تيسير حسن ادريس
الحوار المتمدن-العدد: 8480 - 2025 / 9 / 29 - 01:35
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المُبْتَدَأُ:
يُؤَكِّدُ القائِدُ الأُمَمِيُّ "لِينِين" بِشَكْلٍ قاطِعٍ: (لا حَرَكَةَ ثَوْرِيَّةٌ بِدُونِ نَظَرِيَّةٍ ثَوْرِيَّةٍ. إِنَّنا لا نُبالِغُ مَهْما شَدِّدْنا عَلَى هذه الفِكْرَةِ فِي مَرْحَلَةٍ يَسِيرُ فِيها التَبْشِيرُ الشائِعُ بِالاِنْتِهازِيَّةِ جَنْباً إِلَى جَنْبٍ مَعَ المَيْلِ إِلَى أَشْكالِ النَشاطِ العَمَلِيِّ الضَيِّقَةِ جِدّاً).
وَالخَبَرُ:
(1)
يَدَّعِي الأُسْتاذُ خالِد كودي فِي مَقالِهِ بعنوان "بَيْنَ الحِزْبِ الشُيُوعِيِّ السُودانِيِّ وَاِبْنِ باز وَتَسْطِيحِ الأَرْضِ وَبوْلِ البَعِيرِ!"مَوْضُوعِيَّتِهِ وَواقِعِيَّتِهِ مُقابِلَ "جُمُودِ" الحِزْبِ الشُيُوعِيِّ، مُسْتَنِداً إِلَى مَقُولاتٍ مارْكِسِيَّةٍ مُجْتَزَأٍ مِن سِياقِها (الوُجُودُ الاِجْتِماعِيُّ يُحَدِّدُ الوَعْيَ، الأَزْمَةَ العُضْوِيَّةَ لِغْرامْشِي). إِلّا أَنَّ النَظْرَةَ العابِرَةَ دُونَ تَدْقِيقٍ لِمُحْتَوَى المَقالِ تَكْشِفُ أَنَّ التَحْلِيلَ الَّذِي قَدَّمَهُ لَيْسَ تَحْلِيلاً مادِّيّاً وَلا جَدَلِيّاً، بَلْ هُوَ بَيانٌ أيديولوجِيٌّ يَخْدِمُ مَصالِحَ طَبَقِيَّةً وَسِياسِيَّةً مُحَدَّدَةً، وَيُقَدِّمُ قِراءَةً مِثالِيَّةً وَمُبَسَّطَةً لِلواقِعِ تَحْتَ شِعارِ "الواقِعِيَّةِ" أَنَّهُ مُحاوَلَةٌ بائِسَةٌ لِتَفْكِيكِ الأيديولوجيّا تَحْتَ غِطاءِ "الواقِعِيَّةِ".
(2)
إِنَّ أَمْراً كَالَّذِي أَقْدَمَ عَلَيْهِ الأُسْتاذُ كودِّي لا رَيْبَ يَتَطَلَّبُ إِحاطَةً مَوْسُوعِيَّةً وَفَهْمٌ فَلْسَفِيّاً عَمِيقٌ لِلنَظَرِيَّةِ المارْكِسِيَّةِ "المادِّيَّةِ الجَدَلِيَّةِ/ وَالمادِّيَّةِ التارِيخِيَّةِ/ وَالاِقْتِصادُ السِياسِيُّ" لِكَيْ يَتَمَكَّنَ الكاتب مِن تَقْدِيمِ تَحْلِيلٍ دَقِيقٍ لِلواقِعِ التارِيخِيِّ وَالاِجْتِماعِيِّ فِي السُودانِ، وَلِنَهْجِ الحِزْبِ الشُيُوعِيِّ السُودانِيِّ بِالتَحْدِيدِ كَمُمَثِّلٍ حَقِيقِيٍّ لِتَيّارٍ مارْكِسِيٍّ يَسْعَى لِتَحْقِيقِ العَدالَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَالتَغْيِيرِ الثَوْرِيِّ. فَعَلَى الرَغْمِ مِن أَنَّ مَقالَةَ كودي تَشْتَمِلُ عَلَى إِشاراتٍ لِلتَحَوُّلاتِ العَمِيقَةِ الَّتِي عاشَها السُودانُ مُنْذُ اِنْدِلاعِ الحَرْبِ الَّتِي بَدَأَت فِي أَبْرِيلَ 2023، لٰكِنَّها تَفْتَقِرُ إِلَى العُمْقِ المادِّيِّ التارِيخِيِّ وَكَأَنَّما تارِيخُ السُودانِ بِكُلِّ إِرْثِهِ التَلِيدِ قَدْ بَدَأَ بِاِنْدِلاعِ هذه الحَرْبِ المَلْعُونَةِ. إِنَّ التَحَوُّلاتِ السِياسِيَّةَ وَالاِجْتِماعِيَّةَ تَتَطَلَّبُ قِراءَةً دَقِيقَةً لِلواقِعِ بِعُمْقٍ وَشُمُولِيَّةٍ أَكْثَرَ بِكَثِيرٍ مِن، مُجَرَّدُ إِلْقاءِ أَفْكارٍ سَطْحِيَّةٍ. إِنَّ المارْكِسِيَّةَ تَدْعُو دائِماً إِلَى دِراسَةِ السِياقِ التارِيخِيِّ وَالاِقْتِصادِيِّ وَالاِجْتِماعِيِّ لِفَهْمِ كَيْفِيَّةِ تَحْدِيدِ القُوَى المُتَغَيِّرَةِ لِلمُجْتَمَعِ، وَيَظْهَرُ تَجاهُلُ الكاتِبِ لهذا العُنْصُرِ أَنَّهُ لا يَفْتَقِرُ فَقَط لِفَهْمٍ عَمِيقٍ لِلواقِعِ السُودانِيِّ بَلْ وَيَفْتَقِرُ أيضا لِفَهْمٍ فَلْسَفِيٍّ صَحِيحٍ لِلمادِّيَّةِ التارِيخِيَّةِ.
(3)
التَناقُضُ الجَوْهَرِيُّ فِي المَقالِ يَتَبَدَّى فِي الدَعْوَةِ إِلَى "الواقِعِيَّةِ" مُقابِلَ إِنْكارِ التَناقُضِ الطَبَقِيِّ الأَساسِيِّ؛ فِي حِينِ يَقُومُ الاِدِّعاءُ المَرْكَزِيُّ لِلمَقالِ وَيَتَأَسَّسُ عَلَى اِنْتِقادِ الحِزْبِ الشُيُوعِيِّ لِتَمَسُّكِهِ بِـ"شِعاراتِ" ثَوْرَةِ دِيسَمْبِرَ (حَلِّ الدَعْمِ السَرِيعِ، مَدَنِيَّةِ السُلْطَةِ) وَيَتَّهِمُهُ بِعَدَمِ رُؤْيَةِ "الواقِعِ الجَدِيدِ" المُتَمَثِّلِ فِي "الكُتْلَةِ التارِيخِيَّةِ الجَدِيدَةِ" الَّتِي يُمَثِّلُهُا تَحالُفُ "تَأْسِيسٌ". وَهُنا يَقَعُ المَقالُ فِي التَناقُضِ الأَساسِيِّ. فَالمادِّيَّةُ التارِيخِيَّةُ لا تَعْنِي مُجَرَّدَ "التَكَيُّفِ" مَعَ أَيِّ تَوازُنٍ قُوىً جَدِيدٍ، بَلْ تَحْلِيلِ طَبِيعَةِ القُوَى الطَبَقِيَّةِ الَّتِي أُنْتَجَت هذا التَوازُنَ. السُؤالُ المارْكِسِيُّ الجَوْهَرِيُّ الَّذِي كانَ لا بُدَّ أَنْ يَنْتَصِبَ أَمامَ السَيِّدِ كودي مُطالِباً إِيّاهُ بِالإِجابَةِ هُوَ: ما هِيَ المَصالِحُ الطَبَقِيَّةُ الَّتِي تُمَثِّلُها قُوّاتُ الدَعْمِ السَرِيعِ وَحُلَفاؤُها فِي "تَأْسِيسٍ"؟
(4)
لا شَكَّ فِي أَنَّ الأُسْتاذَ كودي خَيْرُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ قُوّاتِ الدَعْمِ السَرِيعِ: لَيْسَت مُجَرَّدَ "مِلِيشْيا"، بَلْ هِيَ تَجْسِيدٌ لِرَأْسِمالِيَّةٍ طُفَيْلِيَّةٍ كومْبْرادُورِيَّةٍ، نَشَأَت وَتَضَخَّمَت عَبْرَ نَهْبِ مَوارِدِ الدَوْلَةِ (الذَهَبِ) وَالعُنْفِ المُمَنْهَجِ، وَتَحَوَّلَت إِلَى جِهازٍ رَأْسُمالِيٍّ طُفَيْلِيٍّ يُعِيدُ إِنْتاجَ التَبَعِيَّةِ لِلإِمْبِرْيالِيَّةِ (عَلاقاتِها مَعَ "فاغْنَر" الرُوسِيَّةِ وَدَوِيلَةِ الإِماراتِ مِثالاً). وَقَبُولُها كَشَرِيكٍ فِي "كُتْلَةٍ تارِيخِيَّةٍ" دُونَ تَفْكِيكِ بِنْيَتِها الاِقْتِصادِيَّةِ-العَسْكَرِيَّةِ يَعْنِي القَبُولَ بِأُسُسِ النِظامِ الرَأْسُمالِيِّ المُتَوَحِّشِ القَدِيمِ نَفْسِهِ الَّذِي ثارَ عَلَيْهِ الشَعْبُ السُودانِيُّ فِي 19 دِيسَمْبِرَ 2018م.
(5)
يُقَدِّمُ المَقالُ مَشْرُوعَ تَحالُفِ "تَأْسِيسِ" السِياسِيِّ كَمَشْرُوعٍ "عِلْمانِيٍّ دِيمُقْراطِيٍّ لا مَرْكَزِيٍّ". وَلٰكِنْ مِن مَنْظُورٍ مارْكِسِيٍّ، أَيُّ مَشْرُوعٍ سِياسِيٍّ لا يَضَعُ فِي صُلْبِ اِهْتِمامِهِ مَسْأَلَةَ السُلْطَةِ الطَبَقِيَّةِ – أَيْ مَنْ يُسَيْطِرُ عَلَى مَوارِدِ البِلادِ وَيُوَجِّهُ الاِقْتِصادَ – هُوَ مَشْرُوعٌ إِصْلاحِيٌّ يَمِينِيٌّ لا يَمُتُّ بِصِلَةٍ لِعَمَلِيَّةِ التَغْيِيرِ الجَذْرِيِّ. قَبُولُ الدَعْمِ السَرِيعِ كَشَرِيكٍ دُونَ نَزْعِ سِلاحِهِ وَتَفْكِيكِ اِقْتِصادِهِ الحَرْبِيِّ يَعْنِي عَمَلِيّاً إِخْضاعَ المَشْرُوعِ السِياسِيِّ بِرُمَّتِهِ لِهَيْمَنَةِ البُرْجُوازِيَّةِ الطُفَيْلِيَّةِ المُسَلَّحَةِ. هذه لَيْسَتْ "جَدَلِيَّةً"، بَلْ هِيَ اِسْتِسْلامٌ لِلقُوَّةِ الغاشِمَةِ تَحْتَ شِعارِ "قِراءَةِ الواقِعِ".
(6)
تَضَمَّنَ الاِدِّعاءُ المَرْكَزِيُّ لِلمَقالِ أَنَّ الحِزْبَ الشُيُوعِيَّ أَسِيرُ "البُرْجُوازِيَّةِ الصَغِيرَةِ" المَدِينِيَّةِ (مُوَظَّفُونَ، مِهْنِيُّونَ) الَّتِي تَمِيلُ إِلَى الشِعاراتِ وَالمَواقِفِ الأَخْلاقِيَّةِ بَدَلاً مِن الخُطَطِ الواقِعِيَّةِ. وَلَعَمْرِي هذا تَحْلِيلٌ مُشَوَّهٌ وَغارِقٌ حَتَّى أُذُنَيْهِ فِي الاِنْتِقائِيَّةِ؛ صَحِيحٌ أَنَّ البُرْجُوازِيَّةَ الصَغِيرَةَ، بِحَسَبِ المارْكِسِيَّةِ، طَبَقَةٌ مُتَأَرْجِحَةٌ. وَلٰكِنْ فِي لَحْظَةِ الاِنْفِجارِ الثَوْرِيِّ، يَكُونُ جَناحُ الثَوْرَةِ المُتَقَدِّمِ هُم كَوادِرُ الحِزْبِ الشُيُوعِيِّ الَّذِي يَضُمُّ بِالإِضافَةِ لِلبُرْجُوازِيَّةِ الصَغِيرَةِ العُمّالَ وَالمُزارِعِينَ إِضافَةً لِلجَأْنِ المُقاوِمَةِ بِتَشْكِيلاتِها المُخْتَلِفَةِ لِيَكُونُوا فِي تِلْكَ اللَحْظَةِ الحَرِجَةِ الحامِلِ الفِعْلِيِّ لِمَشْرُوعِ التَغْيِيرِ الدِيمُقراطِيِّ الجَذْرِيِّ لِأَنَّ الشُيُوعِيِّينَ وَالطَبَقاتِ المُهَمَّشَةَ وَالضَعِيفَةَ هُم الأَكْثَرُ تَأَثُّراً بِاِسْتِغْلالِ الدَوْلَةِ الرَأْسُمالِيَّةِ وَتَحالُفِها مَعَ الإِمْبِرْيالِيَّةِ. هذه حَقِيقَةٌ لَمْسِها كُلُّ مَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَمْعِ وَهُوَ شَهِيدٌ فِي مَجْرَى أَحْداثِ ثَوْرَةِ 19 دِيسَمْبِر الماثِلَةِ وَالحاضِرَةِ فِي الأَذْهانِ دَعْ عَنْكَ ثَورَتَيْ أكتوبر 1964م وَأَبْرِيل 1985م.
(7)
هذا مِنْ ناحِيَةٍ وَمِن ناحِيَةٍ أُخْرَى دَعْنِي أَسْأَلُ كاتِبَ المَقالِ مَنْ هِيَ القُوَى الاِجْتِماعِيَّةُ الَّتِي يَقُودُها تَحالُفُ "تَأْسِيسٍ" الَّذِي يَمْتَدِحُهُ؟ أَلَيْسَتْ تَحالُفاً بَيْنَ بُرْجُوازِيَّةٍ طُفَيْلِيَّةٍ مُسَلَّحَةٍ (الدَعْمِ السَرِيعِ) وَقِطاعاتٌ مِنْ بُرْجُوازِيَّةٍ تَقْلِيدِيَّةٍ وَ"بُرْجُوازِيَّةٍ صَغِيرَةٍ" مِنْ مَناطِقِ الهامِشِ تَسْعَى لِلحُصُولِ عَلَى حِصَّةٍ فِي السُلْطَةِ؟ المَقالُ يَنْتَقِدُ "بُرْجُوازِيَّةً صَغِيرَةً" تَدْعُو لِلدِيمُقْراطِيَّةِ وَالتَغْيِيرِ الجَذْرِيِّ، بَيْنَما يُبارِكُ تَحالُفاً تَقُودُهُ "بُرْجُوازِيَّةٌ طُفَيْلِيَّةٌ" مُسَلَّحَةٌ وَقِطاعاتٌ أُخْرَى مِنْ البُرْجُوازِيَّةِ الصَغِيرَةِ، مُتَناسِياً أَنَّ الأَخِيرَةَ قَدْ تَلْتَحِقُ بِأَيِّ قُوَّةٍ مُهَيْمِنَةٍ بَحْثاً عَنْ مَكاسِبَ فَوْرِيَّةٍ، مِمّا يَضْعُفُ أُسُسَ تَكْوِينِ أَيِّ سُلْطَةٍ مَدَنِيَّةٍ دِيمُقْراطِيَّةٍ مُسْتَقِرَّةٍ. وَمِنْ هذا المُنْطَلَقِ فَإِنَّ اِتِّهامَ السَيِّدِ كودي لِلحِزْبِ الشُيُوعِيِّ بِالتَمَسُّكِ بِـ"مَرْكَزِيَّةٍ" مَدِينِيَّةٍ هُوَ مِن بابِ إِلْقاءِ الكَلامِ عَلَى عَواهِنِهِ كَيْفَما اِتَّفَقَ بِلا تَفْكِيرٍ وَلا رَوِيَّةٍ لِأَنَّهُ بِبَساطَةٍ يَتَجاهَلُ نِضالَ الحِزْبِ الشُيُوعِيِّ التارِيخِيِّ مِن أَجْلِ قَضايا الهامِشِ وَالعَدالَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ. المَوْقِفُ المَبْدَئِيُّ لَيْسَ "مَرْكَزِيّاً" بَلْ هُوَ رَفْضٌ لِاِسْتِبْدالِ هَيْمَنَةِ مَرْكَزٍ قَدِيمٍ (الجَيْشُ وَقُوَى اليَمِينِ الدِينِيَّةِ وَالطائِفِيَّةِ) بِمَرْكَزٍ جَدِيدٍ مَبْنِيٍّ عَلَى اِقْتِصادِ عُنْفٍ وَنَهْبِ (الدَعْمِ السَرِيعِ وَالقُوَى الاِنْتِهازِيَّةِ المُتَحالِفَةِ مَعَهُ).
(8)
يَتَضَمَّنُ الاِدِّعاءُ المَرْكَزِيُّ لِلمَقالِ أَيْضاً اِتِّهامَ الحِزْبِ بِـ"الجُمُودِ المِيتافِيزِيقِيِّ" وَعَدَمِ تَطْبِيقِ المادِّيَّةِ الجَدَلِيَّةِ الَّتِي تَفْرِضُ تَغْيِيرَ الوَعْيِ مَعَ تَغَيُّرِ الواقِعِ. وَلَعَمْرِي هٰذا يَجْعَلُ مِن المادِّيَّةِ الجَدَلِيَّةِ "فيتيش" أَوْ(صَنم) عِوَضاً عَن كَوْنِها أَداةَ تَحْلِيلِ وَهُوَ اِسْتِخْدامُ دوجَمائِيُّ فيتيشي لا عَلاقَةَ لَهُ بِالجَدَلِ المادِّيِّ. الجَدَلِيَّةُ لا تَعْنِي التَكَيُّفَ السَلْبِيَّ مَعَ أَيِّ واقِعٍ فَرَضَتهُ القُوَّةُ العَسْكَرِيَّةُ؛ بَلْ تَعْنِي تَحْلِيلَ تَناقُضاتِ هذا الواقِعِ الجَدِيدِ وَالعَمَلِ عَلَى حَلِّها لِصالِحِ الكادِحِينَ. فَالواقِعُ الجَدِيدُ الَّذِي يَتَحَدَّثُ عَنهُ الكاتِبُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَناقُضاتٍ صارِخَةٍ: تَناقُضٌ بَيْنَ خِطابِ تَحالُفِ "تَأْسِيسِ" الدِيمُقراطِيِّ وَطَبِيعَةِ القُوَّةِ المُسَلَّحَةِ المُهَيْمِنَةِ داخِلَهُ (الدَعْمُ السَرِيعُ). وَتَناقُضٌ بَيْنَ مَطالِبِ الجَماهِيرِ بِالحُرِّيَّةِ وَالعَدالَةِ وَالكَرامَةِ وَبَيْنَ تَحالُفٍ يَشْرَعْنَ قُوَّةً قَمِعَت وَقُتِلَت وَنَهَبَت واغتصبت هذه الجَماهِيرِ. المَوْقِفُ الجَدَلِيُّ الحَقِيقِيُّ هُوَ الكَشْفُ عَن هذه التَناقُضاتِ وَالعَمَلِ عَلَى حَلِّها، وَلَيْسَ القَفْزُ فَوْقَها وَالاِدِّعاءَ بِأَنَّ "الكُتْلَةَ التارِيخِيَّةَ الجَدِيدَةَ" قَدْ حَلَّتْ كُلَّ شَيْءٍ. مَوْقِفُ الحِزْبِ الشُيُوعِيِّ، بِرَفْضِهِ التَطْبِيعَ مَعَ قُوَّةٍ مُهَيْمِنَةٍ مُسَلَّحَةٍ، هُوَ مَوْقِفٌ مادي جَدَلِيٌّ لِأَنَّهُ يُسَلِّطُ الضَوْءَ عَلَى التَناقُضِ الرَئِيسِيِّ الَّذِي يَتَغافَلُ عَنْهُ كاتِبُ المَقالِ.
(9)
يَسْتَخْدَمُ الأُسْتاذُ كودي لِفَرْطِ الدَهْشَةِ وَالعَجَبِ مَفْهُومَ غرامشِي عَن "الأَزْمَةِ العُضْوِيَّةِ" لِيَصِفَ عَجْزَ الحِزْبِ عَن فَهْمِ الواقِعِ الجَدِيدِ!!؛ وَهُنا نَكْتَشِفُ أَنَّ تَشْخِيصَ كاتِبِنا مَعْكُوسٌ تَماماً. فَالأزْمَةُ العُضْوِيَّةِ الحَقِيقِيَّةُ فِي السُودانِ هِيَ أَزْمَةُ هَيْمَنَةِ النِظامِ القَدِيمِ (الإِنْقاذِ وَتَحالُفاتُهُ) وَاِنْهِيارُهُ دُونَ قُدْرَةِ أَيِّ قُوَّةٍ عَلَى فَرْضِ هَيْمَنَةٍ جَدِيدَةٍ مُسْتَقِرَّةٍ. ما يُسَمِّيهِ الكاتِبُ "كُتْلَةٌ تارِيخِيَّةٌ جَدِيدَةٌ" هُوَ مُحاوَلَةٌ لِتَرْقِيعِ هذه الأَزْمَةِ عَبْرَ تَحالُفِ هَشٍّ وَغَيْرِ عُضْوِيٍّ بَيْنَ قُوَى مُتَعارِضَةِ المَصالِحِ الطَبَقِيَّةِ (بُرْجُوازِيَّةٌ طُفَيْلِيَّةً مُسَلَّحَةً مَعَ قُوىً مِن الهامِشِ). هذا التَحالُفُ لا يَحُلُّ الأَزْمَةَ العُضْوِيَّةَ بَلْ يُعَمِّقُها لِأَنَّهُ يَبْنِي "حَلّاً" عَلَى أَساسٍ عَنِيفٍ وَغَيْرِ دِيمُقْراطِيٍّ، مِمّا يَضْمَنُ اِسْتِمْرارَ الصِراعِ. الحِزْبُ الشُيُوعِيُّ، بِرَفْضِهِ هذا "الحَلُّ"، يَرْفُضُ المُشارَكَةَ فِي جُرْمِ تَرْقِيعِ الأَزْمَةِ العُضْوِيَّةِ بَدَلاً مِن إِيجادِ الحُلُولِ الجِذْرِيَّةِ الشامِلَةِ لَها.
(10)
الخُلاصَةُ:
مَقالُ الأُسْتاذِ خالِد كودي بَعِيداً عَن كَوْنِهِ تَحْلِيلاً "واقِعِيّاً"، فَهُوَ لا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ سِوَى أيديولوجِيّاً تَبْرِيرِيَّةٍ بائِسَةٍ بِالمَعْنَى المارْكِسِيِّ لِأَنَّهُ بِكُلِّ بَساطَةٍ:
1. يَعْقَلْنَ وَيُشَرِّعْنَ الهَيْمَنَةَ الجَدِيدَةَ لِتَحالُفِ "تَأْسِيسٍ" وَيُقَدِّمُها كَحَتْمِيَّةٍ تارِيخِيَّةٍ ("التارِيخُ لا يَعُودُ إِلَى الوَراءِ").
2. يُخْفِي التَناقُضاتِ الطَبَقِيَّةَ الأَساسِيَّةَ تَحْتَ مُصْطَلَحاتٍ فَضْفاضَةٍ مِثْلِ "الكُتْلَةِ التارِيخِيَّةِ" وَ"المَشْرُوعِ العِلْمانِيِّ الدِيمُقْراطِيِّ".
3. يُشَيْطِنُ المُعارَضَةُ المَبْدَئِيَّةُ لهذا التَحالُفِ (مَوْقِفُ الحِزْبِ الشُيُوعِيِّ) وَيُصَوِّرُها عَلَى أَنَّها جُمُودٌ وَ"مِثالِيَّةٌ" وَ"تُشْبِهُ إِنْكارَ كُرَوِيَّةِ الأَرْضِ"، بَيْنَما هُوَ يُقَدِّمُ قِراءَةً سِحْرِيَّةً مِثالِيَّةً لِمَشْرُوعِ تَحالُفٍ غَيْرِ مُتَماسِكٍ الطَبَقِيَّةِ.
4. يَخْدِمُ مَصالِحَ طَبَقِيَّةً مُحَدَّدَةً، وَهِيَ مَصالِحُ القُوَى الطُفَيْلِيَّةُ المُسَلَّحَةُ وَشُرَكاؤُها الَّذِينَ يَسْعَوْنَ لِلحُصُولِ عَلَى شَرْعِيَّةٍ سِياسِيَّةٍ مِنْ خِلالِ خِطابِ "الواقِعِيَّةِ" وَ"التَكَيُّفُ مَعَ المُتَغَيِّراتِ".
إِنَّ المَوْقِفَ المارْكِسِيَّ الثَوْرِيَّ الأَصِيلَ لَيْسَ التَمَسُّكَ الحَرْفِيَّ بِشِعاراتِ الماضِي، وَلٰكِنَّهُ أَيْضاً لَيْسَ الاِسْتِسْلامَ لِلقُوَّةِ الغاشِمَةِ تَحْتَ ذَرِيعَةِ "قِراءَةِ الواقِعِ". المَوْقِفُ المارْكِسِيُّ هُوَ التَشَبُّثُ بِالأُسُسِ الطَبَقِيَّةِ لِلصِراعِ وَالعَمَلِ عَلَى بِناءِ قُوَّةٍ جَماهِيرِيَّةٍ قادِرَةٍ عَلَى حَلِّ التَناقُضاتِ لِصالِحِ الكادِحِينَ، وَلَيْسَ لِصالِحِ البُرْجُوازِيَّةِ الطُفَيْلِيَّةِ المُسَلَّحَةِ أَوْ أَيِّ شَكْلٍ مِن أَشْكالِ الاِسْتِغْلالِ. مِن هذه الزاوِيَةِ، فَإِنَّ بَيانَ الحِزْبِ الشُيُوعِيِّ، رَغْمَ أَيِّ قُصُورٍ فِيهِ، أَكْثَرُ اِتِّساقاً وَاِلْتِصاقاً بِالمَنْهَجِ المادِّيِّ الجَدَلِيِّ مِن مَقالِ السَيِّدِ كودي الَّذِي يُهاجِمُهُ، لِأَنَّهُ بِبَساطَةٍ شَدِيدَةٍ يُمْسِكُ بِالجَوْهَرِ الطَبَقِيِّ لِلصِراعِ وَلا يَسْتَسْلِمُ لِلوَقائِعِ المَفْرُوضَةِ بِقُوَّةِ السِلاحِ.
#تيسير_حسن_ادريس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟