أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزالدين بوروى - في رثاء القديسة















المزيد.....

في رثاء القديسة


عزالدين بوروى

الحوار المتمدن-العدد: 8462 - 2025 / 9 / 11 - 22:49
المحور: الادب والفن
    


تتبعثر الكلمات فوق لوحة المفاتيح بمجرد محاولة نحت عبارات تتماشى مع عظمة فقيدتنا، أو بالأحرى إيجاد الكلمات الدقيقة لوصف الكم الهائل من الحزن على فقدان إنسانة عظيمة هي أمي بالدرجة الأولى. عرفت فيما مضى العديد من الأصدقاء الذين فقدوا أمهاتهم ، وكنت أحزن لسماع تلك الأخبار ، لكوني أعرف ما تشكله "الأم " في دواخل كل واحد فينا ؛ لكن لم أكن أتصور أن الفقد يمكن أن يبطش بدواخل المرء بهذه الشاكلة حتى فقدت هذا الظل الظليل .
أجلس الآن بعد مرور شهر على فقدانها وأحاول جمع شظاياي بعد معركة نفسية حامية الوطيس . أحاول جاهدا الهروب إلى عالم الكتابة علها تخفف هذا الوزر الثقيل على قلب ضعيف .
كل شيء يذكرنا بها ، صدى صوتها لايزال يهمس بفناء المنزل ، وضحكتها التي كانت دواء لكل داء ، ومحادثاتها اليومية التي لا تنتهي إلا بعبرة للتاريخ، حكمة حياتية ، أو درس أزلي ستشرحه لنا الأيام . فيما مضى كنت قرأت قولا لم أعد أتذكر صاحبه يقول :" إن الفراق إثم "...والآن وحيدا مع نفسي أزكي هذا القول أكثر من أي وقت مضى وأضيف أن الفراق إثم وجريمة في حق الأحياء ، خصوصا حينما تكون الذاكرة مثقلة بأرشيف ضخم من الذكريات واللحظات الجميلة بينك وبين فقيدك .
أكتب إليك يا قديستي بقلب يعتصرألما، وبكلمات لازلت أحاول تطويعها كي تكتب عبارة في محلها ، أكتب إليك وأنا على علم أن كلماتي ستدركك في مكان ما في هذا العالم ، أكتب إليك لأخبرك أن الأيام صارت سيان عندي ، والليالي أصبحت نفسها تتكرر بنفس الرتابة والأسى المُخزيين . المياه كلها بلون الغرق يا أمي ، وحياتي كلها متوقفة مذ ذلك المساء بلون باهت جدا . يا إنسانة جسدت الخير المطلق دون أن تقرأ الفكر المثالي الألماني يوما أو تسمع عنه ...أيا امرأة لم تحرم أبناءها أي شيء ، ولم تبخل عنا يوما بأي شيء ، يا سيدة لم يغمض لها جفن يوما حتى ينام أولادها ، ولم تمد لقمة لفيها قبل أن يشبع فِلْذات كبدها ...يا امرأة شبعت من الدنيا قبل أن تدرك الآخرة ...حزانى نحن أيتها القديسة ، والحياة بعدك تيه في تيه ، لكنني على وعي أن رب المزرعة دائما ما يقطف الثمار الجيدة .
لقد قالها جبران خليل جبران يوما في خالدته "الأجنحة المنكسرة " : إِنَّ أَعْذَبَ ما تُحدِّثُهُ الشِّفاهُ الْبَشَرِيّةُ هو لَفْظَةُ "الْأُم". وَأَجْمَلُ مُناداةٍ هِيَ: يا أُمّي. كَلِمَةٌ صَغيرَةٌ مَمْلوءَةٌ بِالْأَمَلِ وَالْحُبِّ وَالْعَطْفِ، وَكُلِّ ما في الْقَلْبِ الْبَشرِيِّ مِنَ الرِّقَةِ وَالْحَلاوَةِ وَالْعُذوبَةِ.
الْأُمُّ هِيَ كُلُّ شَيءٍ في هذِهِ الْحَياةِ، هِيَ التَّعزيَةُ في الْحُزنِ، والرَّجاءُ في الْيَأْسِ، وَالْقُوَّةُ في الضَّعْفِ، هِيَ يُنْبوعُ الْحُنُوِّ وَالرَّأْفَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْغُفْرانِ، فَالّذي يَفْقِدُ أُمَّهُ يَفْقِدُ صَدْرًا يَسْنِدُ إِلَيْهِ رَأسَهُ، وَيَدًا تُبارِكُهُ، وَعَيْنًا تَحْرِسُهُ.
كُلُّ شَيءٍ في الطَّبيعَةِ يَرْمِزُ إِلى الْأُمومَةِ وَيَتَكَلَّمُ عَنْها، فَالشَّمْسُ هِيَ أُمُّ الْأَرْضِ: تُرْضِعُها حَرارَتَها، وَتَحْتَضِنُها بِنورِها، وَلا تُغادِرُها عِنْدَ الْمِساءِ إلّا بَعْدَ أَنْ تنوّمَها عَلَى نَفْحَةِ أَمْواجِ الْبَحْرِ، وَتَرْنيمَةِ الْعَصافيرِ وَالسَّواقي، وَهذِهِ الْأَرْضُ هِيَ أُمٌّ لِلْأَشْجارِ وَالْأَزْهارِ، تَلِدُها وَتُرْضِعُها ثُمَّ تَفْطِمها. وَالْأَشْجارُ وَالْأَزْهارُ تَصيرُ بِدَوْرِها أُمَّهاتٍ حَنوناتٍ لِلْأَثْمارِ الشَّهيَّةِ وَالْبُذورِ الْحَيَّةِ. وَأُمُّ كُلِّ شَيْءٍ في الْكِيانِ هِيَ الرُّوحُ الْكُليّةُ الْأَزَلِيَّةُ الْأَبَدِيَّةُ الْمَمْلوءَةُ بالْجَمالِ وَالْمَحَبَّةِ.
أمي ، جرسيف كلها حزينة على فراقك ، جبال ارشيدة وميازيبها ، زوارق الناظور التي ركبناها يوما وقطعنا بها بحارها، نوارس مارتشيكا التي أطعمتها بيديك الشريفتين ، شوارع الرباط التي جبناها سويا في ذلك الصباح الجميل من صباحات مارس الباردة الذي لا يشبه سابقيه ولا لاحقيه...إذا كانت كل هذه الاشياء جاثية على رُكَبها وحزينة على فراقك ، فماذا يقول هذا الإنسان الهش ؟
في ذلك الثلاثاء الحزين يا أمي ، حينما حملتك من مستودع الأموات إلى البيت كي يودعك أخواتي العزيزات الوداع الأخير ، تمنيت أن أكون مكانك ، ملفوفا بذلك الثوب الأبيض ، والناس كلهم يرددون – وأنت معهم – أغنية السوري عبد الرحمن قباني :
يا امي اطلعي عالباب لاقيله
جابوه محمّل على الكتاف شالونه
قومي افرشي فرشته وهاتي مخداته
نام العريس وغفي وتغمضو عيونه
يا امي البسي مطرز ما بين ناسك
ولا طرحة سودة حطيها على راسك
اليوم طير السعد هدّا ع شبّاكك
رفرف حواليكي وبين عيونك باسك
يا امي اسندي ظهرك بديّاتك
وامشي راسك مرفوع مابين خيّاتك
قالوا البطل ان وقع تدمع عليه العين
وانتي ليوم الفرح خبيتي دمعاتك
يا امي اجمعي شعره واجدليله
وأغلى عطر عالراس يا يما رشيله
اليوم عرس حبيب الروح المدلَّل
هاتي ثياب العرس هاتي مناديله

حقا يوم عرسي الحقيقي أيتها القديسة كان سيكون لو غادرت قبلك ، لكن حقّ للسوريين جميعاً الآن أن يغيروا هذه الكلمات ، فأمي غادرت ، وبهذه الأصابع التي تكتب هذا النعي وضعت رأسها تحت التراب . اليوم ، كل الكلمات لم تستطع تضميد هذا الجرح ، وحتى ذلك الكم الهائل من المواساة لم يستطع التخفيف من هول الصدمة ، فالأصعب في الموت هو أن يدركك وأنت في كامل وعيك ، بحيث لازلت أتذكر تفاصيل الوفاة لحظة بلحظة ، وأحفظ قسمات الوجه جزءا بجزء ...
أيها السادة: إن الأشخاص العظماء يحافظون على عظمتهم حتى حينما يغادرون الحياة ، ويتركون في نفوس أقربائهم أحزانا وجراحا عظيمة كعظمتهم . لقد غادروا ، لكن فرضوا وجودهم ؛ لا بالقوة ولا بالسلطة ، وإنما بكونهم أخيارا وعملهم على زرع بذرة الخير في بيئتهم ...فالخير أصل الكون كله .
في الثاني والعشرين من يونيو الماضي، حدثتني بومة منيرڤا خاصتي قائلة : هذا الصيف سيكون حزينا جدا على غرار الصيوف الماضية، وهاأنذا اليوم أتأكد من صدق كلامها ...وها هي منيرڤا اليوم تنعق فوق سلك كهربائي بمحاذاة منزلنا بصوت حزين مفاده أن كل آلهة الإغريق في حداد على روح كل أم في هذا العالم الفسيح، من زيوس إلى ديونيسوس.
أمي ، لقد أصبح ابنك أستاذا في احتمال الألم ، وهذا يكفي .



#عزالدين_بوروى (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا جنت إسرائيل على العالم العربي ؟
- بُومُ مِنيرْفا…
- سقطت الأقنعة، فما العمل ؟
- إقرؤوا الأدب تصحوا...
- في نعي الشهيدين حسام بودهان وحمزة كمبري
- قِحَابٌ وَلَكِنْ...(الجزء الثاني )
- قِحَابٌ وَلَكِنْ...
- ملفات عن الحياة الموت وأشياء أخرى
- ملفات عن الحياة والموت وأشياء أخرى…
- مائتا عام مرت على اهتزاز عرش القيصر
- السير بخطى ثابتة نحو الهاوية/ نسخة معدلة من المقال السابق
- السير بخطى ثابتة نحو الهاوية
- تأهيل للقراءة بالنسبة لأشباه القراء
- قرية أبريل/ علي عبدوس
- خاوة-خاوة
- انتصار على السيورانية
- اليسار باقٍ مادام التناقض قائما...
- الله ذلك المجهول


المزيد.....




- وعد بنسف الرواية الحكومية.. الإعلامي الأميركي تاكر كارلسون ي ...
- أرونداتي روي: ما يحدث في غزة إبادة جماعية
- يعود بفيلم -Anemone-.. دانيال داي لويس يوضح أسباب تراجعه عن ...
- وهل غيرها أنهكتْني؟
- تجسيد زنا المحارم في مسرحية -تخرشيش- يثير الجدل في المغرب
- مهرجان الفيلم العربي يعود إلى ستوكهولم بدورته السادسة
- أيادي الشباب تعيد نسج خيوط التراث المنسي في -بيت يكن- بالقاه ...
- أبرز كشف أثري في مصر: نسخة جديدة كاملة من مرسوم كانوب البطلم ...
- قطاع صناعة الأفلام.. الوجه الآخر لصراع الشرق الأوسط
- باريس-اليونسكو : ندوة للإحتفاء بمؤية الشاعر الإماراتي سلطان ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزالدين بوروى - في رثاء القديسة