|
دور انتفاضات الشباب العربي في إعادة بناء الدولة الوطنية
حسن خليل غريب
الحوار المتمدن-العدد: 8487 - 2025 / 10 / 6 - 10:22
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
مقدمة الدراسة شهد العالم العربي منذ العام 2019 موجة جديدة من الحراك الشعبي، اتسمت بالسلمية والوعي السياسي المتزايد، وجاءت كتاباتنا السابقة كمحاولة لفهم هذه الظاهرة وتحليلها في سياقها التاريخي والسياسي. من خلال تلك المقالات المتعددة، قدّمنا رؤيتنا النقدية والاستراتيجية للحراك الشعبي، متناولين أبعاده الفكرية والاجتماعية، ومحذرين من محاولات القوى الخارجية لتجييره لمصالحها الخاصة. تهدف هذه الدراسة إلى إجراء مقارنة تحليلية بين أبرز مقالاتنا التي تناولت انتفاضات الشباب العربي بعد 2019، وذلك من خلال تفكيك مضامينها، واستكشاف أوجه التشابه والاختلاف في رؤيتنا للحراك، وموقفنا من التدخلات الخارجية. في مقالاتنا السابقة، نذكر منها المقالات التالية: 1-في مقال بعنوان "رؤية استراتيجية في مستقبل الحركة الشعبية العربية"، توصلنا إلى استنتاج أن تطور الحراك الشعبي العربي مرَّ عبر ثلاثة أجيال: -الجيل الأول: الكفاح الشعبي المسلح (مثل تجربة البعث في جنوب لبنان). -الجيل الثاني: الحراك المسلح الذي رافق انتفاضات 2011، لكنه أُجهض بسبب التدخلات الخارجية. -الجيل الثالث: الحراك السلمي بعد 2019، الذي بدأ في العراق ولبنان. والحراك السلمي هو الخيار الوحيد حالياً بسبب غياب الاحتلال المباشر. كما وصلنا إلى نتيجة تشير إلى أن انتفاضات ما بعد 2019 جزء من الجيل الثالث للحراك الشعبي، والذي يتميز بـالسلمية والبعد عن العنف المسلح، على عكس المراحل السابقة. وهذه أبرز ملامحها: -سلمية الحراك: إن الحراك الشعبي السلمي هو الخيار الأنسب في ظل تعقيدات الوضع العربي، حيث لم تعد الظروف تسمح بالكفاح المسلح كما في السابق، خاصة في العراق. -وعي شعبي متزايد: يشير إلى أن الشباب العربي بات أكثر إدراكاً لحقوقه، ويطالب بها بعيداً عن العنف، كما حصل في لبنان في 17 تشرين الأول 2019، حيث بدأت الانتفاضة تزعزع أسس النظام الطائفي. -رفض التدخل الخارجي: يؤكد أن الحراك يجب أن يكون مستقلاً، بعيداً عن أي دعم أو تدخل من قوى أجنبية، لأن ذلك يؤدي إلى سرقة أهدافه وتحويله إلى صراعات تخدم مصالح خارجية. 2- دراسة ظاهرة الحراك الشعبي في مرحلة ما قبل ربيع الشباب العربي، وهو تأصيل تاريخي للحراك الشعبي العربي، وتحليل أسباب فشل انتفاضات 2011. أبرز أفكاره: -الانتفاضات لم تكن عفوية بالكامل، بل استُغلت من أطراف خارجية. والوعي الشعبي لم يكن كافياً لتمييز الأهداف الحقيقية من المزيفة. والحاجة إلى قيادة وطنية مستقلة تضع أهدافاً واضحة وتمنع الانحراف. 3-رؤية مستقبلية: إن الحراك السلمي بعد 2019 هو فرصة جديدة، لكن نجاحه مرهون بوعي الجماهير ورفض التدخلات. 4-الخلاصة الفكرية: -رفض عسكرة الحراك الشعبي في الظروف الحالية. -الدعوة إلى بناء قيادة وطنية مستقلة غير مرتبطة بأي جهة خارجية. - الحراك السلمي هو الأداة الأنجح لتحقيق التغيير في ظل غياب الاحتلال المباشر. -التحذير من القوى التي تركب موجة الحراك لتفتيت المجتمعات أو فرض أجندات خارجية.
3-جاء في مقالنا: (قوة الحراك الشعبي تُقاس بقوة مطالبه ومشروعيتها الشعبية(: "لا تُقاس قوة الحق بعدد من يطالب به، بل بما يمتلك من شرعية إنسانية ووطنية، وبقوة تعبيره عن الحقوق الشعبية بالعدل والمساواة." و أبرز الأفكار حول انتفاضة لبنان بعد مرور عشرة أشهر على انطلاقتها: الحراك الشعبي اللبناني هزّ عروش السلطة الطائفية. ولهذا سعت القوى الحاكمة لإجهاض الانتفاضة عبر الترهيب والرشاوى.
4-جاء في كتاب( الحراك الشعبي وملاذاته الآمنة: دراسات في الحراك الشعبي العربي)، وهو كتاب يتضمن دراسات تحليلية للحراك العربي، من ليبيا إلى لبنان. ومن أبرز الأفكار التي توصل إليها: -يعتبر إصدار الكتاب قبل اكتمال نتائج الحراك مغامرة فكرية. ففيه يناقش الكاتب السجالات السياسية التي رافقت الانتفاضات، خاصة الاتهامات المتبادلة بين التيارات الثورية. ويدعو إلى رؤية استراتيجية تتجاوز التحليل الخبري الذي تسيطر عليه وسائل الإعلام. ويطالب بتعمق فكري في فهم الظاهرة.
5-الخلاصة الفكرية للمقالات: -الحراك الشعبي هو تعبير عن الحق في مواجهة القوة. بينما السلطة تستخدم أدوات الترهيب والإعلام لإجهاض الحراك. ويعتبر أن الوعي الشعبي والاستقلال عن القوى الخارجية هو السلاح الحقيقي للثورة السلمية. وعن انتفاضة لبنان: "بأقل من أسبوعين بعد اندلاع الانتفاضات في العراق، أي في 17 تشرين الأول من العام 2019، اندلعت انتفاضات واسعة في شوارع بيروت كانت المنصة الأولى التي بدأت تزعزع الأسس التي بني عليها نظام الطائفية السياسية في لبنان." -عن أهمية الحراك السلمي: "الحراك هنا، يعني حراكاً سلمياً نابعاً من حرص الشعب على المحافظة على ممتلكات الدولة أولاً، وثانياً أن يبتعد كلياً عن التعاون مع أية قوة أجنبية تزعم أنها تساعده على الضغط على حكومته لانتزاع تلك الحقوق." -عن التحديات التي تواجه الحراك: "في عسكرة الحراك، لأكثر من سبب، تتحمل المسؤولية فيه الأنظمة الرسمية بفعل إصرارها على قطع وسائل الحوار الديموقراطي مع الجماهير المنتفضة من جهة، ومن جهة أخرى بفعل استغلال الدول الخارجية التي ركبت موجات الحراك الشعبي العربي لسرقة نتائجه." خلاصة رؤيتنا: نرى أن الحراك الشعبي بعد 2019 هو تطور طبيعي في مسار النضال العربي، لكنه يحتاج إلى قيادة شعبية واعية، مستقلة، تضع أهدافاً واضحة وتحمي الحراك من الانحراف أو الاستغلال. ونعتبر أن هذا النوع من الحراك هو الأمل في بناء دولة وطنية حديثة، بعيداً عن الاستعمار والطائفية.
المقدمة في مقالات سابقة لنا، خصوصًا مقال “النظام الطائفي السياسي في لبنان: منهج تاريخي متخلّف"، قدمنا نقدًا جذريًا لهذا النظام، داعينا إلى تجاوزه عبر بناء دولة مدنية علمانية. وفيه اعتبرنا أن النظام الطائفي السياسي في لبنان يُعدُّ نموذجًا فريدًا في العالم العربي، حيث تُوزّع السلطة على أساس الانتماء الديني والطائفي، لا على أساس المواطنة أو الكفاءة. هذا النموذج، الذي تأسس تاريخيًا في ظل الاستعمار العثماني والفرنسي، يُكرّس الانقسام الأهلي ويُعيق بناء الدولة الحديثة. ولقد قمنا بتوصيف هذا النظام من ثلاث زوايا: تاريخية، وواقعه السياسي الراهن، واقتراح حل مستقبلي:
1-الجذور التاريخية: في مقالنا المنشور على موقع الحوار المتمدن، جاء ما يلي: "النظام الطائفي السياسي في لبنان ليس وليد اتفاق الطائف، بل هو استمرار لنظام المتصرفية الذي أُسّس عام 1864، حين تدخلت الدول الأوروبية لتكريس الانقسام الطائفي بين الموارنة والدروز." لذلك نرى أن هذا النظام لم يكن حلًا داخليًا بل فرضًا خارجيًا لتكريس الانقسام، وأنه خدم مصالح القوى الاستعمارية أكثر مما خدم الشعب اللبناني. 2-الواقع السياسي: تتحمل الأحزاب اللبنانية، خصوصًا تلك التي شاركت في السلطة بعد الحرب الأهلية، مسؤولية تكريس الطائفية بدلًا من تجاوزها. ونعتبر أن المحاصصة الطائفية تُنتج زعامات طائفية تُضعف مؤسسات الدولة وتُغذّي الفساد. ونقول في إحدى مقالاتنا: "الطائفية السياسية ليست مجرد خلل دستوري، بل هي بنية فكرية تُنتج الفساد وتُعيد إنتاجه." 3-الحل المقترح: الدعوة إلى بناء دولة مدنية علمانية تُؤسس على المواطنة، والتشديد على أن تجاوز الطائفية شرط أساسي لأي مشروع نهضوي. ونحذر من أن استمرار النظام الطائفي يُهدد وحدة لبنان ويُحوّله إلى ساحة صراعات إقليمية.
ثانياً: مقارنات مع تجارب عربية أخرى: 1-مقارنة بالنموذج العراقي -التشابه: العراق، بعد 2003، تبنّى نظامًا قائمًا على المحاصصة الطائفية شبيهاً بالنظام الطائفي السياسي قي لبنان، مما أدى إلى تفكك الدولة وصعود الميليشيات. بينما نرى أن النموذج العراقي يُعيد إنتاج الفشل اللبناني، ويُحذّر من تعميمه في المنطقة. 2-مقارنة بالنموذج السوري: الطائفية المقنّعة: النظام السوري السابق قدّم نفسه كعلماني، لكنه كان يُمارس سياسة طائفية عبر تحالفات أمنية وطائفية. وعلى خلاف الأنموذج اللبناني نرى أن الطائفية في سورية ليست دستورية، بل أمنية وسياسية. ولكن غياب الطائفية الدستورية لا يعني غياب الطائفية الفعلية، ويُطالب بكشفها وتفكيكها. وإذ نقدِّم نقدًا جذريًا للنظام الطائفي اللبناني، نحذّر من إعادة إنتاجه في المنطقة. وبالمقارنة مع العراق وسورية، يتضح أن الطائفية ليست قدرًا، بل خيارًا سياسيًا يمكن تجاوزه عبر بناء دولة مدنية تُؤسس على المواطنة لا الانتماء. لكن هذا يتطلب إرادة شعبية، ونخب فكرية وسياسية قادرة على صياغة مشروع بديل ( ). بعد أن قمنا بتشخيص أوجه التشابه بين الأنظمة الطائفية السياسية في لبنان من جهة، والنظامين العراقي بعد الاحتلال الأميركي فب العام 2003، والسوري قبل نظام ما بغد تغييره في كانون الأول من العام 2024، يمكننا الانتقال إلى دراسة موجزة تهدف إلى تبيان أهمية دور انتفاضات الشباب العربي في إعادة بناء الدولة الوطنية في عدد من الأقطار العربية.
ثالثاً: قراءة فكرية في انتفاضتي تشرين في لبنان والعراق: لأن الانتفاضتين حصلتا في شهر واحد بأسبقية أسبوعين تقريباً للانتفاضة العراقية، سنعمل على المقاربة بينهما من وجهة نظرنا، ولهذا نرى أنهما يعبران تعبيرًا عن وعي شعبي جديد يسعى إلى تفكيك الأنظمة الطائفية السياسية في المشرق العربي. وهذه الورقة ستحدد أوجه التشابه والاختلاف بين الحراكين، وتُبرز كيف يشكلان بداية مسار تغييري طويل، رغم التحديات والانكسارات. في خريف 2019، شهد كل من لبنان والعراق انتفاضة شعبية واسعة ضد الأنظمة الطائفية الحاكمة، عُرفت باسم "انتفاضة تشرين". وسنقدّم قراءة جدلية لهذه الانتفاضات، منطلقين من أنهما ليستا مجرد احتجاجات ظرفية، بل لحظة تاريخية كاشفة لانهيار المنظومة الطائفية، وبداية لتحول سياسي واجتماعي عميق. 1-انتفاضة لبنان: - الحدث كتحوّل نوعي: إن الحراك اللبناني عبّر عن تراكم نضالي طويل، وكشف هشاشة النظام الطائفي أمام وحدة الناس في الشارع. -كسر الحواجز الطائفية: تجاوزت الانتفاضة الانقسامات المناطقية والطائفية، وخلقت خطاباً سياسياً جامعاً، رغم محاولات التشويه والاحتواء. -الوعي الشعبي الجديد: صاغ الشباب اللبناني لغة سياسية جديدة، غير مؤدلجة، ترفض التبعية الحزبية والطائفية، وتُطالب بدولة مدنية.
2-انتفاضة العراق: - الطائفية كأداة احتلال: نرى أن النظام العراقي بعد 2003 أعاد إنتاج الطائفية السياسية عبر المحاصصة، مما أدى إلى تفكك الدولة وصعود الميليشيات. - التشابه مع لبنان: "ما يجري في العراق ليس بعيدًا عن لبنان، فالمحاصصة الطائفية هناك تُعيد إنتاج الفشل ذاته، وتُغذّي الانقسام والارتهان." ولهذا فإن الحراك العراقي عبّر عن وعي شبابي ووطني، يرفض الطائفية والفساد والهيمنة الخارجية، خصوصًا الإيرانية.
3-المقارنة الفكرية بين الانتفاضتين -في لبنان: شكل النظام طائفي دستوري منذ المتصرفية في العام 1864. ودوافع الانتفاضة فساد، انهيار اقتصادي، رفض الطائفية. وطبيعة الحراك أفقي، شبابي، غير مؤدلج. ردَّت السلطة عليه بالتشويه، والقمع الناعم، ومحاولات للاحتواء. والنتيجة المفترضة سوف تكون بداية تفكك النظام الطائفي. -في العراق: شكل النظام طائفي سياسي بعد الاحتلال. دوافع الانتفاضة: فساد، بطالة، رفض الهيمنة الإيرانية. طبيعة الحراك: شبابي، وطني، مناهض للأحزاب الطائفية. ورد السلطة: قمع دموي، اغتيالات، تشويه إعلامي. والنتيجة المفترضة: بداية تفكك الهيمنة الإيرانية. وفي الخلاصة: إن الانتفاضتين تُعبّران عن لحظة تاريخية كاشفة لانهيار المنظومة الطائفية في المشرق العربي. لكن هذا الانهيار لن يكون سريعًا، لكنه بدأ فعليًا، وأن الحراك الشعبي هو التعبير الأول عن هذا التحوّل. ولذلك ندعو إلى ضرورة البناء على هذه اللحظة، وتطويرها إلى مشروع سياسي مدني يُؤسس على المواطنة. وعلى ألاًّ تُفهم انتفاضتا تشرين في لبنان والعراق كأحداث معزولة، بل كجزء من مسار تاريخي طويل نحو تفكيك الطائفية السياسية في المشرق العربي. ورغم التحديات، فإنهما تُعبّران عن وعي جديد، يُمكن أن يُشكّل نواة لمشروع مدني عقلاني، يُعيد بناء الدولة على أسس المواطنة والعدالة. ( )
رابعاً: الانتفاضات العربية خارج لبنان والعراق: منذ العام 2011، شهد العالم العربي موجة من الانتفاضات الشعبية التي هزّت أنظمة استبدادية وطائفية، من تونس ومصر إلى اليمن وسورية، ثم لاحقًا في لبنان والعراق. وهي ليست أحداثًا معزولة، بل تعبير عن مسار تاريخي واحد يسعى إلى تفكيك البنية السياسية التقليدية في المنطقة. وفي هذه الدراسة، سنُحلل هذه الانتفاضات، وكيف نربط بينها، وما الذي يجعلها لحظة تأسيسية لمشروع عربي جديد. 1-الانتفاضات كحراك بنيوي لا ظرفي: إن هذه الحراكات ليست مجرد ردود فعل على أزمات اقتصادية أو فساد فحسب، بل هي تعبير عن خلل بنيوي في طبيعة الدولة العربية الحديثة، التي تأسست على الاستبداد السياسي، والتبعية للخارج، والانقسام الطائفي أو القبلي. وإن الانتفاضات التي جرت على الساحتين العراقية واللبنانية، أخذت تقلب كل حسابات الخارج التي اطمأنت إلى متانة إمساكها بقرار الساحتين، كما أخذت تقلب كل حسابات الداخل الذي اطمأن إلى أن الطائفية السياسية هي الحصن المنيع الذي يحمي مصالحه.
2- الترابط بين الانتفاضات إن هناك خيطًا ناظمًا يربط بين انتفاضات تونس، مصر، سورية، البحرين، السودان، الجزائر، ولبنان والعراق، يتمثل في رفض البنية السلطوية التقليدية، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية، وتجاوز الانتماءات الضيقة نحو خطاب وطني جامع. وباختصار، إن ما جرى في أكثر من ساحة عربية ليس سوى تعبير عن لحظة تاريخية واحدة، وإن تعددت أشكالها. إنها لحظة الوعي الشعبي الذي بدأ يُدرك أن الطائفية ليست قدَرًا، وأن الاستبداد ليس حتمياً.
3-نقد للثورات المضادة: يجب التحذير من أن القوى المضادة للانتفاضات، سواء كانت داخلية أو خارجية، سعت وتسعى إلى تشويه الحراك الشعبي، واحتوائه عبر أدوات إعلامية أو دينية، وإعادة إنتاج النظام القديم بوجوه جديدة. وباختصار، إن الثورات المضادة لا تأتي من فراغ، بل من داخل البنية ذاتها، ومن القوى التي كانت تُمسك بخيوط اللعبة، وتحاول الآن إعادة ترتيبها تحت شعارات جديدة.
4-الانتفاضات كفرصة تأسيسية في كتابنا "تهافت الأصوليات الإمبراطورية"، اعتبرنا أن الانتفاضات تُشكّل فرصة لتأسيس دولة مدنية عقلانية، تُؤسس على المواطنة بدلًا من الطائفة، والعقلانية بدلًا من التسليم، والعدالة بدلًا من المحاصصة ولذلك فإن "التحوّل من الطائفة إلى المواطن، ومن الزعامة إلى المؤسسة، ومن الولاء إلى القانون، هو جوهر المشروع الذي يجب أن ينبثق من هذه الانتفاضات."
5-مقارنة بين نماذج الانتفاضات: -تونس: النظام سلطوي علماني. وطبيعة الحراك مدني ديمقراطي. وفي النتيجة هي لحظة تأسيسية ناجحة. -مصر: النظام سلطوي عسكري. والحراك شعبي واسع. والنتيجة انتكاسة بفعل ثورة الإخوان المسلمين المضادة قبل إسقاطها لاحقاً. -سورية: النظام سلطوي طائفي. الحراك شعبي ثم مسلح. والنتيجة انتكاسة بفعل الثورة المضادة. والنتيجة كانت انتكاسة مأساوية بفعل التدخلات الخارجية. - السودان: النظام عسكري قبلي. والحراك مدني شبابي. والنتيجة فرصة تأسيسية رغم التعثر الذي حصل بغد الأحداث الدموية بين فريقين من السلطة. - الجزائر: النظام سلطوي حزبي. والحراك سلمي منظم. والنتيجة نموذج ناضج للتراكم الشعبي. - لبنان والعراق: النظام في لبنان طائفي دستوري، وفي العراق طائفي ميليشياوي. والحراك أفقي شبابي. والنتيجة بداية تفكك البنية الطائفية. وفي الخلاصة، تُشكّل الانتفاضات العربية سلسلة مترابطة من الحراكات الشعبية التي تُعبّر عن لحظة تاريخية واحدة، تهدف إلى تفكيك البنية السياسية التقليدية في العالم العربي. ورغم تعثر بعضها، إلا أنها تُشكّل نواة لمشروع عربي جديد، يُؤسس على المواطنة، العقلانية، والعدالة، بدلًا من الطائفية والاستبداد.
خامساً: من الانتفاضات القطرية إلى انتفاضة قومية عربية: حيث إن المجتمعات القطرية في الوطن العربي تتشارك بوحدة المسار والمصير، بوحدة المعاناة من المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في مواجهة أنظمة رسمية استبدادية، يُحتِّم عليها وحدة نضالية تواجه تلك الإشكاليات لوضع حلول لها والنضال من أجل تنفيذها، على أن تكون ثقافتها ذات سمة مقاومة سلمية، وهذه الثقافة بدورها تحبط أولاً، أي مشروع عسكرة قد تلجأ إليها الأنظمة الاستبدادية التي قد تكون فاتحة لحروب أهلية. وثانياً: لكي تحصِّنها ضد أية اختراقات خارجية كما حصل في انتفاضات (الربيع العربي) التي اندلعت في العام 2011. إن ثقافة انتفاضات المقاومة السلمية خط استراتيجي وطني وقومي، وهذا السبب يدفع بنا إلى وضع اقتراحات نظرية تتم ترجمتها في بناء قاعدة قيادية تعمل على تحصين الانتفاضات الوطنية من الوقوع في أخطاء تحرف تلك الانتفاضات عن خط سيرها السليم.
سادساً: دور الحراك الشعبي العربي في بناء القيادة الوطنية والمشروع المدني: آليات عملية للتحول الديمقراطي تطرح هذه الورقة رؤية نظرية لتشكيل قيادة وطنية مستقلة، وصياغة مشروع مدني عربي جامع، باعتبارهما شرطين أساسيين لنجاح الحراك الشعبي وتحقيق التحول الديمقراطي. 1-مبررات الحاجة إلى قيادة وطنية مستقلة: غياب القيادة الموحدة أدى إلى تفكك الحراك في عدة ساحات عربية. واستغلَّت القوى المضادة، الداخلية والخارجية هذا الفراغ لاحتواء الحراك وتشويهه. ولهذا فقد أثبتت التجارب السابقة أن الحراك غير المؤطر عرضة للانحراف أو التجيير. 2- آليات تشكيل القيادة الوطنية، وتستند إلى العوامل التالية: أ-تأسيس لجان تنسيقية شعبية محلية: تُشكّل في الأحياء والقرى والمدن. وتضم ناشطين مستقلين، نقابيين، طلابًا، وممثلين عن الحراك. وتُعتمد آلية الانتخاب المباشر أو التوافق المحلي لضمان التمثيل الحقيقي. بـ- اعتماد مبدأ التمثيل الأفقي: توزيع المسؤوليات بين اللجان دون احتكار القرار. ومنع إعادة إنتاج الزعامات التقليدية أو الحزبية. وتعزيز الشفافية عبر نشر محاضر الاجتماعات والقرارات. جـ-صياغة ميثاق وطني للحراك: يتضمن مبادئ عامة من أهمها السلمية، الاستقلال، العدالة، المواطنة، رفض الطائفية. ويُعرض للنقاش العام ويُعدّل وفق ملاحظات الجماهير. كما يُستخدم كمرجعية أخلاقية وتنظيمية للحراك. هـ- إنشاء منصة إعلامية مستقلة: تُديرها فرق إعلامية من داخل الحراك لنشر البيانات، فضح الانتهاكات، وتوعية الجمهور. وتُقاوم التضليل الإعلامي وتُعزز الشفافية. وتُستخدم أيضًا للتواصل بين الحراكات في مختلف المناطق.
3- بلورة المشروع المدني العربي أ-تحديد الأهداف المرحلية والاستراتيجية: أهداف قصيرة المدى: إسقاط المحاصصة، مكافحة الفساد، إصلاح القضاء. وأهداف طويلة المدى: بناء دولة مدنية، دستور جديد، إصلاح اقتصادي واجتماعي شامل. بـ-تشكيل فرق عمل تخصصية: فرق قانونية لصياغة البدائل الدستورية. وفرق اقتصادية لتقديم نماذج تنموية بديلة. وفرق تربوية وثقافية لإعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة. جـ- بناء شبكات تضامن إقليمية: التنسيق بين الحراكات في مختلف الأقطار العربية. وتبادل الخبرات، تنظيم مؤتمرات شعبية، إصدار بيانات مشتركة. وتشكيل جبهة عربية للحراك المدني تضم ممثلين من كل بلد. د-إشراك الجاليات العربية في الخارج: دعم إعلامي وحقوقي. وتنظيم حملات ضغط دولية لصالح الحراك. وتوفير موارد معرفية ومادية للحراك الداخلي.
4- ضمان الاستمرارية والتجدد أ-التدريب السياسي والتنظيمي: ورش عمل لتأهيل الكوادر القيادية. وبرامج تثقيفية حول الديمقراطية، حقوق الإنسان، إدارة النزاعات. وبناء ثقافة سياسية جديدة تقوم على الحوار والمواطنة. بـ-آليات الرقابة الذاتية: تشكيل لجان مستقلة لمراقبة أداء القيادة. ورفع تقارير دورية تُنشر علنًا لضمان الشفافية والمحاسبة. ووضع آلية لعزل أي قيادة تنحرف عن الميثاق الوطني. جـ- الانفتاح على النقد والتقييم: مراجعة دورية للمسار السياسي والتنظيمي. وتعديل الاستراتيجيات بناءً على الواقع المتغير. وإشراك الجمهور في تقييم الأداء وصياغة البدائل. إن الحراك الشعبي العربي بعد 2019 يُمثّل لحظة تاريخية تأسيسية، لكنه لن ينجح إلا إذا اقترن بقيادة وطنية مستقلة ومشروع مدني عقلاني. هذه الورقة تُقدّم تصورًا عمليًا لهذا التحول، وتدعو إلى تبنيه من قبل النخب الفكرية، الحركات السياسية، والمجتمع المدني، من أجل بناء دولة عربية حديثة تقوم على المواطنة، العدالة، والاستقلال.
خاتمة الدراسة: إن الحراك السلمي ليس مجرد خيار تكتيكي، بل هو تعبير عن نضج سياسي واجتماعي، وإن نجاحه مرهون بوعي الجماهير وقدرتها على حماية أهدافها من محاولات التجيير أو التشويه من جهة. ومن جهة أخرى، وجود قيادة مركزية. كما أن التغيير الحقيقي لا يتحقق إلا من خلال تكامل عاملين أساسيين، وهما: -الأول: مشروع وطني جامع على الصعيد القطري، يتجاوز الانقسامات الطائفية والمصالح الفئوية. -الثاني: مشروع نضالي جبهوي قومي، تتكامل فيه نضالات الأقطار من حيث تبادل الخبرات والتنسيق في المواقف والأهداف. وهذه مهمة أساسية من مهام أحزاب وحركات وتيارات حركة التحرر العربي ويقوم تأسيسها على قواعد التساوي بحقوق الأطراف المشاركة فيها وواجباتهم. وتكون من مهماتها الأساسية بناء ثقافة المقاومة السلمية، وتعزيز قيم العدالة والاستقلال في المجتمعات العربية.
#حسن_خليل_غريب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدَّولَة الوَطَنِيَّة العَرَبِيَّة بَيْنَ الإنهِيَار وإِعَا
...
-
هندسة المفاهيم القومية والدينية في مشروع حسن خليل غريب الفكر
...
-
المِيلشِيات الإِيرَانيَّة ومآلاتها فِي المُستَقبَل (الحلقة ا
...
-
المِيلشِيات الإِيرَانيَّة ظَاهِرَةٌ خَارِجَة عَنْ سُلْطَةِ ا
...
-
في الصراع الدائر بين (إسرائيل) وإيران العرب بين مطرقة المشار
...
-
الفكر المقاوم في مشروع حسن خليل غريب الفكري (مفاهيم ووقائع و
...
-
حسن خليل غريب ومشروعه الفكري: مقارنة بين مشروع ميشيل عفلق وم
...
-
حسن خليل غريب ومشروعه الفكري رؤية في العلاقة بين العقل العرب
...
-
العَرَب والمَوْجَة الثَالِثة من الإسْترَاتِيجِيَّات الأميركِ
...
-
الظاهرة الدينية والظاهرة الدينية السياسية (بدايات ومآلات)
-
فِي وَرْشَةِ رَسْمِ خَرَائِطِ مَصَالِحِ الأُمَّة فِي الوَطَن
...
-
نداء إلى حكومة العهد الجديد في لبنان إحذروا ملائكة أمراء الط
...
-
إِشْكاليَّة الِاسْتِقْوَاء بِالْخَارِجِ وَمَخاطِرها عَلَى ال
...
-
في إشكالية التجميد والتجديد في المناهج المعرفية العربية تبقى
...
-
اليوم التالي لولاية الرئيس دونالد ترامب الثانية
-
دونالد ترامب ليس مجنوناً (الحلقة الثالثة) (3/ 3)
-
دونالد ترامب ليس مجنوناً (الحلقة الثانية) (2/ 3)
-
دونالد ترامب ليس مجنوناً (الحلقة الأولى 1/3)
-
أفكار في رسم خريطة طريق لحل استراتيجي لإشكالية الطائفية في ل
...
-
رؤية نقدية في راهنية المقاومة الإسلامية من مقاومة شعبية إلى
...
المزيد.....
-
رؤيتنا: نظام بلا هياكل شعبية في عالم متزايد الأزمات
-
-ماركسي- أميركي من تركيا.. كيف جذب المؤثر حسن بايكر ملايين ا
...
-
وسط سلام بين أنقرة وحزب العمال.. قرويون يعودون إلى مزارعهم ف
...
-
جيل Z 212 واحتجاجات الشباب في المغرب: من الفضاء الرقمي إلى ا
...
-
جورجيا: الحزب الحاكم يفوز بالانتخابات المحلية وسط تصاعد الاح
...
-
محتجون في فرنسا وإسبانيا يطالبون بوقف الدعم العسكري للكيان ا
...
-
الغضب يملأ عشرات آلاف المتظاهرين لأجل غزة في شوارع مدريد
-
حبس الخبير الاقتصادي اليساري عبد الخالق فاروق 5 سنوات
-
انتصار صحفيو الوفد.. الإدارة توافق على تطبيق الحد الأدنى للأ
...
-
الغضب يملأ عشرات آلاف المتظاهرين لأجل غزة في شوارع مدريد
المزيد.....
-
مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية
...
/ وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
-
عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ
...
/ محمد الحنفي
-
الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
/ مصطفى الدروبي
-
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني
...
/ محمد الخويلدي
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963..........
/ كريم الزكي
-
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
/ حسان خالد شاتيلا
-
التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية
/ فلاح علي
-
الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى
...
/ حسان عاكف
المزيد.....
|