جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)
الحوار المتمدن-العدد: 8457 - 2025 / 9 / 6 - 10:38
المحور:
الادب والفن
رغم أني أقسمت بأن لا أتزوج بعد رحيل زوجتي المفاجئ ، و بأني سأُكرس حياتي لينعم إبننا ( علي ) بحياة أفضل ، إلا أني أمام الواقع الصعب ، وتكالب الأمراض على والدتي التي كانت ترعى إبني قد دفعاني الى أن أخلَّ بقسم الوفاء ، وأُقنع نفسي بأن حل مشاكلي يكمن في الزواج ، فتزوجت .
ذات يوم عدت مبكراً ، فلم أجده في البيت :
— أين علاوي ؟
يأتيني الرد جافاً :
— يلعب في الزقاق ..
— في هذا الحر اللاهب ، والعطش ؟!
— انه ليس قطعة ثلج حتى يذوب في الحر .
— يا امرأة الله يهديك . لم لا يلعب هنا في الظل ، وتحت أنظارك . إنه طفل صغير بحاجة الى من يراقبه ويرعاه . الرحمة حلوّة ..
كانت عاقراً فقدت كل أمل في الأمومة ، وكانت تكرهه ولا تطيقه . لا أدري إذا كانت الغيرة هي السبب ، أم أن وجوده أصبح يوقظ في داخلها شعوراً بالعجز لأنها لم تحقق لي ما حققته المرحومة ؟
أَخرج .. أراه يلعب وحده في الشارع تحت وهج الشمس اللاهب يبحث كقط جائع عن شيء يأكله ، وعن ظل صغير يتفيأ به . ألبث واقفاً ألاحقه بعينيّ من بعيد ، وأنا أبذل جهداً كبيراً حتى لا أبكي ، ولا أكف عن مسائلة نفسي هل هذه هي الحياة الأفضل التي وعدت بأن ينعم بها ؟ كان وجهه الحزين جافاً محروقاً يعلوه التراب ، ويملأ عينيه القذى ، و يتصبب جسده الضئيل عرقاً . يا الهي ، طفل صغير ، ومنذ الآن يعرف الحزن والهم .. أناديه :
— بابا .. علي ..
يلتفت .. يشهق مندهشاً . تُشرق ملامحه عندما يراني :
— بابا .. بابا ..
ينظر اليّ بعينين مدوَّرتين كعينيّ طائر . يأتيني مسرعاً . أُمسكه من كتفيه .. أحمله وأضمه الى صدري بقوة وأقبله . أحس بتسارع خفقات قلبه . أكش الذباب من على وجهه ، وأمسح العرق من على جبهته . تنفذ الى أنفي رائحة التراب الذي تعفر فيه أثناء التسكع . أشعر به خفيفاً كأني لم أكن أحمل شيئاً . أتحسسه في هلع يبدو كهيكل عظمي . يعانقني بحرارة . طفل ضعيف يبحث عن حضن آمن . ألمح على وجهه البرئ وجوماً لا يتناسب وطفولته . أُمور تحدث أمامه تتجاوز محدودية فهمه لا يجد لها في سنه المبكرة تفسيراً ..
— لماذا لا تدخل .. ؟ الشمس حارقة هنا .
يجيب بصراحة طفل :
— أخاف من ماما فخرية .. تضربني ..
— هل أنت جائع ، حبيبي ؟
يبتسم بخجل ويظل صامتاً . يغمض عينيه من أشعة الشمس .. يفركهما . أُلاعبه .. يفرح ويستجيب . يضحك من قلبه مسروراً . أدغدغه يقهقه عالياً . أُسايره في الضحك واللعب . يرخي رأسه على كتفي . يهدهد النعاس قواه المتعبة ، لكنه يقاوم ، ولا يكف عن الإبتسام .
أَدخل به الدار . يظل ملتصقا بي . يرتسم الخوف على ملامحه القلقة ، ويغطي على إبتسامته حين يرى ماما فخرية ، وعيناه معلقتين على شفاهها . ربما يتوقع منها زجراً أو تقريعاً ، أو ربما شتماً وضرباً ، لا أدري . أشعر برأسي يغلي ، ونيران كالجحيم تتأجج في صدري ، فأصرخ :
— إسمعي يا بنت الناس . بقائك في هذا البيت متوقف على بقاء إبني علاوي فيه ، مفهوم ؟
أَسقيه شُربة ماء بارد . أُدخله الحمام . أُحممه .. أتفاجأ بكم الأوساخ العالقة في جسده الصغير . أُغير ثيابه الوسخة بأخرى نظيفة . بدا عليه الارتياح والرضى كأني أعدت له الحياة ، ثم أُجلسه بجانبي على الغداء ، وهو صامت ، وبمجرد أن وزعت فخرية الأطباق حتى أجهز على طبقه على الفور ، لكنه لم يجرؤ على طلب المزيد . أُقاسمه صحني ، وأنا أداري خجله وحرجه بمزاحي ومداعباتي ، وإدعائي بأني شبعان . ربما شعرتْ فخرية بنوع من الذنب ، فأضافت الى ماعوني بضعة ملاعق . ألملم غيظي منها ، وأرمقها بنظرة إمتنان محايدة ..
وذات ليلة باردة ..
نمنا منطوين على جوعنا ، كنت تعيساً محبطاً . ليلتها لم أنم . على يميني علاوي .. جسم ضئيل منكمش على نفسه ، وعلى يساري فخرية تتألم .. مهمومة ، ربما تفكر بماذا سنأكل في الغد وكيف ، وكنت حزيناً علينا نحن الثلاثة . في هذه اللحظة انتبهت اليه . صغيراً نام دامعاً على جوعه . جزؤه الأسفل كان عارياً يتلاعب به البرد ، طبعت على جبينه قبلة ، وأبعدته عن الحائط البارد ، وغطيته بقمصلتي الثقيلة . تهاجمني الأحزان والهموم دون هوادة . الطفل يكبر ومسؤوليته تكبر معاه ، والأيام تمضي ، والصدر يضيق بما فيه .
زرعوا في وعيي منذ الصغر أن الفقر قدر من الله لا يحق لنا أن نعترض عليه . حجرة نوم واحدة ، وصالة فارغة شبه مهجورة ، ومطبخاً بارداً تعبث به الريح . هذا هو كل نصيبي من الفقر .. سيد ذلك الزمان وكل زمان .
— الولد كبر يا ياسين ..
— …………… !
— الصالة واسعة .. بامكانه أن ينام فيها ..
— أتريديني أن أرسل إبني الى الموت ؟ حرام عليك يا مرة .. إتقي الله . ما هذه القسوة ! المكان شديد البرودة ، ومخيف لطفل في سنه ، وأنتِ نفسك لا تدخلينه ..
— لكن المكان هنا ضيّق ..
الدار التي تلمنا بامكانها أن تتسع لقطعة لحم إضافية ..
— وجوده في الصالة أحسن له ولنا ..
أحس بحزن عميق . يتكور في داخلي حقد أعمى نحو الدنيا كلها . كنت أفكر .. لم أنم .. سمعتها تتمتم :
— الم تنم بعد ؟
— الدنيا قاسية ، يا فخرية ..
— الصبر .. المقدر والمكتوب ..
وفي تلك الليلة بعد أن قلّبتها في ذهني قررت أن أُطلعها على سري الذي كان يسكن صدري منذ زمن بعيد :
— لقد عولت على الرحيل . أصبح وجودي هنا مثل عدمه ، فأرض الله واسعة ، والسعي فيها واجب . سأبحث لنا عن فرصة أخرى للحياة .. رزق دائم ، وسقف آمن .
— أوف ياسين . إذا أراد الله أن يعطيك ، سيعطيك في أي مكان تكون فيه حتى لو كنت في بطن الحوت ..
— ليس هذا وقت الروحانيات . على كلٍّ لا يوجد في هذا البلد ما يغري على البقاء . حياة لا تطاق ، و وعود فارغة مليئة بالأكاذيب ، وكل شيء يأتي بعكسه ، ولا أدري الى أين يسير هذا البلد . المهم عليَّ أن أخوض غِمار البداية بدل النَدب اليائس الذي لا طائل منه ، وليكن ما يكون .
— صممت ، يا ياسين .. ؟
— لا أريد أن أظل رهين وعود خادعة لن تتحقق ، والعمر يجري بسرعة ، يا فخرية .. تعبنا .. شخنا ، ونحن لا نزال شباباً . الغريب أن لا أحد في هذا البلد يتّعظ بأن قوة المال المسعورة ، وقوة السلطة الغاشمة ستأتي عليهما لحظة يذوبان ، ويُصبحان أقل من لا شيء .. !
تجهد نفسها لكي تخبئ دموعها :
— وأنا والطفل أين سنكون وسط هذه الفوضى ؟
— انتِ في دارك ، وعلاوي سأعيده من الغد الى جدته ، وعندما أستقر سأعود وآخذكما .
— ومن يضمن لي عودتك ؟
— لا أحد ، لكن الذي أعرفه أني لا أستطيع فراق ولدي . سبق وأن قلت لكِ - إن كنتِ تذكرين - أن وجودكِ في حياتي مرهون بوجود علاوي .
— كأنك تتعجل الرحيل . الفراق صعب ، يا ياسين . لم يكن هذا إتفاقنا قبل الزواج . يبدو أنك خططت لوحدك ، ولم يبقى إلا التنفيذ ؟
— الحياة لا تمشي بالإتفاقات ، فخرية . كفى إستسلاما للفقر وعذاباته ، وكأنه قدر مقدر لا جدال فيه . أَلا ترين كيف نعيش بحدٍ أدنى من الحياة .. أقرب الى العدم ؟ لقد ضيعنا من العمر الكثير ، ولا زلنا لا نعرف ما الذي سيكونه شكل غدنا . لا طاقة فيَّ بعد لمزيد من التحمل . والآن يكفي .. الليل في أواخره . لم يبقى شيء يستحق أن يُقال . تصبحين على خير .
يتركها تبكي في هدوء ، ويعود الى جحيم نفسه . حديث موجع أَطار النعاس من عينيه . يلبث وقتاً يتقلب في الفراش ، والأفكار الحزينة تتزاحم في ذهنه حتى أخذه النوم بسلطانه بعيداً .. !!
( تمت )
#جلال_الاسدي (هاشتاغ)
Jalal_Al_asady#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟