جواد بولس
الحوار المتمدن-العدد: 8414 - 2025 / 7 / 25 - 02:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لماذا اخترت الكتابة عن نقولا زيادة؟
وفاء لذكراه ولمسيرته، وهو الذي عانى طفلا من شظف الحياة ومرارتها، وكافح طيلة تسعة وتسعين عاما بعصامية لم تعرف حدودا ولا مستحيلا؛ ولحاجتنا الى أمثاله في هذا الزمن العاقر، حاجتنا الى من يقرأ التاريخ وهو يؤمن على أن الانسان هو جوهره، وان التاريخ ليس فقط ما صنعه الملوك والسلاطين، بل أيضا ما عاشه الناس وواجهوه في قراهم ومدنهم وما حملوه في صدورهم من آمال وخيبات؛
أكتب عنه كي أذكّر أجيال هذه الأيام بقامات أناس ولدتهم فلسطين في زمن الشدة والفقر والأمال الكبيرة، فكافحوا وكابدوا وذللوا الصعاب وكبروا حتى فاضت مآثرهم وملأت أرض العرب؛ واشتدت عزائمهم حتى أقرت بهم مدائن الغرب والعجم.
واكتب إليه، بدافع شخصي، أو ربما سدادًا لدين لم أوفه من طرفي منذ قام بزيارتنا عام 1993 وكانت تلك زيارته الوحيدة لفلسطين بعد ضياعها. فقد جمعتني الصدفة مؤخرا مع أقارب لي وله واستذكرنا قصصنا العائلية ومن بينها كانت قصص العم نقولا وعلاقته بجديّ من طرف أمي مخائيل عبدالله الخوري الذي كان زوج خالته، وجدي من طرف أبي المعلم بولس جبران بولس صديقه "الودود الذي لا ينسى" ،كما كتب هو بخط يده عندما أهداني كتاب مذكراته.
أكتب عن "الشيخ نقولا" ، هكذا كان يحلو لبعض مُجلّيه أن يصِفوه، وستحلّ ذكرى رحيله ، بعد يومين، في السابع والعشرين من يوليو، حيث وافته المنية في بيته ببيروت عام 2006، ودفن فيها بجنازة متواضعة فرضت ظروفها الأوضاع الأمنية التي كانت تخيم على لبنان وقتها.
ولد نقولا زيادة عام 1907 في دمشق، اليها انتقلت العائلة بسبب عمل والده موظفًا في سكة حديد الحجاز. عادت والدته وأولادها الى الناصره في ربيع عام 1916، عقب وفاة الوالد في الشام. انتقلت العائلة الى جنين سنة 1917 بعد أن وجدت أم نقولا عملا مناسبا لها يعيل عائلتها. من جنين بدأت مسيرة كفاحه وطلبه للعلم ؛ مسيرة حاول أن يستجمع فصولها في كتاب أصدره عام 1992 بجزئيين وأسماه "أيامي، سيرة ذاتية"؛ وهو في الواقع أكثر من سيرة ذاتية، لأن "أيام نقولا زيادة" كما أرخها ووصفها، بقلمه السيّال وبأسلوبه الجزل والمميز، تمثّل أكثر من تسجيل لحياته الشخصية وأبعد من نقل تصويري للاحداث التي عاشها وعايشها مؤمنا "أن من يروي ما قرأ في كتب السالفين لا يكون مؤرخا بل ناقلا ،أما المؤرخ فهو من يعيد تشكيل الماضي وقراءته بروح عصره ووعي انساني شامل" .
هكذا مارس نقولا زيادة حياته المهنية وبهذه المفاهيم عمل وانتج ونسج علاقاته الانسانية منذ كان طالبا في دار المعلمين الحكومية في القدس سنة 1921 وبعد تخرجه منها عام 1924 وعودته الى الجليل ليعمل معلما في الناصرة بداية، ثم في قرية ترشيحا ثم في مدينة عكا، وينتقل منها الى مرحلة التعليم العالي في انجلترا ويعود للعمل أستاذا في الجامعة الامريكية في بيروت، اذ كانت عودته الى فلسطين مستحيلة بعد أن سقطت البلاد في عام النكبة المشؤوم.
من يقرأ سيرة نقولا زيادة كما خطها في "أيامي" يُبهر من مقدرته على الغوص في تفاصيل حياة الناس في القرية والمدينة وتعرضه، بريشة رسام، للفوارق الطبقية بينهم ولعاداتهم وتقاليدهم ووصفه لطباعهم وطبائعهم ولوشائج العلاقات ومحركاتها بينهم.
عندما تقرأ سيرته تشعر انك أمام وثيقة زمنية تنقلك عبر محطات التكوين الاجتماعي والسياسي والثقافي لشرق عربي كان يتغيّر تحت وطأة التحولات الكبرى، من سقوط السلطنة العثمانية ومرورا ببدايات الانتداب وغزو الحركة الصهيونية لفلسطين ومعه بدايات تكون الهويات الوطنية وما خالطها من تجاذبات اجتماعية وسياسية وتوترات دينية وطائفية واشتباكها ببعضها او اندماجها القلق والحذر؛ تقرأه وتعيش معه رحلة الشاب الصارم الطموح وحكمة الشيخ وفطنة المؤرخ الذي دعا الى تحرير التاريخ من الأدلجة وقال "ان من يكتب التاريخ ليبرر ، لا يكتب تأريخا بل دعاية" .
كان نقولا زيادة نموذجا للمثقف الذي يرى في المعرفة مسؤولية واداة الى سبر مغاليق التطور الانساني وفهمها. فقراءة "أيامي" اليوم ليست مجرد نزهة في الذكريات بل هي تمرين في مراجعة ماضينا وفهمنا كيف كان يعيش الانسان العربي في بدايات القرن العشرين، في فلسطين تحديدا، في ظل أسئلة كبرى لا تزال عالقة حتى اليوم بدون اجابات وافية عليها، يتقدمها سؤالان: من نحن والى أين نحن ماضون؟
بدأ نقولا زياده عمله كمعلم في الناصرة عام 1924 إلا أنه نقل منها الى مدرسة ترشيحا بعد عام واحد فقط. يخبرنا نقولا انه استأجر دابتين، واحدة له وواحدة لأغراضه، ومشى من الناصرة الى كفرياسيف عن طريق شفاعمرو. وفي كفرياسيف، هكذا يكتب "نزلت عند ميخائيل عبدالله خوري الذي كان زوج خالتي. قضيت ليلتين عندهم. وفي صباح يوم ماطر خرجت من كفرياسيف الى ترشيحا (مشيا) برفقة بولس جبران الذي كان معلما بترشيحا وكان ينزل الى كفرياسيف مساء الخميس ويعود الى ترشيحا صباح السبت" .
بعد ترشيحا نقل للعمل في مدرسة عكا. وعن " أيامه" فيها يحدثنا بوافي الشرح والتفصيل، لكنني اخترت الكتابة عن رحلة قام بها مع زملائه وبعض طلابهم الى مدينة بيسان. في طريق عودتهم مروا بمشروع روتنبرغ، وهو مقر الامتياز الذي منحته حكومة فلسطين لروتنبرغ، بحيث احتكر انتاج وتوزيع الكهرباء للانارة والصناعة، من مساقط نهر اليرموك، في فلسطين كلها باستثناء القدس وجوارها. وبعد الذي رأوه قال "ورأينا هذه التقنية العلمية التي ستبتلعنا مع الزمن ".
ودارت عجلة الزمن؛ وعاد نقولا زيادة، بعد مرور سبعين عاما الى فلسطين، وتحديدا في التاسع عشر من سبتمبر عام 1993 ومكث عندنا اسبوعين.
دخل الى فلسطين عن طريق جسر اللنبي. كان ينتظره هناك مخائيل عبدالله خوري، وهو حفيد مخائيل عبدالله خوري، جدي وجد مخائيل. زار نقولا كفرياسيف أولا وبعدها زار عدة مدن ومواقع في فلسطين. كتب عن هذه الزيارة بأسلوبه المميز خواطر أسماها "رسائل من فلسطين" حتى اذا قرأتها عشت معه الرحلة وتعرفت على فلسطينه كما رأها وأحسها. فتحت عنوان " تغذينا في يافا" كتب عن رحلتنا معه من القدس الى الناصرة ما يلي " قال لي صديقي المحامي جواد بولس ، الذي عرف بدفاعه عن أهل الحجارة ومن جرى مجراهم أمام القضاء المحلي: أنت ذهبت من جسر أللنبي الى كفرياسيف، مع مخائيل ابن خالي عبدالله، بطريق الغور، وجئت من الناصرة الى القدس بطريق جنين ونابلس ورام الله، لذلك يجب أن تكون عودتك من القدس الى الناصرة بطريق السهل الساحلي. ولأننا كنا في رام الله ساعتها نزلنا منها طريق اللطرون." ثم وصف ما شاهده خاصة ونحن نقترب من مشارف يافا ودخولنا الى منطقة مينائها القديم، الذي لم يتعرف إليه، وهو صاحب ذاكرة خارقة، بعد أن غيّرت اسرائيل معالمه. في الطريق مررنا بمحاذاة المستوطنات. كنت أشرح له عنها وكان يصغي بدون أن يبدر منه أي رد فعل. أنهينا غذاءنا وعدنا في المساء الى الناصرة. بعد عودته أرسل لنا من لندن ما وثقه عن الزيارة وما كتبه عن غذائنا في يافا: "قلت فيما بعد للذين سألوني عن يافا: يسر المرء إذ يرى المكان منظما ومرتبا، لكن الألم يحز في النفس، لأن هذا يمثل الاعتداء على أرض الوطن ومدنه وقراه. صحيح اننا تغذينا، فقد كنا جائعين؛ ولكن أقول، والألم يملأ علي نفسي، أنني كدت أن أغص بكل لقمة". قرأت المادة وحزنت، لأنني فهمت انه يتحدث عن ذاك الألم الذي تملّكه عندما وقف أمام مشروع روتنبرغ وخشي من "تلك التقنية التي ستبتلعنا مع الزمن" .
لقد رحل "شيخ المؤرخين" وهو يتأسى على ضياع مستقبل كان ضحية لجهل أصحابه وعبادتهم للماضي بعد أن تخلوا عن دور عقولهم في صناعته. رحل وفي صدره غصات، بعد أن أورثنا حكمة أغفلناها، فالتاريخ،كما علّمنا "لم يكن مجرد علم عن الماضي بل هو مرآة لفهم الحاضر ولاستشراف المستقبل".
رحل العم نقولا زيادة بهدوء كما عاش؛ فلروحه السلام.
#جواد_بولس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟