جواد بولس
الحوار المتمدن-العدد: 8365 - 2025 / 6 / 6 - 03:15
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ماذا لو بقي فيصل الحسيني حيا ؟
في الكويت ، قبل أربعة وعشرين عامًا، رحل فيصل الحسيني بهدوء. هدوء سكن طبعه وهو حي ورافقه في كل معاركه ضد الاحتلال الاسرائيلي، تلك التي خاضها في شوارع القدس وفي ميادينها أو تلك التي أدارها وأشرف عليها داخل دهاليز السياسة وأروقة الدبلوماسية الماكرة.
أقف على شرفة بيتي ويحضنني حنين كثير ودافىء. على مقربة مني كان دوري يهز ذيله على حافة الدرابزين ويسقسق كما كان يفعل، طالبا حصته من خبز ذاك النهار، لكنه توقف عندما أغمضت عيني وسقط منها بعض الرذاذ. كان الوقت عصرا والهدوء يملأ الشوارع. في الجو لسعة برد خفيفة وأمامي ترتفع بنايات ضاحيتي "بيت حنينا وضاحية البريد" بسطوحها الرمادية التي كانت تبدو مهجورة وخائفة ؛ وفي الأفق القريب وراءها ينتصب عدد من المجسمات لرافعات بناء كبيرة وعالية تشهد على وتيرة العمل في المواقع التي يغزوها استيطان الاحتلال بنهم الوحوش الجائعة.
وقفت استعيد نتفا من الذكريات في نفس المكان الذي كنت أقف فيه مع فيصل الحسيني حين كان يزورنا في البيت، وفي غمرة الصورة سألت نفسي ماذا لو لم يمت فيصل في رحلته الأخيرة؟
لقد ذهب الى هناك باذلا آخر أنفاسه في محاولة لرأب صدع فلسطين مع الأشقاء العرب الذي خلّفه نزق السياسة الفلسطينية الملتبسة وغوصها الخاسر في وحول حروب الاخوة الاعداء. ماذا كان ليحصل، أو الأدق لا يحصل، في القدس ولأهلها ؟ سألت نفسي وقد مرّت ذكرى رحيله هذا العام، كما في سائر الأعوام الأخيرة، مرور نحلة فوق كوز صبر بعيد؛ ففي فلسطين يتردد الوجع بموجات لا تتكرر تباعا وكل وجع ينسي الذي قبله. أما في القدس فقد تغيّرت "الخامات" وتبدلت الأرواح؛ فنسى أهلها كيف تستعاد وتصان ذكرى من زرع فسائل العز والأمل في صدور التاريخ ومن واجه العدم بكل جوارحه كي تبقى مدينتهم قدسًا و"فاء ونون" فلسطين بقبابها ومآذنها وأجراسها وصلبانها، حصينة ومنيرة في سماء الغرب والعرب. لقد تقلصت مدينة فيصل حتى عادت مدينة جامع وكنيسة وحائط.
وقفت على شرفتي والهمّ يملأني وغضبي على هذا "الزمن المسخ". وفكرت لو لم يمت فيصل لبقيت للأشياء معانيها الأصيلة، والخيانة لن تصبح مجرد رأي أو وجهة نظر، ولا كانت مقامات السَقَطة والسماسرة "والاذناب" تختلط وتتبدل مع مراتب أهلها المستقيمين والغيورين الذين يقفون في وجه الاحتلال ولا يرضون بفتاته ويقاومون محاولات تدجينهم ويشقون لتحصيل قوت أولادهم بعرق وبشرف ومن غير ذلة.
لو كان فيصل حيا لما رضي بأن تملأ بغاث الطير أجواء المدينة روثًا وزندقة وبلاء؛ ولسعى، أولا، لصون وحدة أهلها وتمتينها تحت راية هوية فلسطينية وطنية جامعة ومشاعر انتماء صادقة للارض وللقضية. وثم حرص على التوفيق بين جميع أطياف مجتمعها وتياراتها السياسية مؤكدا أمامهم من هو العدو ومن هم الحلفاء، وراسما لجميعهم قواسم وطنية مشتركة وسائرا امامهم على هدي استراتيجية مقبولة وبرامج للنضال الموحد المشترك.
كنت قريبا من فيصل الحسيني بحكم عملي معه لسنوات طوال كمستشار قانوني ورئيس للوحدة القانونية التي أنشأها منذ منتصف ثمانينيات القرن المنصرم ضمن مؤسسات "بيت الشرق" ، بهدف تقديم الخدمات القانونية التي احتاجها المقدسيون عند وقفاتهم أمام المؤسسات والمحاكم الاسرائيلية. ورافقته في عدة رحلات قام بها لنقل رسالة القدس وفلسطين أمام زعماء العالم، فكنت الى جانبه في المغرب وأمريكا ومصر وبريطانيا وكندا واليونان وكريت، وشاهدت كيف كان زعماء تلك الدول يعاملونه بمنتهى الاحترام والتقدير ويصغون له بحرص شديد وبايجابية. كنت أشعر أنهم يعتبرونه أكبر من زعيم سياسي وأهمّ وأكثر من فرصة أتاحها لهم القدر ، وكنت اعرف أن احترامهم المميز لشخصه نابع من تقديرهم لمواقفه الوطنية السياسية العقلانية والصارمة في نفس الأوان، ولدفاعه عنها بحجج صحيحة وباسلوب آسر كان من الصعب عليهم معارضته أو رفضه، خاصة عندما كانت محاور تلك اللقاءات تدور حول القدس ومستقبلها السياسي . احترموه لنفس الأسباب التي بسببها احترمه جميع الفلسطينيون، وليس المقدسيون وحسب، فكلهم كانوا يؤمنون أنه قائد "نقي الثوب " حر ، مستقيم "لا يلقي سلاحه" مهما اشتدت النوائب، نظيف اليد أمين، يقدس الحياة واحترام الآخرين ولا يسمح بأن يغمز جانب له كتغماز التين. واحترموه لانهم عرفوا أنه سيقاوم في سبيل حق بلاده وشعبه بصلابة المؤمن الذي لا يعرف مهادنة وبهدوء القائد الرزين الرصين الحذق في تفكيك العقد واحتواء الازمات.
لقد نجح فيصل، خلال سني تصدره للعمل السياسي والنضالي في القدس، ببناء توازنات سياسية سليمة واجتراح وسائل نضالية ذكية أجبرت زعماء العالم وزعامات اسرائيل على احترامه، واخذ حنكته السياسية ولرصيده في تدبير الشؤون التنظيمية والميدانية بالحسبان، واجبرتهم على التعامل معه وفق معادلات الاشتباك المتكافىء، التي قد تكون أهمها تلك التي أسميتها في حينه معادلة "الردع المتبادل" وهي بالمختصر تقول: عندكم قوة المحتَل وطيشه وبطشه، وعندنا ارادة شعب واصراره على رفض الاحتلال والضم، وعندنا عزيمة أهل القدس واستعدادهم للتضحية من أجل مدينتهم/ كرامتهم فهي عندهم تساوي الكرامة، ومن اجل مؤسساتها لانها حصونهم الواقية. وتقول أيضا: اذا كانت القدس عندكم مدينة "النور والنحاس"، كما جاء في أساطيركم القديمة ومأوى هيكلكم المفقود، فهي عندنا أكثر من مجرد أرض"وجغرافيا" ومعبد أو "حوض مقدس" وأهم من ملف للمفاوضات يجب اخضاعه لطمع آلهتكم أو لترّهات "الستاتوس كوو". انها عندنا بمثابة روحنا الباقية والهوى والهوية بل هي القضية .
بدأ المساء يزحف على شرفتي وعلى القدس. كانت العتمة تخفي أسقف البيوت، وفوقي، في السماء البنفسجيه، رأيت أكباش غيوم بيضاء تركض مسرعة نحو الشرق كشلعات ماعز هاربة مفزوعة. لم أعد أشعر بالحنين، بل ببرد وبوجع. كنت اتمتم: ماذا لو كان فيصل حيا اليوم؟
فالقدس بعده تحولت الى أضغاث أحلام وأكوام من عهود منسية؛ وصارت مدينة تائهة بلا روح يملؤها صدأ التاريخ وهياكل من وهم وخناجر مخفية، وتتحكم في قصباتها وشوارعها ثلل ممن باعوا ضمائرهم والمنتفعون الذين لا يخشون عقابا أو محاسبة بعد غياب فارسها الفيصل ونواطيرها، وبعد ما آلت اليه حالة فلسطين العامة وسحقت كوابحها الوطنية .
لو كان فيصل حيا قلت: ما أمست القدس أرملة ثكلى تبكي ضياع أبنائها وتفتش عن قبيلة تحمي عرضها، وعن"شيخ" يجيرها ويحميها من العصاة والباغين.؛ وتفتش عن قائد قادر أن يجمع في ساحات "بيت شرقه" أهلها ويعرف من بينهم الطالح ومن الصالح، ويجوب، في النهارات، حاراتها بهيبة وبهمة ويطرد منها الغزاة والساقطين، ويأتيها في الليل حارسا لأسوارها ولبيوتها، كما أوصت تعاليم "العهدة الفيصلية".
أقف على شرفتي وأتذكره وهو بكامل بهاء العاشق وبصرامته الهادئة وابتسامته كطفل. أقف وأغص لكننني لا أبكي، فالبكاء على رحيل صنّاع الأماني والأحلام شقاء محظور، والحزن على الشرفات في "زمن المسخ" يفرح الموت ويزعج المائتين . لم أبك، لكنني نهرت أيارًا وقلت له : أيار يا شهر الملح والندى غِب وأرجع الينا أحبابنا ولو توهما. ففي زمن المسخ هذا لا بأس بحلم من برق وليكن بعده المحل والوعود الخلّب. غب يا شهر الأنين والدمع وأعد الينا غمدنا وسيفنا، فعسانا نرقص، ولو على جناح فراشة، رقصة الضوء في طقوس الحب والموت تضرما. غِب يا شهر الردى وأعد الينا فيصلا، وخذ معك هياكل القصب وخذ خدام النفاق عباد الحجر ، وعد، إن شئت تأرجحا، فالقدس ثكلى تبكي والقمر فارسها الفيصلا .
مات فيصل في غرفة فندق في الكويت، لكن الحقيقة أن موته كان اعلانا صارخًا على موت مرحلة كاملة من حياة فلسطين والقدس خاصة. رحل مرددا ان القدس ليست بحاجة الى أبواب. القدس بحاجة الى بوّاب والقدس ليست بحاجة لمعبد وصلاة ، القدس بحاجة لبعض من صدق ووفاء.
من يحب القدس فليفتش عن فيصلها ووصاياه المنقوشة في شوارعها وحواريها وتحت قبابها؛ ففي زمن كثرت فيه الرداحة والعربدات وقلت الرجال والقامات، يبقى فيصل الحسيني مرآة مؤلمة تظهر ما تفتقده المدينة : الصدق والتضحية والوفاء، وقائداً يشبهنا وهو يشبه قدسنا.
#جواد_بولس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟