تعليق التعاون العسكري.
الاتحاد الأوروبي بدأ مراجعة اتفاقات تجارية تقدر بـ 4.6 مليار دولار سنوياً.
وفي استطلاع لمعهد بيو للأبحاث (3 أكتوبر 2025)، أبدى 59% من الأمريكيين موقفاً سلبياً من الحكومة الإسرائيلية، مقابل 51% فقط في بداية 2024، مما يؤكد تآكل الدعم الشعبي الأمريكي لإسرائيل، رغم استمرار الدعم السياسي الرسمي من إدارة ترامب.
الكاتب التركي فهمي قندوز كتب في الجزيرة نت – 11 أكتوبر 2025 أن إسرائيل "أصبحت دولة منبوذة سياسياً"، محذراً من أن استمرار نهج نتنياهو سيحوّلها إلى "كوريا شمالية جديدة في الشرق الأوسط".
من وجهة نظري، هذه العزلة ليست مؤقتة، بل أزمة وجودية تهدد مكانة إسرائيل الدولية. فبينما كانت تُقدَّم سابقاً كـ"واحة ديمقراطية" في المنطقة، باتت تُصوَّر اليوم كقوة احتلال متعجرفة تتحدى القانون الدولي.
وإن لم يستطع نتنياهو تغيير هذا المسار عبر تبني نهج أكثر اعتدالاً، فسيواجه انهياراً سياسياً يشبه ما حدث بعد حرب لبنان 2006 لحكومة أولمرت.
---
رابعاً: قراءة مستقبلية – بين الأمل والانهيار
الواقع يشير إلى أن نتنياهو يعيش مرحلة سياسية حرجة. فداخلياً، تحاصره الاحتجاجات الشعبية، وخارجياً، يواجه ضغوطاً دولية واقتصادية متصاعدة.
لكن السؤال الجوهري: هل يستطيع المناورة كما فعل سابقاً؟
تاريخ نتنياهو السياسي يؤكد أنه بارع في النجاة من الأزمات. فمن قضايا الفساد إلى احتجاجات القضاء في 2023، عرف كيف يستخدم الخوف من "العدو الخارجي" لتوحيد الداخل.
إلا أن المشهد اليوم مختلف:
المجتمع الإسرائيلي منقسم أكثر من أي وقت مضى.
الثقة بالجيش تراجعت إلى 57% فقط (حسب معهد إسرائيل للديمقراطية – سبتمبر 2025).
الطبقة الوسطى باتت تُحمّل الحكومة مسؤولية "الدمار الاقتصادي" الناتج عن الحرب.
أرى أن صفقة ترامب قد تمنح نتنياهو فترة هدوء مؤقتة، لكنها لن تنقذه من التآكل البطيء. فالمعارضة الإسرائيلية، بقيادة يائير لابيد وبيني غانتس، تستعد لاستغلال أي فشل في تنفيذ الاتفاق لإسقاط الحكومة والدعوة إلى انتخابات مبكرة قد تُجرى في صيف 2026.
---
خاتمة: أمل في عاصفة... أم نهاية لعصر نتنياهو؟
في الختام، يمكن القول إن صفقة ترامب تمثل لحظة مفصلية في تاريخ إسرائيل الحديث. فهي أنقذت نتنياهو مؤقتاً من الانهيار السياسي، لكنها في الوقت نفسه عرّت اليمين المتطرف وكشفت حدود قوته، ووضعت إسرائيل في مواجهة غير مسبوقة مع المجتمع الدولي.
من وجهة نظري، هذه الصفقة هي فرصة أخيرة لنتنياهو لإعادة ترميم صورته وإعادة إسرائيل إلى طاولة المجتمع الدولي.
لكن إن استمر في الاعتماد على اليمين المتطرف، فقد يشهد التاريخ نهاية "عصر نتنياهو"، وبداية تحول جذري في المشهد الإسرائيلي، حيث تعود الواقعية السياسية لتحل محل الأيديولوجيا العسكرية.
ومهما يكن، يبقى السؤال مفتوحاً:
هل يستطيع نتنياهو النجاة مرة أخرى، أم أن هذه الصفقة ستكون خاتمة رجل أنهكه البقاء في العاصفة؟
#محمد_غفير (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟