جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)
الحوار المتمدن-العدد: 8400 - 2025 / 7 / 11 - 16:20
المحور:
الادب والفن
لدي أشياء كثيرة أريد قولها ، لكن صفائي الذهني بدأ يخذلني ، ولم أعد قادرة على التركيز لإنشغالي هذه الأيام باجراءات الطلاق ، وضم بنتي روعة الى حضانتي .
رغم كل ما جرى بيني وبين طليقي وليد ، إلا أن رائحة أيامنا ومذاقها اللاذع لا يزالان عالقين في ذاكرتي . أيامٌ تركتُ فيها بعضاً من سعادتي ، وبعضاً من ألمي ، وبعضاً من شهوتي ، والكثير من أحلام نسجناها معاً على بياض .
دعوني أفكك حكايتي ، وأبدئها من أولها حتى تكون مفهومة ومستساغة :
نشأتُ في أسرة معروفة بثرائها ، ونمط معيشتها الباذخ ، و هو سليل أسرة عمالية عريقة . جمعتنا صدفة قدرية غير مفهومة .
في بداياتنا شعرت بأن وجوده معي كان يريحني ، ويسعدني أكثر من أي شخص آخر ، وبتوالي اللقاءات أصبح مصيري ملازماً لمصيره ، وأن يومي وغدي سيكونان له وحده .
أمامي الآن حرباً تستحق أن أخوضها بكل ما أملك من قوة ، ويجب أن أنتصر فيها . كان خصمي الوحيد فيها أبي الذي رفض رفضاً قاطعاً ارتباطي بوليد :
— سارة بنتي أنت تربيتي في بيت عز وخير ودلال ، وهذا الرجل لا يملك شروى نقير كما يُقال . لا يستطيع أن يلبي أبسط متطلبات الحياة الرغدة التي تعودتِ عليها . أخشى أن يكون من الرجال الطامحين الحالمين الذين يسيل لعابهم لثروة أبيكِ ، وليس حباً فيكِ . أرجوكِ لا تغلّبي العاطفة على العقل ، فليس بالحب وحده يحيا الانسان . أقول هذا حباً فيكِ وخوفا عليكِ .
لقد لامست كلمات أبي ما كان في قلبي من ذعر بأن وليد ربما يريد الزواج مني طمعاً في ثروة أبي . كنت خائفة وقلقة وحزينة أيضاً ، لكني لم استطع منع نفسي من مواصلة الهجوم على أبي بكلمات لا أدري كيف خرجت ، ربما لخوفي من أن أتحمل تبعات قراري لوحدي بعد أن أدى أبي ما عليه . قلت كأني وصلت الى أقصى حدودي في التحمل :
— ثروة أبوكِ .. ثروة أبوكِ . سيضيع عمري بابا ، وأنا أسمع هذا الموال الممل . ما ذنبي أنا إذا كان كل الذين يتقدمون لخطبتي من الفقراء ؟
كنت أستند في هجومي على حجة قوية ، فأنا تخطيت الخامسة والثلاثين بأشهر ، ولا أملك من الجمال إلا قليله أمام رجل أربعيني وسيم ، والأهم أني أحببته ، و وجدت فيه ربما ملاذي الأخير بعد أن تراجعت حظوظي في الزواج الى الصفر تقريباً بسبب رفض أبي المتكرر ، وسوء ظنه في نوايا العرسان .
رضخ أبي أخيراً لخياري مجبراً ، وتزوجنا .
ومرت أيام الزواج الأولى حلوة ولذيذة . استهوتني روحه المرحة التي كانت تملأ البيت بالحميمية التي تُعطي لكل شيء نفعله معنى وذاكرة . كان كلما شاهدني منهمكة في المطبخ ، أو واقفة على المغسلة يطوقني من ظهري مطلِقاً وشوشاته الناعمة في أذني ، ثم يترك يداه تتسللان الى عمق صدري ، فأزداد اشتعالاً ، وما إن يتأكد بأنه قد أحدث شرخاً في مقاومتي الهشة حتى يسحبني من يدي بلطف الى الفراش . كنت سعيدة ، ورأسي ممتلئة بأشياء حالمة جميلة ، ولم أكن بحاجة لمن يشككني في صحة إختياري ، رغم مخاوفي من القادم التي لم تفارقني .
إكتشفت مع مرور الأيام بأن أفكارنا ، وتطلعاتنا ، وأحلامنا لا تشبه بعضها ، فسقطنا كالكثير من الأزواج في فخ الاختلافات والروتين القاتل الذي أطفأ كل أشيائنا الجميلة ، وحول حياتنا الى مجرد جولات كئيبة شبه صامتة بين الأسواق والمولات بسيارته القديمة لا نتحدث إلا بالعموميات ، أو الجلوس في البيت أمام التلفزيون نشاهد مسلسلاً تركياً معاداً ، ثم عشاء في صمت ثقيل ، وبعدها ننكفيء في الفراش نعطي ظهرنا لبعض ننام ، ونحن غارقان في وحدة رمادية قاتلة .
كنت أتمنى في قرارة نفسي أن تَصدُق نبؤة أبي بأن يكون وليد فعلاً طامعاً في ثروته ، لكن المفاجئة التي لم تخطر على بال حينما رفض وليد أية مساعدة سواء كانت من أبي ، أو حتى مني أنا زوجته وشريكة حياته ، وأصر على أن نعيش براتبه وراتبي حياة كفاف من اليد الى الفم سماها بالنظيفة .
تصوروا حالي وأنا أرى أخواتي وأزواجهن ، يعيشون عيشة ملوك .. بيوت فخمة ، سيارات حديثة ، فسحات ، مطاعم ، سفر ، وأنا أتحمل آلام الضنك في بيت صغير بسيط لأن الأفندي زوجي لا تسمح له رجولته أن يمد يده لأحد .
ثم جاءت ابنتنا روعة التي أضافت بوجهها الصافي كقطرة ماء سلسة الى بيتنا حياة أخرى ، وأنستنا مشاكلنا ولو مؤقتاً ، لكنها زادت من أعباء وليد المادية ، واضطرته الى أن يعمل عملاً إضافياً ليغطي مصاريف الضيف الجديد .
انهالت عليها الهدايا بعضها عيني ، وأكثرها نقدي من أهلنا وأصدقائنا وزملائنا في العمل . لم يتدخل وليد كأن الأمر لا يعنيه . إكتفي بأن قال : إفتحي لها حساب خاص في البنك .
لم أتمالك نفسي أكثر فانفجرت :
— حبيبي وليد ألا تشعر بما أشعر به من أن علاقتنا قد بدأت تتصدع ، وتنحدر بوتيرة مخيفة نحو المجهول ، و إن سعادتنا قد بدأت تنزلق من بين أصابعنا ، ألا يجدر بنا إيجاد حل بدلاً من كنس مشاكلنا تحت السجادة ، وتركها تتفاقم الى ما لا تحمد عقباه . استمرار حياتنا بهذه الوتيرة من الزهد الصوفي الغير مبرر بات مستحيلا لأنه يستدعي أن يكون أحدنا تابعاً الى الآخر ، ومؤمناً بوجهة نظره تماماً ، ومن ناحيتي فقد حسمت أمري باستحالة قبولي بحياة تفرضها عليّ دون مبرر معقول ، إلا اللهم عنادك الذي يكاد يخرجني من تعقلي ، وتمسكك بقيم مثالية لم تعد صالحة لهذا الزمان .
يتفرسني بنظرة غريبة ، و يرد بانفعال :
— طيب طيب فهمت ، كأني أشم رائحة نيّة مبيتة . أنا لم أخدعك ، يا بنت الحلال . أطلعتك منذ البداية على وضعي المادي ، وأنتِ وافقتِ .
— أرجوك خلينا في الآن . أنا زوجتك ومالي مالك . قل لي بربك ، ماذا أفعل بهذه الأموال المجمدة في البنوك إن لم يكن هذا يومها ؟
— نعم زوجتي ، وأم بنتي ، وحبيبتي ، وكل شيء ، لكن فيما يتعلق بمالك الخاص لا . هذا أنا ، وهكذا تربيت ، ولا تتوقعي مني أن أتغير يوماً ، وأنتِ حرة .
كلامه ألهب مشاعر العناد الموروث عندي ، وزاد من يقيني باستحالة تغييره . كلما توغلنا في الزمن زاد الشرخ بيننا اتساعاً ، وأصبح من المستحيل رتقه ، وبعد سنوات من الخيبات والانكسارات تغير شيء ما في العمق نحو الأسوأ طبعاً ، وزاد عندي الحنين الى أيام أبي .. أيام العز والخير والرفاه والسفر والهواء الطلق . لا من أجلي فقط ، وإنما من أجل ابنتي ، أغلى هداياي في الدنيا ، أيضاً . وفي خضم محنتي هذه كنت أحوج ما أكون الى حضن أمي ، الله يرحمها ، ورجاحة عقلها .
لم يبقى أمامي من خيار إلا الفراق رغم صعوبته ، لاسيما وأن كل شيء كان يسير بوتيرة مخيفة لا يترك لنا مهلة كافية للتفكير ، والتأمل ، والإنتظار . قد يكون هذا الذي يجرى بسرعة مذهلة لا معنى ، ولا تفسير منطقي له إلا الجنون بعينه ، لا أدري .
الغريب أنني عندما فجّرت القنبلة في وجه الجميع ، ولم يعد الأمر سراً ، ذهبتُ الى أبي تسبقني دموعي ، وجدته جالساً قلقاً كأنه كان ينتظرني ، وعندما أخبرته عن نيتي بالإنفصال ، وبأني سأكرّس البقية الباقية من حياتي لبنتي ، حاول عبثاً أن يثنيني عن قراري ، ولما قرأ الإصرار في عينيّ ، هزّ رأسه متأسفاً . لمست منه تراجعاً واضحاً ، ثم فاجأني بكلام أدهشني ، وقذف بي أياماً في أحضان الحيرة أُدقق في معناه :
— خسارة .. إنكِ ، يا بنتي بتسرعكِ هذا تضيعين من يديكِ رجلاً حقيقياً .. !!
( تمت )
#جلال_الاسدي (هاشتاغ)
Jalal_Al_asady#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟