جواد بولس
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 02:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من انتصر في غزة هذا سؤال الموتى والمقهورين!
في خضم الدمار الذي خلفته الحرب الاسرائيلية على غزة وتجاهلا لاعداد ضحاياها وما أفضت اليه من تداعيات سياسية على جميع المستويات والمحاور يبرز سؤال مريب، وهو من أنتصر في هذه الحرب ؟
وهو سؤال على بساطته الظاهرة، يخفي وراءه شبكة معقدة ومتشابكة من السرديات والتوظيفات والدوافع السياسية التي تجعل التوافق على معنييّ "الانتصار والهزيمة" أمرا مستحيلا.
فعلى الساحة الاسرائيلية نجد أن الخلاف الأساسي يدور بين مؤيدي حكومة نتنياهو وبين معارضيها. اذ يدّعي نتنياهو أنه نجح في ترميم قوة الردع الاسرائيلية التي تضعضعت بصورة غير مسبوقة جراء هجوم السابع من أكتوبر 2023، ونجح كذلك بتحقيق شكل من أشكال الحسم العسكري ضد حركة حماس في قطاع غزة، وحلفائها في "معسكر المقاومة" لا سيما بعد القضاء على قيادات الحركة العسكريين، وتفكيك منظوماتها القتالية .
معارضو نتنياهو داخل اسرائيل يتهمونه بفشل تحقيق أهداف الحرب التي أعلنها في البداية وهي، استعادة الرهائن المحتجزين في قطاع غزة، وترميم ثقة الشعب بالمنظومات الأمنية والعسكرية، واستعادة وحدة "الروح القتالية" اليهودية، وهي أهم عوامل حصانة الدولة العبرية، والقضاء على حركة حماس بالكامل . فعلى الأرض، هكذا يدّعي معارضوه، رغم مرور عامين كاملين لم تستسلم حركة حماس، أي أنها لم تهزم ، بل ما زالت تحتفظ بوجود ميداني وتنظيمي عسكري مكّنها أن تقبل كعنوان معترف به اسرائيليا ودوليا في المفاوضات ، فضلا عن استمرارها بتهديد اسرائيل وتنفيذ عناصرها بعض العمليات العسكرية الاشتباكية مع جيش الاحتلال.كذلك يتهمه المعارضون بفشله في استعادة الرهائن حتى بات الافراج عنهم مخاطرة على حياتهم وخيارا تتدخل فيه حكومات عديدة وخاضعًا لتفاهمات معقدة لم تفلح آلة حربه من اجتنابها.
قطاعات اسرائيلية واسعة تراجعت عن تأييدها لحكومة نتنياهو وتفويضها له بمعاقبة حماس عسكريا، بعد أن اتضح لهم بأن استمراره بها يخدم أهدافه الحزبية ومصالحه الشخصية، ويعكس، في الوقت ذاته، تورطه في أزمة سياسية تلزمه باطالة الاقتتال ضد الفلسطينيين وليس انهاء الصراع معهم. لقد عادت حالة الانقسام الاسرائيلي الداخلية الى وضعها ما قبل السابع من اكتوبر، ولم يعد لشعار "معا سننتصر" أي معنى، فالحرب التي وحدتهم قبل عامين تحوّلت الى حالة خلافية صدامية داخلية لا نعرف كيف ستنتهي .
على الضفة الأخرى، تقدم حركة حماس سردية مختلفة تمامًا لمعنى "الانتصار والهزيمة". فوفقًا لمفاهيم قادتها لا يقاس النصر بمقاييس القدرة العسكرية وما تتيحه لأصحابها من سيطرة على الأرض أو قوة لتدمير البنى التحتية ومعالم العمران كلها ولا لعدد الضحايا. فحماس تعتبر هجومها في السابع من أكتوبر 2023 نقطة تحول مفصليه في "حرب التحرير" والمواجهة مع اسرائيل؛ وزلزال أمني ستبقى نتائجه الرادعة محفورة في وجدان الاسرائيليين الذين عاشوه ووجدان من سيأتي بعدهم. أما الانتصار، وفق هذه المفاهيم "الحماسية"، يعني القدرة على الصمود والحركة وتحدي هيبة جيش العدو، شريطة أن تفضي جميع هذه العوامل الى خلخلة المعادلات الاقليمية أو نسفها .
كما في اسرائيل كذلك في فلسطين لا يوجد اجماع حول مواقف حماس وتسويغاتها لما جرى ويجري بعد هجمتها المباغتة. ولئن كانت الخلافات الفلسطينية- الفلسطينية واضحة قبل السابع من اكتوبر، جاء الهجوم وغطى على عمقها وخطورتها وحجب تردداتها العلنية. ولكن مع مرور الأيام عاد الخلاف الى حدته المعهودة ولحالته القديمة التي قد تحسم فقط في "اليوم التالي" أي بعد انتهاء الحرب، ووفقا لما سيفصله أصحاب النفوذ والمصالح والمخاوف والمطامع وأحكامهم في توزيع الغنائم.
بعض الفلسطينيين وأصدقاء فلسطين، بدأوا يطرحون تساؤلات، قد يعتبرها البعض إشكالية في هذه المرحلة. فهل يمكن، مثلا، لفصيل مقاوم، كحركة المقاومة الاسلامية - حماس، خاصة أنها ليست جزءًا من منظمة التحرير الفلسطينية، اعلان الحرب واعلان الانتصار فيها وأهل غزة ما زالوا يرثون أنقاض مدنهم ومخيماتهم وهي تتحول الى أرض يباب. وما زالوا يحصون قتلاهم وجرحاهم يوميا بالعشرات والمئات، وقوافل النازحين والمهجرين تمتد طوابير لا تنتهي أو هل يبرر صمود الفصيل وبقاؤه "حيا" ادعاء نصره وامتلاكه حقا فلسطينيا شرعيا للدخول في مفاوضات يغيب عنها، على الأقل في هذه المرحلة، مصير أختيها الضفة الغربية والقدس؟
لا تحرج هذه التساؤلات قادة حماس ولا يحرجهم التذكير بمواقفهم من منظمة التحرير أثناء مفاوضات أوسلو ومن السلطة وهي تتفاوض مع العدو ومع حلفائه، فهم على قناعة ،كمن يواجهون الحرب على أرضهم،بأنهم يملكون الحجة والأجوبة. هم يعتبرون ما دفعة ويدفعه أهل القطاع جزءًا من عملية "التحرير الطويل"، وهذه العملية لن تستمر إذا هاب الفلسطيني عدوه واذا لم يتحدَّ قوانينه ومعادلاته في الردع التي يحاول فرضها فقط بسبب امتلاكه قدرات عسكرية فائقة. إن شعبًا كهذا لن ينتصر أبدا.
بعد عامين من حرب ضروس تعيش فلسطين حالة مأزومة وصراعاً على الشرعيات ووسائل المقاومة وأشكالها، وغزة ترسم بالدم مأساة القرن الحادي والعشرين؛ وبعد عامين لم يستطع نتنياهو الحصول على صورة "البطل المنتصر" ومنقذ شعبه من "ارهاب حماس"، بل على العكس تماما، فقد أدخلت حكومته شعبها، ومعهم يهود العالم، في حالة لم يشهدوها منذ مئة عام وخاضت حربا استفزت ضمائر ملايين البشر .
مر عامان على "مغامرة" ما زال أثرها يتداعى ويقلب موازين العدل ومقايسه. عامان أدخلا المنطقة والعالم في أزمة وعجز، حتى لم يعد يوجد معنى "للانتصار المطلق"؛ فلجأت حماس ومثلها نتنياهو للحديث عن "الانتصار" بمفهومه النسبي "وبواقعية" فرضها في النهاية على الجميع "عامل ثالث" كان مغيّبا حتى بعث من بين أنقاض غزه وصراخ جثثها ؛ كان ذلك العامل هو صوت الضحايا التي أخرجت هذه المرة العالم عن صمته .
ففي غزة شاهد العالم "حربًا "من طرف واحد . وفي مثل هذه الحروب غير المتكافئة من أصلها لا يمكن للفلسطيني الضعيف عسكريا الحديث عن انتصارات بمفاهيم "اسبارطية" كما يريدها نتنياهو، ولا تملك حماس الوسائل الكافية لهزيمة اسرائيل . وفي هذه الحرب غير المتكافئة لن تنجح اسرائيل ولا تستطيع أن تحسم المعركة عسكريا الا بثمن تهجير كل الفلسطينيين أو قتلهم، أو أن تتحول إلى قوة احتلالية مباشرة في غزة وهذا خيار لا ترغب فيه قيادات الجيش ولا عدة قوى سياسية أخرى، وجهات دولية كثيرة.
أكتب مقالتي أثناء نشر الأخبار الأولية حول التوصل في شرم الشيخ الى اتفاق وقف اطلاق النار والافراج الأسرى الفلسطينيين وعن الرهائن الاسرائيليين. لم تمنح ، بالعادة، "الضحايا" شرف أن تكون جزءًا من مشهد "الانتصار" في وقت الحرب، بل كانت دومًا مادة الحروب الدعائية وحطبها. وتصبح، بعد انتهاء الحرب، فصلا قصيرا في كتاب يحتكر روايته السياسيون والقادة العسكريون، أو يمنحون على منابر الوعاظ ألقاب "الشهداء" أو "الأبطال "من على منصات الحكام والسياسيين . ولكن قد تغيّر غزة هذه المعادلة.
فمع كل الحيطة والحذر من نوايا إسرائيل وأمريكا،تستدعي الأخبار الواردة التفاؤل، خاصة إذا أدّت إلى وقف اطلاق النار وتمكين الغزيين من الحصول على "بعض"حياة والى الافراج عن مئات الأسرى من سجون الاحتلال .واذا حصل سيعد هذا "انتصارا" للموت على صنّاعه، واذا استمرت الحياة سنسمع أصوات الضحايا الخارجين من صمتهم يغنون " لم يبق لدينا ما نعطيه، أعطيناه دمنا، أعطيناه حتى أعظمنا وجماجمنا ومضينا مقهورين لا نملك إلّا بعض تراب لم نعطيه". أقول اذا وأعرف أن مطامع ادارة ترامب كبيرة وخبيثة ولا تشمل بالضرورة تسديد الدين للفلسطينيين، وحكومة اسرائيل لم تتخل عن مطامعها في أرض فلسطين حتى وإن وقعت على اتفاق المرحلة الاولى التي قد تكون الأخيرة أيضا .
#جواد_بولس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟