جواد بولس
الحوار المتمدن-العدد: 8463 - 2025 / 9 / 12 - 02:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
شنت اسرائيل هجوما عسكريا على العاصمة القطرية الدوحة، مستهدفة اغتيال عدد من قادة حماس اجتمعوا لمناقشة امكانية التوصل الى صفقة تبادل ممكنة مع الحكومة الاسرائيلية وحل مسألة المخطوفين الاسرائيليين المحتجزين عند حماس، مقابل الافراج عن أسرى فلسطينيين، ومطالب أخرى قدمتها حماس من خلال الوسطاء.
يشكل هذا الاعتداء السافر خرقا لجميع الأعراف والقوانين الدولية ومسّا خطيرا بسيادة الدولة القطرية؛ كما وأنه يضيف بيّنة جديدة حول عدم احترام حكومة نتنياهو لأصول التعامل بين الدول السيادية، لا سيما تلك الدول التي كانت تحسب نفسها حصينة من الهمجية الاسرائيلية لكونها دولا صديقة لاسرائيل وحليفتها الأم أمريكا، أو منضوية ضمن نفس المعسكر الجيوسياسي، والمحمية بمنطق الأحلاف ووحدة المصالح الأمنية والإقتصادية الاستراتيجية.
تعاطت بعض المنصات الاعلامية مع عامل المفاجأة الذي رافق الاعتداء على الدوحة، فادّعت بعضها أن اسرائيل أبلغت الادارة الأمريكية بقرارها حيث قامت الادارة الأمريكية بابلاغ القطريين بذلك. بينما نفى المسؤولون القطريون هذا النبأ مؤكّدين على أن التبليغ الأمريكي قد جاء خلال الغارة لا قبلها. أما اسرائيل من جهتها فأعلنت أنها أبلغت الادارة الأمريكية، وهذه بدورها أبدت موافقتها، إلا أن الرئيس ترامب، بعد تصاعد ردود الفعل العربية والدولية ضد الاعتداء، صرّح أن المسؤول الوحيد عن القرار كان نتنياهو.
تندرج جميع تلك الأخبار ضمن منطق الدعاية والتضليل؛ وجميع مآلاتها ودوافعها لا تؤثر ولا تقلل من رعونة الاعتداء وخطورته، ومن أن اسرائيل لا تقيم حسابًا لردود فعل الأنظمة العربية ولا لمواقف سائر الدول في العالم، طالما هي ضامنة لدعم إدارة الرئيس ترامب لسياساتها في المنطقة بشكل مطلق، كما تثبت الوقائع.
لقد قامت الدول العربية بشجب العملية الاسرائيلية وبوصفها بأقسى العبارات، إلا أن نتنياهو لم يتردد بالرد عليهم جميعا مشبّها الضربة الاسرائيلية في قطر بردّ أمريكا بعد حادثة 11 سبتمبر، ومتهما الدوحة بايواء ودعم حركة المقاومة الاسلامية-حماس. لقد طالب نتنياهو جميع الدول التي تأوي قادة ونشطاء حماس "إما بطردهم أو بمحاكمتهم، وإلّا ستتولى إسرائيل ذلك" كما وانتقد مواقف الدول التي أدانت اسرائيل وطالبها "بدعم موقف إسرائيل ضد الإرهاب"؛ تهديد سيبقى ماثلا أمام جميع القادة العرب والدول الاسلامية الاخرى الى أن يجدوا الوسائل للتخلص مما يعطي اسرائيل القدرة على تهديد انظمتهم واستقرارها.
قد يشعر المواطن العربي العادي أنه ازاء فرصة تاريخية فريدة للتحرر من حالة اليأس والعجز والشعور بالمهانة والنكبة المستمرة. لكنني لا أرى إن هذه الفرصة ناجزة وحقيقية؛ فرغم وصف زعماء دول المنطقة الاعتداء على قطر بأنه تخطّ لجميع الخطوط الحمراء وبأنه خيانة وطعنة في الظهر، أراهن أن هذه الأنظمة لن تتجرأ على "قلب الطاولة"؛ وكل ردود الفعل التي سمعناها وسنسمعها تعكس عمليا عمق وحجم العلاقات السائدة بينهم وبين اسرائيل وتأتي من باب المحبة والعتب "فعلى قدر المحبة العتب كبير"، كما قالت العرب قديما وغنت فيروز.
إن التصعيد الذي لجأ إليه نتنياهو يخدم مصلحته الشخصية والسياسية التي تتعمد اطالة الصراع في غزة ونسف كل امكانية لانهائه. وهو يعرف أن قراره اغتيال قادة حماس داخل الأراضي القطرية يُعدّ مغامرة كبيرة، إلا أنها تبقى في حساباته خطوة موزونة ومأمونة العواقب، لأنه يعرف ما مصير الديباجات النارية التي "سيقذفها" القادة من على مقاعد القمة العربية المقبلة. ليس فقط نتنياهو يعرف كيف ستنتهي لقاءات الاخوة والاشقاء العرب، بل ويعرفها كل من اكتوى وخذل من لقاءات القمم العربية السابقة؛ "فنرفزات" هؤلاء القادة لن تفضي الى فض شراكاتهم الاستراتيجية مع أمريكا واسرائيل، ولا الى نسف "المنجزات" التي كانوا شركاء بتحقيقها، وشهدتها أحداث الشرق الجديد، خاصة بعد سقوط نظام الأسد وهزيمة حزب الله في لبنان والمواجهة مع ايران وتدمير غزة واحكام معسكر "اسرائيل الكبرى" سيطرته على مقاليد الحكم في اسرائيل.
من اللافت أن المجتمع اليهودي في اسرائيل حافظ، بشكل عام، على هدوئه الحذر وترقب ما سيحدث. بين القطاعات الشعبية الواسعة شاعت علامات الرضى والفرح حتى الشماتة، ليس لأن هدف الضربة كان التخلص من "ارهابيين اسلاميين كبار"، كما تشيع حكومة نتنياهو، وحسب، بل لأن تلك القطاعات تعتبر قطر ذاتها جهة معادية ودولة داعمة للارهاب لا يمكن الوثوق بدورها في الصراع الاسرائيلي- الحمساوي، ولذا تستحق العقاب. بالمقابل برزت بعض الأصوات التي انتقدت العملية متهمة نتنياهو بتأجيج المنطقة كلها وبإمعانه في نسف كل احتمالات الحلول السياسية والسلمية مع الفلسطينيين وفي المنطقة.
لقد انتشرت مشاعر الشماتة بدولة قطر بين قطاعات عربية وفلسطينية واسعة؛ فهي، وفق ما يدعيه هؤلاء، رغم ما تقدمه من خدمات لأمريكا وعلاقاتها الوطيدة مع اسرائيل، تلقت صفعة مهينة أعقبتها تهديدات نتنياهو الواضحة ومطالبته بالتخلص من قيادات حماس أو محاكمتهم وإلا سوف يعاود الكرّة الى أن ينهي تلك المهمة.
لن ينكر عاقل بأن حكومة نتنياهو تتعمد احراج الأنظمة العربية، خاصة الصديقة لها، بوسائل جديدة وبأنماط أكثر سفورا واستفزازا، كانت حكومات اسرائيل السابقة تمتنع عنها. ومن يسمع تصريحات القادة العرب هذه المرة يكاد يشعر بأنهم يعون ما يرمي اليه نتنياهو وحكومته؛ فلئن كانت الصفعة، هذه المرة، موجهة مباشره الى حكام قطر، إلا أنها تشكّل ضربة مؤلمة تستهدف، مع ضربات أخرى، تفكيك قواعد العلاقات السائدة داخل هذا الحلف. إنها محاولة لفرض أسس جديدة من التعامل تكون فيها هيمنة القوة الاسرائيلية وقدراتها العسكرية هي الناظم الأول والأساسي في ضبط معادلات المصالح وضمان دور "الفارس" "وحقه" في الركوب علنا وبدون فذلكات ديبلوماسية على ظهور الأنظمة العربية وحماية مصالحها وتؤمن دورها "كضابط سلوك" دول هذه المنطقة.
لا أحد يستطيع أن يراهن كيف ستنتهي هذه المواجهة بعد أن دفعتها حكومة نتنياهو الى العلن. لقد تفاوتت حدة ردود الفعل العربية وخلت من الالتزام الواضح بردود عينية. كانت جامعة الدول العربية، مرة اخرى، هي الملجأ الذي سيأوي اليه القادة، وقد تكون، مرة أخرى، هي "الكوّة" التي سيتنفس من خلالها جميع القادة المأزومين، لا سيما إذا ألقى لهم صديقهم دونالد ترامب حبل انقاذ ليخرجهم من مستنقع نتنياهو بقليل من البلل.
تبقى جميع الاحتمالات واردة، وبضمنها حسم الموقف من ايواء قادة ونشطاء حماس وضمن أي شروط والتزامات وقيود جديدة. لقد وردت تلميحات بهذا الخصوص ضمن تصريحات بعض قادة العرب. المشكلة، بالنسبة للزعماء العرب، أن حكومة نتنياهو لن تتوقف عن تنفيذ مآربها في المنطقة ولن يرضيها قرار طرد قادة ونشطاء حماس من قطر أو من أي بلد آخر يسكنونه. فالقضية، ويقيني أن زعماء العرب بدأوا يستوعبونها، تكمن بضرورة الاتفاق على موقف موحد قادر على اجبار اسرائيل على وقف عدوانها على غزة وانهاء احتلالها للضفة الغربية وإجبارها على قبول حل الدولتين. لقد كان رد ولي العهد السعودي، الامير محمد بن سلمان، قبل أيام في افتتاح أعمال السنة الثانية من الدورة التاسعة لمجلس الشورى، لافتًا وواضحا. فهو بتصريحه أكد على رفض المملكة اعتداءات الاحتلال الاسرائيلية في المنطقة "وآخرها العدوان الغاشم على قطر" ونوّه أن الوضع "يتطلب تحركا عربيا وإسلاميا ودوليا لمواجهتها واتخاذ اجراءات دولية لايقاف سلطة الاحتلال وردعها عن ممارساتها الاجرامية في زعزعة أمن المنطقة واستقرارها". كما وأشار الى "أن مبادرة السلام العربية التي اطلقتها المملكة عام 2002 وقمنا بتفعيلها دوليا عبر منظور حل الدولتين تشكل مسارا غير مسبوق لتحقيق الدولة الفسطينية". يمكن اعتبار خطاب ولي العهد المذكور بارقة أمل وكفالة لافشال مآرب حكومة نتنياهو ومخططها، لا حيال مستقبل فلسطين وحسب، بل حيال سائر الدول المجاورة لفلسطين.
يعتقد البعض أن ضربة نتنياهو داخل قطر قد تعود عليه بريع سياسي آني، لكنها شكّلت أول الضربات التي ستؤدي في المستقبل القريب الى سقوطه وسقوط حكومته والى وأد احلامه في اقامة اسرائيل.
هذا اذا فاقت أمة العرب واتعظ حكامها.
#جواد_بولس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟