جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)
الحوار المتمدن-العدد: 8434 - 2025 / 8 / 14 - 09:50
المحور:
الادب والفن
فيضٌ من بهجة . وجوه تنضح بالسعادة والمرح ، وحقائب قد حُزِمت إستعداداً للسفر الى الشمال هروباً من حر آب اللّهاب . يأتي صوت الزوجة الآمر الى إبنها بأن يجمِّع نبات الظل في مكان واحد يسهل سقيه ، ثم تخاطب زوجها متسائلة :
— لمن نعطي مفاتيح البيت ؟
— لم لا نأخذها معنا ؟
— لا يمكن .. لابد من شخص يسقي الحديقة ، والأصائص وإلا ستموت . لا تنسى قد يمتد بقائنا الى نهاية آب ..
— ما رأيكِ في أن نعطيها الى جارنا ، أبو غايب ؟ يقولون عنه رجل طيب صايم مصلي ، ولن يرفض لي طلباً .
— الحق أنا لا أرتاح لهذا الرجل ولا ينزل لي من زور .
— على أي حال ، لن نجد من هو أكثر أمانةً منه هذه الأيام .
— لكن شدّد عليه أن يسقي الزرع مرتين في الأسبوع ، وأن لا يُكثر من الماء لأن كثرته تُؤذي الزرع ..
— هل هو فلاّح في بيت الخلفوني .. خُلف الله عليه يؤدي لنا هذه الخدمة ( برهة صمت .. ) ، وماذا عن بقية الأبواب ؟
— ما دمت مطمئناً لأمانته اتركوا كل شيء على طبيعته حتى لا يقول يخونوني .
الكل يذعن لأوامر الزوجة بما فيهم الزوج اللواء المتقاعد ..
وفي لحظة السفر يضع الزوج مفاتيح البيت في كف أبو غايب الذي تمنى لهم سفرة سعيدة ، وعودة آمنة .
لم تمضِ سوى يومان حتى يتسلل أبو غايب الى البيت يفتح صنبور الماء على حديقة واسعة تتوسطها نخلة عملاقة . تتعانق فيها أشجار الرمان والتين والعنب ، وتنتشر حولها أشجار الحناء نافثةً روائحها الطيبة ، ثم يدلف الى البيت ليسقي الأصائص ، وحين يدخل تتسمر قدماه عند الباب مصعوقاً .. أثاث فاخر . ستائر حديثة . اكسسوارات راقية ، وحيطان مزينة بلوحات ثمينة تتوسطها صورة بالحجم الطبيعي للزوج واقفاً بلباسه العسكري عندما كان ضابطاً برتبة لواء مع الرتب والنياشين .
يقول بعقل غائب مأخوذاً بما يرى :
— ما شاء الله .. لو هكذا الحياة لو ماكو !
يشعر بوخزة حسد ، وغصة بطعم المرارة . يواصل جولته في الغرف ، لكنه يقف عند غرفة النوم ولا يدخلها . يتمدد على كرسي الراحة . يشعر بألفة مع المكان كأنه في بيته . يغمغم في صوت ناعس متثائباً :
— لا شيء الآن يعوض تعميرة من النرجيلة مع استكان شاي سنگين منعنع ، يا الله ما هذه الجنة !
يلامس الخدر عينيه . يهز رأسه ليطرد عنه النعاس ، ثم ينتفض خشية أن تسرقه إغفاءة مفاجئة . ينظر الى ساعة الحائط . لقد مضى على وجوده أكثر من ساعة . يغادر قبل أن تفتقده زوجته . يقفل صنبور الماء وهو خارج ، ويعود الى بيته مشغول الفكر .
وفي اليوم التالي ..
ينتظر حتى يحل الظلام . يختلس الخطى كأنه لص الى بيت اللواء ، واضعاً نصب عينيه غرفة النوم ، والعجب أن يجد كل الأبواب مفتوحة . وما أن يدخلها حتى تهب على مناخيره المتصحرة رائحة طيبة . تبرق عيناه الفارغتين عندما يرى ( الكنتور ) غاصاً بالبدلات والقمصان وأربطة العنق وأنواع العطور والساعات ، وكلها من الماركات العالمية ، ورغم أن البدلات تبدو واسعة ، إلا أن ذلك لم يمنعه من تجربتها الواحدة بعد الأخرى ، لكن أكثر ما أثار إعجابه قميص من الحرير نصف كُم مزركش بالوان وصور من النوع الذي يرتديه سكان هايّتي . يسحبه من مكانه ويرتديه يجده مناسباً تماماً ، ربما اقتناه اللواء عندما كان شاباً يافعاً قبل أن تُفسد البدانة مظهره ، فيصبح رخواً ذا كرش منتفخ ، ووجه مكتنز .
يتسطح على الفراش الوفير ناسياً نفسه ، وهو لا يزال مرتدياً القميص غارقاً في نصف إغماضة . يقطع عليه نشوته طرقاً متواصلاً على الباب ، يقفز من مكانه كأن عقرباً لدغه . يبلغ به الخوف والاضطراب نهايتهما ، يجفف جبينه من العرق رغم لطافة جو التكييف ، يا لها من حوسة ! يتذكر بأن ثمة نافذة مفتوحة على الحديقة ، يجري مسرعاً نحوها يُطل منها . لم يرى أحداً ، لكن الطرق لم يتوقف ، يا الهي مالعمل الآن ؟ ترتعد فرائصه لمجرد التفكير في أن يكون الطارق أحد أقارب اللواء ، فماذا سيقول وكيف سيبرر وجوده في البيت في هذا الوقت من الليل ؟ يقفز مسرعاً يعيد هذا ، ويرتب ذاك ، وبعد أن انتظم كل شيء ، يسمعها تهتف :
— إفتح عليك الأمان ..
يعرفها من صوتها الجاف المبحوح . إنها زوجته . تهدأ مخاوفه . يندفع الى الباب يفتحه ، ويسحبها بقوة الى الداخل ، ويعيد غلقه بسرعة ويهمس : فضحتينا .. صوتك !
— أنا التي فضحتك ؟! ما هي حكايتك بالضبط يا رجل ؟ ثم ما هذه الثياب الغريبة التي تلبسها ؟
يضع يده على فمها : شششش تعالي تعالي .
يقودها من يدها الى غرفة النوم . تضع يدها على فمها لتكتم صرخة دهشة . تقف مصعوقة ، ما هذا يا ربي ؟! تمصمص شفتيها وتتمتم بغيرة وحسد :
— لو هذا الحظ لو ماكو ، يا وعدي على حظي الردي ذهبت سنين عمري بلاش مع وجه النحس والهم .
تقارن بين هذا السرير الملوكي ، وبين سريرهما البارد الذي يشبه التابوت ، تبدو الخيبة واضحة على ملامحها ، ثم كأن ما حدث لزوجها انتقل اليها ، فأخذت تقلّب في ملابس زوجة اللواء وأكسسواراتها وعطورها وساعاتها مبهورة ناسيةً نفسها هي الأخرى . تهمس كأنها تحادث نفسها ، فيخرج صوتها حزيناً منكسراً :
— ونحن المسكينات التعيسات لا نلبس إلا الأسود مثل الغربان .. !
تُصدر آهة حارة . تنزع الحجاب الأسود والعباية الرثة وثوبها العتيق . تقف منتصبة بسروالها الداخلي ، وبشعرها الناعم المنسدل على كتفيها . يتفجر جسدها الأبيض ، ثم تنهمك في ارتداء ثوب نوم شفاف من الحرير ، وردي اللون ناعم الملمس تفوح منه رائحة زكية ، ويرتفع فوق ركبتيها بمسافة شبر . يعلق أبو غايب مبهوراً ، وهو هائمٌ في تفاصيل جسدها الريان :
— يا الله ما أجملكِ .. !
تدور حول نفسها مزهوة . رشيقة كفراشة ، مستعرضة نفسها أمام زوجها . ترتخي قسماتها . تعلق ابتسامة طفولية على ثغرها وتردد : ترام ترااام . تبدو جميلة ومثيرة وسعيدة ، لم يتمالك صاحبنا نفسه . يغادر مكانه ، ويقترب منها . يميل نحو أذنها ، ويوشوشها بصوت تخنقه الرغبة :
— ما رأيكِ .. ؟
وهو يشير الى السرير بطرف عينه . يداعبها ويتضاحكان . تتشابك أيديهما ، وتتلاحق أنفاسهما ، ثم يدخلا في لحظة الجّد . يلقيا بنفسيهما على الفراش الوفير ، وعندما تسللا عائدين الى بيتهما ، وقد بلغ بهما الإعياء منتهاه كانا يلهثان .
وتنتهي العطلة ..
وتعود الأسرة الى بيتها . يراود الأم إحساس بأن شيئاً غامضاً قد مرَّ من هنا ، لكنها لا تعرف ما هو ، وتمشي الحياة ، لكن صراخ الأولاد لم يتوقف . تبدئه هديل : أين فستاني النيلي ، ماما ؟ ويسأل ليث أمه عن دشداشته التي جلبتها له من العمرة العام الماضي ، ويدمدم رامي : أين ساعتي ؟ نسيتها هنا قبل سفرنا .
يخرج الزوجان عصراً في سيارتهم الفخمة التي تنطق بالعز والجاه والثروة هاربَين من كآبة البيت ، وبينما هما في الطريق يصرخ اللواء فجأةً :
— أنظري أنظري .. أليس ذاك جارنا أبو غايب ؟
تلتفت مشمئزة لمجرد سماعها بالأسم ، فتراه يمشي على طوله متبختراً .. تتساءل بلا مبالاة : ما به ؟
— كيف ما به ، ألا ترين انه يرتدي قميصي الذي اشتريناه من اليونان في بداية زواجنا .. قميصي الهايّتي ، ألا تذكرينه ؟ افتقدته قبل أيام ، لكني لم أشك لحظة بأن يكون أبو غايب قد سرقه ..
— مادمت قد فتحت الموضوع . أنا الأخرى فقدت مجموعة من سراويلي الداخلية مع سيت نوم وردي ، وربما أشياء أخرى لم أفطن لها بعد . قل لي هل ستترك خائن الأمانة هذا ينجو بفعلته .. ؟
— وماذا عساي أن أفعل ؟ هل أذهب اليه وأقول له مثلاً لماذا سرقت سراويل زوجتي الداخلية ؟ لا لا الخطأ فينا ستّي . نحن من وضعنا أمامهم أشهى الأطباق ، وهم المحرومون المنسيون ، ونريدهم أن لا يمدوا اليها أيديهم .. هُراء ! والجائع يا زوجتي العزيزة ، تجذبه رائحة الشواء ولو من بعيد . لا تنسي أن الفوارق في مجتمعنا إتسعت ، والأحقاد إزدادت . ربما يعتبرون ما أخذوه حق لهم .
الصدق .. ( منتقداً قرارها الخاطئ بترك الأبواب مفتوحة .. ) كان من المفروض أن نُقفل على خصوصياتنا ، وأن لا نضعهم ، وأنفسنا أمام هذا الموقف البايخ . الحمد لله أنها جاءت على هذه الأشياء البسيطة . أنا عني وعنكم أَبريه الذمّة ، وبالعافية عليهم ، والنفس مهما علت ، فهي أمارة بالسوء ، إلا أن ربي غفور رحيم .. !!
( تمت )
#جلال_الاسدي (هاشتاغ)
Jalal_Al_asady#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟