أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد الراعي - أنا القربان... قسوة التضحية














المزيد.....

أنا القربان... قسوة التضحية


سعاد الراعي
كاتبة وناقدة

(Suad Alraee)


الحوار المتمدن-العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 19:56
المحور: الادب والفن
    


في تلك اللحظة الاستثنائية التي لم يشهد قلبي مثلها من قبل، وجدت نفسي، أنا الطفلة، الابنة البكر، محمولة بين ذراعي أمي كما يُحمل الخروف إلى الذبح. وضعتني في وسط باحة الدار، باتجاه القبلة، والدهشة تلفّني من رأسي حتى قدميّ. كان جسدي الطفولي الغض يرتجف كغصنٍ في مهبّ ريحٍ عاصفة، فيما صرخة أمي دوّت كالرعد المزمجر، تخلع سكون المكان، وتنقشع في فضاء الدار كحريقٍ لا يُطفأ:
"أقسمتُ بالله العلي العظيم، إن نجا حسين من الإعدام، لأجعلنّ ابنتي هذه قربانًا له... نذرًا لا رجعة فيه! وليشهد الجميع على قسمي!"
كان الصوت متكسّرًا، متهدّجًا، يتناوب فيه النحيب مع الرجاء، وفيه من الانكسار ما يقطع نياط القلب. لم أكن أدرك حينها معنى القربان ولا أسرار النذر، لكن قلبي الصغير أحسّ أن هناك فجيعة عظمى تضرب صدر أمي، وأن شيئًا جللاً يُوشك أن ينتزع من البيت دفأه ومن عينيها نورها.
كان ذلك في اليومٍ التاسع عشر من شباط المشؤوم عام 1963، يوم ارتجّت فيه جدران البيت بخبرٍ كالصاعقة: اعتقال حسين، ابن عمة والديّ "مكية"، الذي لم يكن مجرد قريب، بل كان الأخ والسند، سلام عادل، القائد الذي التهمت أقبية "قصر النهاية" جسده تحت سياط البعث. حين وصل الخبر، كان البيت كله ينوح، لكن من تحطّم حقًا وحتى النهاية كانت أمي. سقط قلبها على عتبة الباب كزجاج مهشّم، وغرقت في بحرٍ من الألم، كأن السنين كلها اجتمعت لتثقل كاهلها وتنتزع منها نصف روحها.
حسين بالنسبة لها لم يكن ابن عمّة وحسب؛ كان ظلّها وملاذها، بل كان وطنًا صغيرًا احتمت فيه من برد الأيام وقسوة الأقدار. عاشت في بيتهم طفولتها، وجدت بينهم الحنان الذي حُرمت منه في بيت والدها، وتذوّقت دفئًا لم تعرف له شبيهًا. كان يدعوها باسمٍ خاص، يخرج من فمه كأغنية: "أولي". كان يرفعها عاليًا نحو السماء، يقذفها إلى الحلم ويلتقطها بذراعيه بحنوّ من يخشى على حلمه أن يتكسّر.
لهذا لم أستغرب أن تزلزل صرختها أركان الدار في ذلك اليوم. لم تكن صرخة نذرٍ فقط، بل كانت صرخة من فقدت نصف كيانها، صرخة أمٍّ ترى الموت ماثلًا أمامها في صورة غياب، وترى العالم ينهار دون أن تجد يدًا تلتقطها.
كنت ممدّدة هناك في باحة الدار، لا أفهم معنى أن أكون قربانًا، لكنني شعرت بثقل الكلمة كأنها جبل جثم فوق صدري. شعرت أنني، بجسدي الطفولي العاجز، قد تحوّلت إلى مرآةٍ لألمٍ أكبر مني، إلى شاهدٍ حيّ على مأساةٍ لا تسعها اللغة. رأيت أمي بوجهها الأبيض وقد تحوّل إلى زرقةٍ داكنة، كأن الحزن نزف دمها وأطفأ نورها. في عينيها كان الرماد يختلط بالسواد، وفي نظرتها انطفأت الحياة.
ذلك المشهد لم يغادرني أبدًا. ظلّ يحفر نفسه في أعماقي كشاهدٍ لا يموت، يطلّ برأسه كلّما سمعت اسم "سلام عادل"، أو كلما أبصرت ملامح أمي وهي تجاهد لتخفي وجعًا لا ينطفئ. كان قسمها يتردّد في أذنيّ على الدوام، كأنه يُتلى الآن، يجلجل في داخلي، يذكرني أنني لم أعد كما كنت: طفلة عابرة في طريق الطفولة، بل صرت قربانًا حيًّا، شاهدةً على حكايةٍ يتشابك فيها الفقد بالفداء، والخذلان بالعظمة.
أن تُقدّم أمّ ابنتها قربانًا، أي وجعٍ هذا الذي يضيق به التعبير؟ لكنه أيضًا أسمى صور العطاء، ذاك العطاء الذي لا يُقاس بالهبات ولا بالكلمات، بل يُقاس بما يُنتزع من القلب ويُراق من الروح.
كان قسمها انفجارًا داخليًا هائلًا، صراعًا بين الحب والخوف، بين الأمل واليأس، بين الحياة والموت. لم يكن موجّهًا لله وحده، بل كان تحديًا للموت نفسه، وصرخة احتجاج على قدرٍ جائر، وصوت أمّ تواجه بضعفها جبروت السلطة وقسوة المصير.
مضت السنوات، كبرتُ أنا، لكن الندبة لم تندمل. ظلّ المشهد يسكنني كأغنية حزينة لا تخبو، يرافقني في يقظتي ومنامي، يُضيء حزنًا في أعماقي ويمنحني في الوقت ذاته دفئًا غريبًا، دفء الانتماء إلى حكايةٍ أكبر من ذاتي. صرت امرأة تحمل بين أضلاعها قلبًا موسومًا بذاك القسم، قلبًا يفيض بالحنين والألم والفخر معًا.
إن كنتُ قد نجوت من النذر، فإنني لم أنجُ من أثره. صرت شاهدةً عليه، ممهورةً بخاتمه، أحمل حكايته كروحٍ تتردّد في صدري، كدمٍ ينساب في عروقي، وكإرثٍ لا يزول. كنت قربانه، وكان هو قربان الوطن... بطلاً واجه الموت بصلابةٍ نادرة ليمنح للحياة معنى آخر.
وهكذا، بقيت صرخة أمي، مثل قنديلٍ في العاصفة، تضيء ما بيني وبينها، وتذكّرني أن الوجع حين يبلغ أقصاه، يتحوّل إلى تضحيةٍ لا تشبهها تضحية.



#سعاد_الراعي (هاشتاغ)       Suad_Alraee#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من رواية خلع خاتم الطائفية
- بين خيوط العزلة وسيف المصير
- من رواية، خلعُ خاتَم الطائفية
- قصة، طيف، على حدود العدم
- سلام عادل: سيرة إنسانٍ سبق الثورة (2 6) قراءة إنسانية في ملا ...
- سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة، قراءة إنسانية لسيرة بطل، ...
- سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة، قراءة إنسانية لسيرة بطل، ...
- سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة، قراءة إنسانية لسيرة بطل، ...
- سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة،(4) قراءة إنسانية لسيرة ب ...
- جدلية المقدّس والخراب في قصيدة -أقنعة المكائد- للشاعر طارق ا ...
- سلام عادل: سيرة إنسانٍ يسبق الثورة (3) الكونفرنس الثاني للحز ...
- قربان الأم... صرخة في وجه الموت
- الخطوط المشتركة بين غرو وكلاين فيما يتعلق بفلسفة العار وعقيد ...
- عندما يكون الفكر ثالثهم!
- سلام عادل: سيرة إنسانٍ سبق الثورة (2) قراءة إنسانية في ملامح ...
- سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة. قراءة إنسانية لسيرة بطل
- على حافة الأبوة... حين بكى الجليد-
- الهروب من الماضي: قراءة في رواية «بين غربتين» لسعاد الراعي د ...
- نرجسية الأديب والناقد: الوجه الخفي للتسلط في الحقل الثقافي
- جمعة عبد الله: معاناة بين قهرين في رواية -بين غربتين- سعاد ا ...


المزيد.....




- سلوم حداد.. تصريحات الممثل السوري حول نطق الفنانين المصريين ...
- جدل الفصحى.. الممثل السوري سلوم حداد يعتذر للمصريين بعد تصري ...
- السقا يفجر مفاجأة للجميع .. فيلم مافيا الجزء الثاني قريبًا “ ...
- تضارب الروايات حول اشتعال النيران في أسطول الحرية
- بسبب غزة.. 1800 فنان يتعهدون بمقاطعة مؤسسات الكيان السينمائي ...
- سوق المناخليّة.. حكاية حيّ يتنفس التاريخ
- ممثلون ومخرجون يتعهدون بعدم العمل مع مجموعات الأفلام الإسرائ ...
- محمد صلاح يثير الجدل بصورة -فيلم ثقافي-
- فنانون يتعهدون بمقاطعة مؤسسات إسرائيل السينمائية بسبب غزة
- فيلم إيراني يحصد جائزة في مهرجان البندقية السينمائي


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد الراعي - أنا القربان... قسوة التضحية