ماهر عزيز بدروس
(Maher Aziz)
الحوار المتمدن-العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 00:14
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تقرأ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية آيات الكتاب المقدس في موضوع الطلاق علي الخصوص قراءة مغلوطة ، وتفسر كلمات السيد المسيح بتخلف القرون المتوارثة عبر ركامات معرفية غارقة في الجهل .
فتفسير الكنيسة " للزني " في آيات " الطلاق " التي أعلنها السيد المسيح علي الجبل لا يدرك سوي فهم مشوش متعنت للكلمة، يتجاهل المعني اللغوي الصحيح لكلمة "زني"، ويغالط بشراسة لم تسبق في التمسك بالفهم الضيق القاصر للكلمة، ويتمترس بهذا الفهم عينه، فتدعي الكنيسة أن هذا الفهم هكذا هو لأنها لا يمكن أن تخالف الإنجيل ؟؟؟ بينما هو فهم يحطم الإنجيل تحطيما متواصلا مستمرا دون هوادة.
لا يفهم الإكليروس في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية عبر الزمن، منذ صعد السيد المسيح إلي السماء، وترك كلماته الخالدة تتردد بقوة في سمع الزمان، ويملأ صداها ثنيات القرون، لا يفهم الإكليروس القبطي كلمة "زني" سوي بمعناها الحرفي المحدود الذي يتعلق فقط "بذات الفعل" ، بينما المعني الكتابي الحق لكلمة "زني" يؤكد بقوة أنه "الخيانة" .. "الخيانة" بمعناها الشامل ، التي تتخذ في الزواج والعلاقة الشخصية المباشرة معني "خيانة عهد الزواج " .
فلطالما تحدث الكتاب المقدس عن "علاقة العهد المقدس بين الله والمؤمنين به" من الشعب بأنها "علاقة عهد وميثاق"، يسبغ الله بمقتضاه رحمته وحمايته ونعماءه علي أصحاب العهد معه، ويخلص فيه أصحاب العهد قلوبهم لعبادة الله، فإذا ما حنث المؤمنون بالله عهدهم معه، ومالوا عنه للسجود إلي آلهة الأمم، والتعبد لها، "خانوا عهد" قلوبهم لله .. "فزنوا" زناهم الفاحش .. "خانوا" "فزنوا" .. "خانوا" "زنوا" ، بخيانة عهد" التعبد لله".
و"خيانة العهد" هذه هي التي أطلق عليها الكتاب المقدس لفظة "زني" ، مؤكدا بما لا يدع مجالا للشك أن معني "الزني" ليس هو المفهوم الأوحد المحدود القاصر الذي لا يفهم الإكليروس غيره بأنه "ذات الفعل"، بل هو في جوهره "خيانة العهد"، أي "خيانة عهد الزواج".
وبذلك فإن زني "ذات الفعل" هو في حقيقته ليس سوي صورة واحدة محدودة "بخيانة الجسد" من صور "خيانة عهد الزواج"، التي تتعدد بطبائع الخيانة في الإنسان، لتشمل صورا أخري "لخيانة عهد الزواج" أكثر إيلاما وجرما من "خيانة الجسد"، وتظهر جلية في مفهوم يسوع الشامل المتعالي علي حرفية الفهم الضيق المشوه :
"فاستحالة العشرة" هي "خيانة لعهد الزواج"،
و"المعاملة الوحشية في الزيجة" هي "خيانة لعهد الزواج"،
و"الكذب والتدليس والخداع في أول العهد
بالزواج أو خلاله" هو "خيانة لعهد الزواج"،
و"إخفاء العجز الصحي والجسدي والمرض" هو "خيانة لعهد الزواج"،
و"الغش في تحمل المسئولية المادية والمعيشية" هو "خيانة لعهد الزواج" ..
وكل هذه الخيانات، وكل أمثالها من الخيانات، هي بحسب التعريف الكتابي الصريح "زني"، وهذا هو "الزني" الذي قال به يسوع، وهذا هو "الزني" المستوجب الطلاق.
ولقد أدرك المشرع القبطي في المجلس المللي الاستثنائي المستنير، الذي تشكل في الثلث الأول من القرن العشرين، الذي وضع اللائحة 38 ، وضم صفوة المثقفين والحكماء الأقباط، بمن فيهم حبيب جرجس (القديس بالمجمع الليتورجي القبطي)، وحبيب المصري (قطب العلم والثقافة الكتابية والكنسية العظيم)، الذين قادتهم قراءتهم الصحيحة لآيات الكتاب المقدس إلي فهم سليم غير مغلوط لكلمات يسوع في آيات الطلاق، فأقروا عشر حالات تتحقق فيها "خيانة عهد الزواج"، أي يتحقق فيها "الزني" الكتابي بحسب كلمات يسوع، وبحسب تفسير الكتاب المقدس ذاته للفظة "زني"، علي نحو صريح لا لبس فيه، وأقروا - من ثم - وجوب الطلاق الكنسي مباشرة فيها، متي وقعت هكذا في حياة الناس، حيث يتعين علي الكنيسة أن تسرع إلي إغاثتهم بمنحهم الطلاق فورا دون إبطاء.
لكن الزمان لا يمضي في طريقه مستقيما هكذا .. بل تأتي فيه أوقات يتغول فيها إكليروس علي كلمة الله، ويلوونها علي مقاصدها بهوي قلوبهم لعلة في نفس يعقوب.
هكذا جاء البابا شنودة الثالث ليحطم المعني الكتابي الصريح الذي أقره الأراخنة العظام في المجلس المللي الذي وضع اللائحة 38 ، ويدمر قول يسوع الذي أطلقه في "الطلاق" في موعظة الجبل، المثبت في الكتاب المقدس بمعناه الحق، الذي يمنح الطلاق "للزني" بمفهومه الصريح : "خيانة العهد"، وإذا بالبابا 117 يلغي اللائحة كلها، ويطرح مبدأه المخالف المغلوط بصياغته الدعائية المغلقة : "لا طلاق إلا لعلة الزني"، الذي صاغه بتمكن الكاتب المدرب، ليظنه الناس جميعا هو الآية في الإنجيل التي قالها يسوع .. وما قالها يسوع .. مباهيا بتشدد شعبوي صلد قاس، يرسم لشخصه في نظر الجموع الشعبية الغفيرة - المسبية به والمنقادة إليه - صورة البابا الحامي الأوحد للايمان، والمدافع الوحيد عن أقوال يسوع.
لكن المذهل أن البابا نفسه، الذي تشبث علي نحو فادح بمقولته المجافية للكتاب المقدس : "لا طلاق إلا لعلة الزني"، كان أول من خالفها عند تعرضه لوقائع حقيقية صادفته لتطليق زوجين بمعرفته الشخصية ، ولجأ بنفسه للائحة 38 التي قام بإلغائها وتحريمها علي الشعب، ليطبقها هو بنفسه فيما تصادف أن وقع بين يديه من وقائع الطلاق.
لقد طلق البابا شنودة الثالث فنانة شهيرة من زوجها لا لعلة الزني كما أطلق وبشر وتعصب، ولكن لاستحالة العشرة بينهما، مطبقا اللائحة 38 ، وضاربا بعرض الحائط مبدأه الذي نادي به وفرضه فرضا مستبدا - مستهينا بآلام الناس - علي جموع الشعب البائس المفعول به المستعبد الغلبان ..
ولقد طلق البابا شنودة الثالث سكرتيرته الخاصة من زوجها لا لعلة الزني كما أطلق وبشر وتعصب، ولكن لاستحالة العشرة بينهما، مطبقا اللائحة 38 ، وضاربا بعرض الحائط مبدأه الذي نادي به وفرضه فرضا مستبدا - مستهينا بآلام الناس - علي جموع الشعب البائس المفعول به المستعبد الغلبان.
فكيف - وقد رحل البابا الذي تمترس بالتشدد الكتابي ليظهر للناس جميعا بمظهر من يستمسك بآيات الإنجيل، فيعلو ويعلو بتأييد الشعب البسيط الطيب، الذي يصدق كلامه كأنه الله، بينما البابا يضرب آيات الإنجيل في مقتل، ويشوهها تشويها مقصودا - فكيف وقد رحل أن تستبقي الكنيسة شعاره المغلوط، وتبقي علي عذاب الناس الأبرياء ؟
وكيف - وقد رحل البابا الذي طير شعاره المغلوط للمسكونة كلها كأنه قول المسيح، ولم يستطع أن يطبقه ولو لمرة واحدة فقط، وطبق بدلا منه اللائحة 38 التي قام بإلغائها - فكيف وقد رحل أن تصر الكنيسة علي التمسك بشعاره المغلوط، مستهينة بملايين الشعب القبطي المعذب الذي ينتظر الخلاص، وكيف - وقد رحل - أن تؤكد الكنيسة علي نحو معاند دائما إلغاءها اللائحة 38 ، التي لم يجد البابا شنودة ذاته سواها ليطبقها في أحكام الطلاق، رغم إلغائه الظاهري لها ؟
ومتي تتسلح الكنيسة بشجاعتها الهاربة، فتسقط إلي غير رجعة هذه المغالطة العنيدة المستمرة، وتعيد للائحة 38 كرامتها المهدرة، وتطبق الحق والعدل المتألق فيها، فترفع عن كاهل الأقباط عبئا وجرما وعذابا مهولا، ما كان له أن يكون لولا تجبر بابا متصلب أصر علي إذلال شعبه باسم الله بهتانا وجورا.
ربما في خطورة المقال أو يزيد :
المقال لا يمس شخص البابا شنودة الثالث مطلقا، ذلك أن المقال محصور في الشعار الذي رفعه ضد الإنجيل، وضد كلمات يسوع، منتحلا علي يسوع ما لم يقله ولم يعلم به.
والمقال محصور أيضا في تعريف معني الزني مستخلصا من الكتاب المقدس .. وأكرر مستخلصا من الكتاب المقدس .. الذي هو مرجعنا الرئيسي في مواجهة أي مرجعيات أخري - قد يدعيها بعض الذين درسوا - ولا داعي أن يذكرنا بها أحد، فهي معروفة كلها لنا.
وينحصر المقال كذلك في إثبات أن البابا شنودة الثالث لم يطبق شعاره المرفوع مطلقا، لكنه طبق بديلا عنه - في حالات الطلاق التي أجراها بذاته - نفس اللائحة 38 التي ألغاها بتعنت غير مفهوم، فأورث العذاب والمهانة والحياة المدمرة لقطاع غير قليل من الأقباط، بمقتضي شعار لم يستطع أن يطبقه أبدا.
فعلي من يتصورون أنها فرصتهم الذهبية لتشتيت الموضوع، والدخول بغير مناسبة لتمجيد البابا، أن يتراجعوا علي الفور لأن المجال مختلف تماما ..
وعلي الذين بواقع تقديسهم لشخص البابا يتصورون أن ينبروا ليدفعوا عنه شبهة الخطأ فيطمسون الحقائق بالأكاذيب أن يمتنعوا ..
لقد هالني أحد الذين دأبوا يدافعون عن شخص البابا أن يشوه حقيقة تطليقه للفنانة الشهيرة بقوله : "إن التطليق جاء بعد زواج طليقها بأخري في لبنان - والفنانة لا تزال علي ذمته - فهو هكذا قد وقع في خطيئة الزني، وبالتالي حق للبابا أن يطلقها منه" ... لكن هذه تفاصيل كاذبة تبعدنا عن جوهر الموضوع، فالوقائع المسجلة التي عاصرناها جميعا كانت أن تطليقها حدث أولا، ورفع زوجها قضية علي البابا وكسبها .. فلا داعي للكذب في وقائع عاصرها كثيرون، وليست مجالا لافتعال عنتريات الدفاع ..
وهب أننا صدقنا الأكاذيب، ألا توجد حالة أخري عجز فيها البابا عن تطبيق مبدأه الخطأ، فاستعان باللائحة 38 التي لم يجد غيرها مرجعا يلجأ اليه في تطليق سكرتيرته ؟
إن حالة واحدة يسقط فيها البابا مبدأه الذي عذب به الملايين كألف حالة .. لا .. كملايين الحالات.. والمدافعون يمتنعون لأن المجال الآن ليس مفتوحا لأمثال هذه الترهات.
أخيرا .. لماذا الحساسية من شهادات التاريخ ؟ .. هذا تاريخ لا يمكن تبديله ، ولا يمس بالتأكيد شخص البابا الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وترك للكنيسة مآثر كريمة بقدر ما ترك لها من مآس مروعة.
#ماهر_عزيز_بدروس (هاشتاغ)
Maher_Aziz#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟